عقد جاريد كوشنر صهر الرئيس ترمب ورشة المنامة لإعلان الجانب الاقتصادي مما يسمى صفقة القرن، بحضور عربي ودولي منخفض المستوى.
تكرر عدة مرات تأجيل الإعلان عن "صفقة القرن"، وما تحويه من بنود، الأمر الذي سبّب إحراجاً شديداً لرعاتها، ابتداءً بجاريد كوشنر الذي يترأس لجنة الإشراف عليها، فلجأ إلى التمهيد لها بعقد "ورشة اقتصادية دولية" في المنامة عاصمة البحرين. وقد وجد أن من الأفضل التمهيد بالاقتصادي ليعبّد الطريق أمام السياسي في "صفقة القرن".
من هنا وُلدت فكرة "ورشة المنامة"، وكان المطلوب منها تخصيص خمسين مليار دولار تتحول إلى مشاريع يفيد منها الفلسطينيون، والدول التي ستتحمل القسط الأكبر من توطين الفلسطينيين، وتأمين "الرخاء" المعيشي لهم. مما يجعلهم يقبلون بما تحتويه "صفقة القرن" سياسياً، ولو تضمنت تنازلهم عن حقوقهم في فلسطين، وتصفية قضيتهم.
وقد جاءت هذه الخطوة التمهيدية بعد جسّ نبض الدول العربية المعنية حول الدور الموكول إليها في "صفقة القرن"، فلم تجد قبولاً بل وجدت معارضة، لأن تطبيق "صفقة القرن" سيهدد الأنظمة المعنية: الأردن أولاً ومصر ثانياً، ناهيك بلبنان الذي لا يقبل ببحث موضوع التوطين أصلاً.
ودخل جسّ النبض المذكور أزمته الخانقة الحاسمة عندما وصل إلى منظمة التحرير، مقدّماً لنفسه، بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ضمّ القدس إلى دولة الكيان الصهيوني، واعتبارها عاصمة لها، مما فرض قراراً رسمياً فلسطينياً، طبّقه الرئيس محمود عباس، بمقاطعة أي لقاء رسمي بأمريكا. ولم تعُد أمريكا في نظره (المتأخر جداً) وسيطاً صالحاً لرعاية حلّ للقضية الفلسطينية يقوم على مبدأ حلّ الدولتين.
بهذا دخلت "صفقة القرن" أشد مآزقها عزلةً وضعفاً، إذ أصبح الفلسطينيون موحَّدين ضدها، في وحدة لم يسبق أن قامت مثلها وحدة فلسطينية. ولو كان لدى كوشنر قليلٌ من الذكاء والخبرة السياسية لاعتبر موضوع "صفقة القرن" منتهياً ما دام المعنيّ الأول ومعه المعنيون الآخرون، قد رفضوها منذ جسّ النبض.
ولم يجد من يقف معه إلاّ أربعة: محمد بن راشد (أبو ظبي)، ومحمد بن سلمان (السعودية)، وملك البحرين ووزير خارجيته (البحرين). ولكن حتى هؤلاء أتوه طلباً لحمايته لهم، فيما يريدهم أن يكونوا حماة، أو حملة مشروعه، فكأن حال الطرفين، كما يقول المثل "التقى المتعوس مع خايب الرجا". ومَن أتعس من الذي يسند ظهره إلى حائط مائل؟
أُريدَ من "ورشة البحرين"، أو "ورشة المنامة"، أن تشكّل المدخل الاقتصادي لتمهيد الطريق للبعد السياسي من "صفقة القرن"، وذلك على الرغم من عدم إعلانه بعد، وربما قبل أن يُصاغ أيضاً.
ولكن، منذ البداية، وهي بعد في وضعية التحضير، تَبيَّن أن "الجبل تَمخَّض فولّد فأراً". وهذا المثل لا ينطبق، عادة، إلاّ على ما يُزعم أنه كبير جداً، فإذا به يُخرج صغيراً تافهاً.
وهو ما دلّ عليه حضور المشاركين في الورشة من حيث العدد، أو من حيث مستوى التمثيل، أو من جهة ما تَعرَّض له البعض، من ضغوط أمريكية هائلة من أجل أن يَحضر فقط، ولو بأدنى مستوى من التمثيل، ولو من دون أن يُسمَع له صوت داخل الورشة.
وبالفعل لم يُسمَع عن مداخلات دارت داخل الورشة. ولم يُعرَف عنها من نتائج، ولم يصدر حتى بيان إنشائي. ولم يُسمَع عن الندوة إلاّ تصريحات أطلقها جاريد كوشنر وعد بها الفلسطينيين بحل مشكلة البطالة من خلال مشاريع اقتصادية، بخمسين مليار دولار تجمعها الورشة، لتوزَّع على مصر والأردن ولبنان. وتشغل "ملايين" الفلسطينيين فيغرقوا في "الرفاه" فيتنازلوا عن قضية فلسطين ويُنهُوا علاقتهم بفلسطين.
بهذا تكون "ورشة البحرين" قد صنعت المعجزة الاقتصادية التي ستنهي كل عقبة سياسية تواجه "صفقة القرن". ولكن على الرغم من هذا السخف، ومن حيث أتى، فإن "ورشة البحرين" لم تعلن عن جمعها للمبلغ، أو عمّن تَعهَّد، وبكم، ولا عجب لو سأل صحفي إن كانت الورشة قد عُقدت فعلاً بعد إلقاء جاريد كوشنر خطابه، وهل اكتفى من حضروا بالوجود ليوم واحد أو يومين في الفندق. وإن لم يكن الأمر كذلك. فهل كانت ورشة سريّة، وما حصل داخلها، وما نتج عنها بقي شديد السريّة.
لا شك في أن "ورشة البحرين" سجلت فشلاً وفضيحة.
على أن جهالةً وراء الفكرة التي تحدثت عن الخمسين مليار دولار، لرشوة الفلسطينيين من خلال إغرائهم بالرفاه الموعود. فجاريد كوشنر ومن ورائه جيسون غرينبلات والسفير ديفيد فريدمان لا يعرفون أن الشعب الفلسطيني لا يتخلى عن فلسطين مقابل أموال الأرض جميعاً. ولا يعرفون أن الشعوب العربية والإسلامية لا تقبل أن تقايض بمبلغ خمسين مليار دولار وأضعافه بلاطة واحدة في ساحة المسجد الأقصى.
إذا كانت فكرة "ورشة البحرين" لا يمكن أن تصدر عن جهل مطبق إلى هذا الحد، فلا بد من أن يكون وراءها نصّاب يريد أن يفيد شخصياً مع عصابته من المليارات المقترحة، ولمَ لا يفعل من مثله ومثل مستشاريه ما دام في الخليج من يهدر عشرات المليارات، وأكثر، بلا حساب، طلباً لحماية ترمب له ولنظامه؟