بقلم: نارام سرجون
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 16-12-2023 - 362 لاتستهينوا بما تملكون .. ولاتغرنكم الالقاب والأبهة والفخامة وأصحاب الجوائز العالمية .. فان السيد المسيح لم يحصل على اية جائزة ولكنه غير العالم .. والنبي محمد لم يكن خريج السوريون او كامبريدج بل كان خريج الصحراء ولكنه غير الكون كله .. واليوم هذه القطعة من الأرض التي تسمى غزة هي التي بدأت تتحدى التاريخ ونظرياته .. وهي أصغر من أي حي من أحياء مانهاتن .. تقف على أعتابها نظريات التاريخ السياسي والاجتماعي .. ويقف على شواطئها فوكوياما وهو يبلل نظرية نهاية التاريخ في بحر غزة .. ويشرب ماءها المالح .. والسبب هو أن نهاية التاريخ الحديث والعصر الامبريالي تتحدد في فلسطين .. فاقامة اسرائيل هي نموذج التفوق الغربي وهي رمز على قوة السطوة الغربية .. وبقاؤها يعني ان اوروبة لاتزال قوية وتحكم العالم .. وأما نهاية اسرائيل فانها تعني نهاية العصور الاوروبية التي حكمت العالم وتجلت كل قوة اوروبة في أنها تتحكم بمصير التاريخ عندما تعبث بالخرائط القديمة وتغيرها .. وتخلق دولة وصفت بأنها ضد التاريخ وضد الجغرافيا وضد المنطق .. ونهايتها هي نهاية لاسطورة قوة اوروبة .. والعنصر الابيض الاوروبي .. لذلك فان ضعف الدولة بسبب انتصار العدو عليها يجعلها تبحث عن انتصارات وهمية بعيدة عن المواجهة مع العدو فتتفجر فيها تناقضاتها .. فتخلق فيها تناقضات نائمة وبعضها يستفيق من تحت ركام الزمن ويخرج من قبور التاريخ ويتحرك مثل الزومبي في المجتمع .. فالثورات الداخلية دوما تندلع عقب الهزائم الكبيرة .. فالثورة الفرنسية لم تندلع فقط لأن ماري انطوانيت طلبت من الشعب الجائع ان يأكل الكاتوه اذا لم يجد خبزا .. بل لأن فرنسا كانت جريحة تتلقى هزائم عسكرية قاسية في الخارج .. وتمكن الانكليز من الحاق عدة هزائم بالفرنسيين في صراع المستعمرات وخاصة في اميريكا الشمالية .. وكانت خسائر الجيش الروسي في الحرب العالمية الثانية سببا في انتشار الافكار البلشفية التي صارت ترى التناقضات الطبقية سببا للهزيمة وثارت كتعويض انتقامي عن هزائم القيصر ولبناء نموذج يختلف عن النمودج القيصري الطبقي المهزوم .. وكذلك فان هزائم العثمانيين تسببت في تشقق امبراطوريتهم وعودة القوميات التي كانت مسحوقة عندما كانت الدولة مهابة وتحقق الانتصارات .. وكانت هزيمة أفغانستان سببا في اعادة النظر في كل النظرية الشيوعية .. وهزيمة العرب في نكبة فلسطين هي التي خلقت ثورات الضباط الاحرار وسلسلة الانقلابات العسكرية في المنطقة لأن للهزيمة ملحقات داخلية اعادة التوازن للمجتمع المغلوب .. فيما كان انكسار المشروع الناصري العروبي عام 67 سببا في موت القومية المهزومة ونشوء نظريات ملء الفراغ واستبدال القومية بالمشاريع القطرية والقطرية والدينية .. فولدت شعارات مصر اولا والاردن اولا .. والاسلام هو الحل .. في هزيمة العراق عام 2003 كان لابد من ظهور تشققات المجتمعات العربية التي أنتجت بذور الربيع العربي حيث صار العرب يبحثون عن اي مشروع يخرجهم من كارثة الهزيمة الماحقة العراقية التي صدمت العقل العربي كما صدمته نكسة 67 .. لكن هزيمة اسرائيل عام 2006 ابطأت التشقق الذي كان يتقدم الى ان حدث طوفان الطوائف والمذاهب والفتن .. والربيع العربي كان موسما للحصاد الاميريكي والاسرائيلي والاوروبي لما بذر في حرب العراق .. المشروع الصهيوني دخل هذه المرحلة وهو في مرحلة صعبة للغاية .. ومعركة غزة كانت أخطر منعطف لأنها ليست حركة عادية في التاريخ .. بل هي هزيمة عسكرية .. وعقائدية .. وثقافية .. لكل المشروع الغربي .. ولذلك فان الفشل العسكري تلاه فشل ثقافي وانحطاط نفسي شامل .. لكن أهم شيء سيكون هو اضمحلال ملحقات القوة الاسرائيلية وأذرعها الممتدة في المنطقة العربية التي تستمد قوتها من عربدة اسرائيل ومن الشعور ان اسرائيل تحميها وتدعمها .. ولذلك فان ملحقات اسرائيل وأتباعها في لبنان سيخفت صوتهم ويخبو الى ان تستعيد اسرائيل هيبتها وهذه مرحلة ستطول جدا .. كما ان تفرعات المشروع الاسرائيلي المتمثلة بالمعارضات العربية المنتشرة في اوروبة واميريكا والارهابيين في سورية والشرق الاوسط سيضمحل أيضا .. ونلاحظ ان أذرع اسرائيل في المنطقة خفت صوتها تنظر غير مصدقة ومرعوبة من جولة التأديب التي يتعرض لها الجيش الذي لايقهر .. فمن سيحمي يتامى الجيش الذي لايقهر بعد ان قصم ظهره في غزة .. من كان يظن أن فوكوياما سيسقط في غزة؟ .. وأن غزة تصبح قاهرة مانهاتن .. وأن التاريخ قصة بلا نهاية .. نهايته مفتوحة تتغير بيد من يملك الحبر الاحمر القاني .. الذي يسمى الدم ..
لا يوجد صور مرفقة
|