ضربتان وجهتهما "اسرائيل" لمرفأ اللاذقية السوري خلال عشرين يوماً في الشهر الماضي ، ناهيك عن عشرات الضربات في كل انحاء سوريا خلال العام المنصرم ، خصوصاً قرب مطار حميميم حيث القاعدة العسكرية الجوية الروسية .
لماذا لم تردع روسيا "إسرائيل" عن اعتداءاتها ؟
جوابُ روسيا كان غامضاً . قالت إن الدفاعات الجوية السورية لم تعترض الطائرات الحربية الإسرائيلية المغيرة لأن طائرة روسية كانت أثناء الإعتداء تهبط في مطارحميميم !
تفسيران جرى تداولهما إعلامياً لإحجام الدفاعات الجوية السورية عن الردع :
الأول، قيام السلطات الروسية بإعلام "اسرائيل" مسبقاً بموعد هبوط الطائرة الروسية في مطار حميميم . الثاني، معرفة الإستخبارات الإسرائيلية بمواعيد هبوط الطائرات الروسية .
كلا التفسيرين ، في حال صحتهما ، غير مقنعين خصوصاً لإقترانهما بمعلومة قديمة مفادها ان موسكو تتحكم بالدفاعات الجوية من طراز 300 –S كانت زوّدت الجيش العربي السوري بها منذ سنوات .
ثمة تفسير ثالث في هذا المجال يفتقر الى إثبات مفاده ان هناك إتفاقاً ضمنياً بين موسكو وتل ابيب بأن تغضّ القوات الروسية في سوريا النظر عن قيام "اسرائيل" بقصف ما تدّعي انه مواقع صواريخ ايرانية في سوريا لأنها، اي روسيا، باتت حسّاسة لتزايد نفوذ ايران فيما تريد هي ان تبقى لها اليد العليا في بلاد الشام.
اياً ما كان السبب لتمادي الكيان الصهيوني في اعتداءاته على سوريا فإن الامر بات خطيراً ومكلفاً ويستوجب معالجة عاجلة . ذلك ان الضربة الإسرائيلية الاخيرة لساحة الحاويات في مرفأ اللاذقية تسبّبت ، بحسب تقارير موثوقة ، بإضرار فادحة لا تقل عن 350 مليون دولار هي قيمة المواد والسلع الغذائية المستوردة والمرصوفة هناك .
لماذا تتقصّد "اسرائيل" استهداف مرفأ اللاذقية بهذه الضراوة ؟
ثمة مراقبون استراتيجيون يعتقدون ان القيادتين السياسية والعسكرية في "اسرائيل" ادركتا اخيراً ان الولايات المتحدة عازمة ، عاجلاً او آجلاً ، على إحياء الإتفاق النووي مع ايران من دون تضمينه قيوداً جديدة على برنامجها النووي ولا على صناعتها الصاروخية البالستية المتقدمة ، كما مصرّة على رفض المشاركة في ضرب المنشآت النووية والصناعية الإيرانية ما حمل "اسرائيل" على اعتماد الحصار والحرب الإقتصادية الى جانب عمليات القصف المتكررة للمواقع العسكرية السورية كبديل من ضرب المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية .
هذا البديل الإستراتيجي الإسرائيلي يحظى بقبول بل بتشجيع من الولايات المتحدة التي لاحظ مراقبون متابعون أنها لم تكتفِ مؤخراً بوقف سحب قواتها من سوريا عقب خروجها المهين من افغانستان بل قامت بتعزيزها ولاسيما في مناطق شرق الفرات ودير الزور حيث آبار ومكامن النفط والغاز ، كما قامت بتقديم دعم سياسي ولوجستي سخي لـِ تنظيم "قسد" (قوات سوريا الديمقراطية الكردية) وحملتها على قطع المفاوضات مع الحكومة السورية ، وحثتها على تشديد المطالبة بعدم المسّ بترتيبات الحكم الذاتي التي اعتمدتها كنواة لإقامة دولة انفصالية كردية او للضغط لإعتماد دستورسوري جديد على اساس الفدرالية.
اكثر من ذلك ، يرى بعض الخبراء الإستراتيجيين ان ثمة مخططاً صهيواميركياً يرمي الى تقسيم سوريا او شرذمتها في الاقل بين كيانات اثنية ومذهبية وتحويلها تالياً دولةً حاجزة او عازلة Buffer State بين ايران والبحر الابيض المتوسط وبالتالي بينها وبين لبنان وفلسطين المحتلة وسوريا والعراق بغية إضعافها وتعطيل تأثيرها ونفوذها وبالتالي ردعها ، وان ما تقوم به الولايات المتحدة ، ومن ورائها "إسرائيل" ، منذ سنوات ضد سوريا عسكرياً وإقتصادياً يرمي الى تحقيق هدفهما الإستراتيجي .
هذا المخطط الخطير يستوجب بالتأكيد رداً في مستوى وزنه الثقيل إذ ان حكومات لبنان وسوريا والعراق عازمة على البدء بورشات واسعة للإعمار والتطوير والانماء ، وذلك لن يكون متيسراً اذا ما استمرت الولايات المتحدة و"اسرائيل" مثابرتين على تنفيذ مخططهما . من هنا ينهض سؤال ضاغط : لماذا لا تُلزم سوريا "اسرائيل" بقواعد إشتباك رادعة مماثلة لتلك التي ألزم حزب الله بها "اسرائيل" بعد حرب العام 2006 ؟
يتبرع البعض بجواب مفاده ان سوريا منشغلة منذ العام 2011 في مواجهة ثلاثة اعداء ناشطين في الوقت نفسه : الكيان الصهيوني في جنوب البلاد ، والقوات الاميركية التي تحتل مساحات واسعة في شرقها (التنف) وفي شمالها الشرقي (محافظة الحسكة) وتركيا التي تحتل محافظة ادلب وترعى تنظيمات إرهابية ناشطة فيها ، كما تناور في علاقتها مع فريق الكرد السوريين ("قسد") الذي تدعمه الولايات المتحدة ، وان هذا الواقع الخطير والمعقّد يمنعها من مواجهة "اسرائيل" على الاسس نفسها التي يعتمدها حزب الله في لينان ، وان إنشغال ايران بمواجهة هجمة الحصار والعقوبات الاميركية المفروضة عليها منذ 1979 تحول دون مطالبتها بمزيد من الدعم المالي والعسكري لمواجهة "اسرائيل" على نطاق واسع .
هذا الجواب ينطوي على وقائع صحيحة ، لكن التذرع بها غير مقبول لان حزب الله يستمر في مواجهة "اسرائيل" رغم تحديات شتى اهمها :
- انه يواجه عدوين شرسين : "اسرائيل" في الجنوب وتنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية في الداخل .
- لبنان بكل فئاته وقواه السياسية والاجتماعية يعاني هجمةً صهيواميركية للتفريق والإقتتال بين طوائفه .
- لبنان يعاني بكل فئاته حرباً إقتصادية تشنّها عليه اميركا وحلفاؤها في سياق الحرب السياسية والامنية على حزب الله .
- ايران ثابرت على دعم حزب الله مالياً وعسكرياً رغم انشغالها بمواجهة هجمة الحصار والعقوبات الاميركية عليها .
في ضوء هذه الواقعات والتطورات يمكن الخروج بالملاحظات والتوصيات الآتية :
أولاها ان ثمة ما يشير الى ان مفاوضات فيينا تتجه نحو إحياء الإتفاق النووي وان ذلك سيؤدي الى تحرير مليارات الدولارات العائدة لإيران المحتجزة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الحليفة .
ثانيتها ان استمرار الهجمة الصهيواميركية على سوريا يضرب هيبة حكومتها ويُضعفها امام اعدائها في الداخل ويساعد خصومها جميعاً على تنفيذ مخططهم التقسيمي.
ثالثتها ان ما تمتلكه سوريا من قدرات يفوق ما يمتلكه حزب الله ، وان ما يمكن ان تقدمه لها ايران في المواجهة المرتقبة سيفوق نسبياً ما سبق لها ان قدمته لحزب الله لتمكينه من فرض قواعد الإشتباك الرادعة على "إسرائيل".
رابعتها ان "اسرائيل" تعاني اختلالات اقتصادية واجتماعية مربكة تتيح لسوريا الإقدام على مواجهتها مرحلياً دونما تداعيات مكلفة .
خامستها إن العامل الاساس في نجاح حزب الله في فرض قواعد الإشتباك الرادعة على "اسرائيل" هو ارادة القتال . فمتى توفّرت ارادة المواجهة يتقلّص الكثير من المعوّقات .
أما آن الاوان لتظهّرسوريا ارادتها وقرارها بمواجهةٍ معجّلة ؟