لم تكن نظريات علم الاجتماع المصدر الوحيد في خلق وتطوير الآراء حول الثقافة وانما هناك مؤثر آخر يتمثل بالتقاليد الفكرية السائدة والتي بدورها تأثرت بميادين اخرى كالنقد الادبي. هذا الاتجاه سمي بثقافة وتقاليد الحضارة culture and civilization tradition(1).
ان ما نقصده بالتقاليد هي محاولة تقييم مختلف الثقافات تماما كما يقوم الناقد الادبي بتقييم اهمية وعلمية مختلف الكتب. كان الاتجاه التقليدي هذا خطيرا في نقده للثقافة الشعبية . وممجدا لقيمة الثقافة العليا بينما يعطي قيمة اقل لثقافة العامة . ان الاتجاه الحضاري التقليدي بشكل عام يدعم الميول النخبوية في الثقافة والتي ترى ثقافة الجماهير هي ادنى قيمة من ثقافة النخبة. وتعبير الثقافة العليا يواجه خطرا ويتجه نحو الانحدار. ان العديد من الكتاب يطرحون اسبابا مختلفة لتدهور الثقافة. لقد برز الاتجاه الحضاري التقليدي من اجواء القلق التي رافقت مظاهر التصنيع والتمدين urbanization والحداثة في القرن التاسع عشر . فالتغيرات الكبيرة التي احدثتها الثورة الصناعية قادت الى حالة من القلق الحاد حين اصبحت المظاهر الجميلة تحت التهديد.
ويرى جون ستوري ان اسباب القلق تلك تعود الى ظهور الثقافة المتميزة للطبقات الخاضعة. فالطبقة الصناعية في المدن النامية كان بامكانها خلق ثقافة مستقلة بعيدة عن تدخل الطبقة المسيطرة. فالتصنيع والتمدين اعاد رسم الحدود الثقافية، فلم يعد هناك ثقافة مشتركة مع الثقافة القوية وانما اصبح ولأول مرة في التاريخ وجود ثقافة منفصلة للطبقات الخاضعة في المراكز الصناعية والضواحي.
الثقافة (دراسة الكمال)
يُعتبر ماثيو ارنولد (1822-1888) من أشهر كتاب الثقافة والحضارة، فهو كان شاعرا وناقدا ومدرسا في احدى المدارس. الا ان اهم اعماله هو كتاب (الثقافة والفوضى) الذي صدر لاول مرة عام 1869 واعيد طبعه عام 1960. يرى ارنولد ان الثقافة هي دراسة الكمال والتي من شانها ان تقود الى كمال متناسق لكل جوانب انسانيتنا ثم الى كمال عام بتطويرها لكل اجزاء المجتمع. والناس يصبحون مثقفين باتباعهم طريق الكمال.
يرى ارنولد ان متابعة طريق الكمال لم يعد هو الشائع في بريطانيا في القرن التاسع عشر، فالناس اصبحوا ماديين الى حد كبير ويهتمون كثيرا بالماكنة والانتاج، لقد وصف ارنولد قداسة الماكنة وتحدث عن خطورة المساواة بين الحضارة والثروة المادية. فالثقافة الحقيقية يتم اكتسابها فقط بمعرفة جميع المسائل التي تهم الناس وكذلك معرفة افضل ما قيل وافضل المعتقدات في العالم، حيث من خلال المعرفة يتم تحويل روافد من الافكار الحرة والجديدة الى ما لدينا من مخزون من العادات والافكار. وحين يدرس الناس ارقى انواع الشعر والادب سيصبح بمقدورهم تطوير انسانيتهم ليصبحوا قريبين من الكمال، وبذلك سوف يدفعون مجتمعهم نحو الاحسن. ان القراءة تعتبر هي المفتاح في كل ذلك. يقول ارنولد ان حياة الانسان في كل يوم تعتمد من حيث قيمتها وتماسكها على ما يقوم به من قراءة او عدمها، وكذلك على نوع الشيء الذي قرأه. حيث ان بعض القراءات اكثر قيمة من غيرها وان الذوق الشعبي للقطاعات الواسعة من السكان هو بالتأكيد غير مثقف. فالطبقة العاملة في الضواحي هي اساس الخطورة وهي تشكل المجموعة الاجتماعية غير المثقفة فهي فقدت احترام ومراعاة سلّمها الاجتماعي والحّت على عمل ما تحب وهذا قاد الى احتجاجات سياسية خطيرة وخلق اجواءً هددت بالانحراف نحو الفوضى التي من شأنها ان تحطم الحضارة والثقافة. يصف ارنولد ما حدث بقوله (أعداد من الرجال في جميع انحاء البلاد يبدأون في التحدي وممارسة حقوق الرجل الانجليزي بعمل ما يحب وحقه في التظاهر متى ما يحب وبالاجتماع والتمرد والتهديد وتحطيم الاشياء كيفما يشاء).
ان الحل لمشكلة الطبقة العاملة يكمن في تعليمهم، وبدون التعلم لن يتمكنوا من الحصول على الثقافة ولن يسهموا بدور بنّاء في المجتمع.
من الانتقادات التي وجّهت الى ارنولد انه كان يحاول ابقاء الطبقة العاملة في مكانها وانكاره لحقّها في تطوير ثقافتها، كذلك يؤخذ على ارنولد عدم رغبته في المشاركة بالسياسة كوسيلة لاستخدام الثقافة في الحفاظ على النظام الاجتماعي، وهذا ما جعله غير قادر على تحقيق اهدافه وجعل كتاباته بلا جدوى.
انحطاط الثقافة :
حاول ليفس (F.R.Leavis) ان يكشف تأثير ضياع الثقافة الفلكلورية على قيمة الفن والادب، فهو يقول: في الماضي كانت الثقافة، حتى الثقافة العالية في متناول الجماهير.فالنخبة المثقفة ليس وحدها من يشاهد مسرحيات شكسبير بل كذلك الجموع الواسعة للناس العاديين. اما في الثلاثينات فقد تغير الموقف كليا. هو يعتقد انه في كل عصر هناك جماعة صغيرة جدا يعتمد عليها مدى الاعجاب بالادب والفن، وهذه الجماعة الصغيرة كانت قادرة على تمييز الادب العظيم من السطحي طبقا لما تحكم به فطرتهم في الجمال. وهؤلاء هم وحدهم يقررون من سيعقب الكتاب المعاصرين مثل شكسبير ودانتي. اما المجموعة التي هي اكبر بقليل فهي بامكانها التمييز بين الرديء والجيد من الادب والفن لكنها سوف لن تتمكن ابدا من تكوين حكم جمالي حول الاعمال الجديدة في الفن.
ثقافة النخب وثقافة الجماهير:
يرى ليفس ان صيانة وديمومة الثقافة يعتمد على احتفاظ الاقلية النخبة باكثر الاذواق تميزا. ولكن في اعوام الثلاثينات من القرن الماضي اصبح ذوق هذه المجموعة وثقافة الجماهير كلاهما تحت تهديد خطير. فالنخبة المثقفة تعرضت للتهديد من جانب المنتجات التي افرزتها ثقافة الجماهير، وهذه المنتجات اصبحت متوفرة لكل شخص وبكميات كبيرة مما اغرق الاحساس الجمالي لثقافة تلك النخبة. يقول ليفس (كان القارئ اثناء مراحل حياته يتحرك ضمن عدد محدود من الاشارات (signal)، حيث لم يكن التنوع فيها كبيرا. وبذلك فهو كان قادرا على اكتساب قدرة التفرد او التميز وهو يتجه على طول الخط. اما القاريءالحديث اصبح عرضة لسيل من الاشارات الهائلة في تنوعها وأعدادها مما جعل من الصعب عليه القيام بالتمييز ما لم تكن لديه موهبة خاصة او مزايا معينة). وهذه المشكلة اصبحت اكثر سوءا بفعل تأثير التغيرات الاجتماعية والثقافية على بقية السكان. يرى ليفس ان الأضرار الثقافية نتجت عن مظاهر التحديث مثل اختراع السيارة وانتشار الثقافة الامريكية وتشتت العوائل وتأثير عمليات البيع والانتاج الواسع والتنميط السلعي. لقد كان ليفس حادا في نقده للاعلام المسيطر انذاك كالراديو والافلام باعتبارهما نوع من التسلية السلبية كونهما لايشجعان الناس على التفكير لانفسهم ولا يسمحان باستخدام العقل بشكل بنّاء. والسينما خصيصا تعرضت للهجوم الشديد لأن الافلام تستلزم الاستسلام والانسياق وراء الاغراءات العاطفية الرخيصة في ظل اجواء من التنويم للمتلقي.
نقد آراء ليفس