بين شباط 2004 وشباط 2008 أطلق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان 32 تصريحاً موثقاً حول شراكته، أو الأصح دوره الموكل له بموجب مشروع الشرق الأوسط الكبير، ولاحقاً الجديد، ولم يكن يُخفي هذا الدور المنوط به، وبناءً عليه دعمته الولايات المتحدة الأميركية للوصول للسلطة لتنفيذ هذا المشروع، وقبيل وصوله للسلطة أزالت له واشنطن ثلاث عقبات أساسية، وهي: رئيس الوزراء التركي السابق بولنت أجاويد الذي كان يقود حكومة ائتلافية، وزعيم الإسلام السياسي التركي وأستاذهم نجم الدين أربكان، وقيادات عسكرية تركية.
الحقيقة أن العقبات الثلاث السابقة، كانت ترى أن أحداث نيويورك 11 أيلول 2001، واحتلال أفغانستان، ثم إرهاصات احتلال العراق 2003، تهدف لتقسيم المنطقة إلى دويلات إثنية وطائفية، وأن هذا التقسيم سينعكس على تركيا على مبدأ أحجار الدومينو، وبدلاً من أن تواجه تركيا مع دول المنطقة وشعوبها هذا المشروع الخطير، قبلت قيادات حزب العدالة والتنمية الذي وصل للسلطة في تركيا عام 2002 أن تنخرط في المشروع الأميركي، ووقع عبد الله غُل وزير الخارجية آنذاك مع كولن باول مذكرة مشتركة في البحرين عام 2004.
رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان، حسب الخبراء في الشأن التركي، رفض الانخراط في المشروع عندما عُرض عليه على الرغم من أنه «أبو الإسلام السياسي التركي»، وكان له نفوذ داخل الأوساط الإخوانية العربية والعالمية، ولكنه كان يؤمن بتحالف الدول الإسلامية الثماني، ولذلك عندما انشق عنه تلامذته: أردوغان، عبد الله غُل، بولنت أرنيتش، وأسسوا حزب العدالة والتنمية، وقبلوا الانخراط في المشروع الأميركي، قال عنهم أربكان: «إنهم الأبناء المدللون للصهيونية»، والحقيقة أن الرجل لم يخطئ في تقييمه.
مقابل انخراط حزب العدالة والتنمية في المشروع الأميركي الغربي وتنفيذ المهام المنوطة به، سيحصل بالمقابل على:
• دعم سياسي غربي، ودعم اقتصادي خليجي وأوروبي.
• إقامة نظام فيدرالي سوف يضم ما يسمى «كردستان العراق»، وشمال سورية، وبالتالي تركيا لن تقسم، وستصبح قوة إقليمية كبرى.
• ستقام الدويلات الكردية الجديدة تحت حماية ودعم تركيا وسيسمح لتركيا إقامة قواعد عسكرية شمال العراق، وشمال سورية كـ«مناطق محمية».
• ستتحول تركيا إلى محور مركزي لكل البلدان التي ستحكمها أحزاب شبيهة بحزب أردوغان وهي: سورية، تونس، المغرب، مصر، اليمن… الخ.
انطلاقاً من هذا التصور المشترك سارت الأمور على ما يرام في تونس حيث وصلت حركة النهضة الإخوانية بزعامة راشد الغنوشي، وفي المغرب بترتيب ملكي نشأ حزب العدالة والتنمية بزعامة سعد الدين العثماني، وفي مصر تسلم الرئاسة محمد مرسي، واحتضنت اسطنبول جماعة الإخوان المسلمين في سورية بزعامة علي صدر الدين البيانوني، وشكلت لهم منصة للعمل العسكري الإرهابي والإعلامي والاستخباري، وكانت هناك غرفة عمليات تقودها أميركا على الحدود المشتركة السورية التركية لإدارة الحرب الفاشية على سورية.
مقابل إيصال الإخونجية للسلطة في البلدان العربية عبر ما سمي «الربيع العربي»، كان المطلوب من هؤلاء قضايا ثلاث أساسية:
• أمن كيان الاحتلال.
• ربط اقتصادات بلدانهم بالمنظومة الأميركية.
• طرد روسيا والصين وإيران من المنطقة.
إن أي متابع موضوعي لهذه المطالب الثلاثة سيجد ما يلي:
• مرسي كتب رسالة لرئيس إسرائيل شمعون بيريز، وأعلن الجهاد على سورية.
• الغنوشي حاول تمرير التطبيع ببطء، لكن مقاومة شرفاء تونس فضحت دوره.
• الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني وقع اتفاق التطبيع مع كيان الاحتلال بيمناه، على الرغم من أنه كان يتاجر بقضية فلسطين.
• إخوان سورية تعروا تماماً، وقدموا أوراق اعتمادهم قبل أن يحصلوا على بلدية في سورية.
أما معلمهم أردوغان على الرغم من خطاباته النارية ضد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وقبله شمعون بيريز، وكيان الاحتلال، وبيع شعارات النضال من أجل غزة وفلسطين، لكن التعاون الأمني والاستخباري ازداد، والطائرات المسيرة التركية محركها إسرائيلي، والتبادل التجاري ازداد إلى 6 و7 مليارات دولار، والسفارات قائمة، والسياح يتجولون في كل المدن التركية.
الآن وحدها سورية المقاومة بقيادة الرئيس بشار الأسد هي التي هزّت هذا المشروع، وأسقطته لا بل عرّته، وخاصة أن صمود السوريين شعباً وجيشاً وقيادة، هو الذي زاد نسب السكّر والأدرينالين، وأمراض الغدة لدى أردوغان، وجعله يصاب بحالات عصبية، وتوتر شديد، وكره بالغ للرئيس الأسد، وجعله يصاب بـ«عقدة الأسد» لسبب واحد أن فشل أردوغان سيجعله يدفع الثمن، وهو ما يحصل الآن، ذلك أن فشل البيدق في مهمته سيعني حكماً الإطاحة به، والإتيان بواجهات جديدة تساعد في إنجاز المشروع.
تعرض أردوغان لأول هزة في تموز 2016، عبر محاولة الانقلاب، وهي محاولة أميركية شاركت بها أطراف إقليمية، وأدت لحالة العداء الشديد مع حليفه السابق فتح الله غولن، كما أدت لتصفية الآلاف من جماعة غولن، وإلى التحول لنظام سلطوي، وخوف شديد، وتبع ذلك العمل على هزّ الاقتصاد والليرة التركية، لأنه أساساً اقتصاد هش، قام على أساس الخصخصة واقتصاد الخدمات، والذي لا يملك الأتراك فيه شيئاً، ولذلك يطرح السؤال التالي على فقهاء معجزة الاقتصاد التركي: لماذا تنهار الليرة التركية الآن وليس لدى أردوغان إرهاب ولا حصار ولا عقوبات ولا دول جوار تتآمر عليه، وأوروبا مفتوحة…إلخ؟
الحقيقة أن الرجل انتهى دوره، وبايدن وعد بإسقاطه ديمقراطياً كما قال، والبدء كان بهز الاقتصاد الذي شكّل ورقة التوت التي تخفي أسرار نظام الإخونجية وعوراته الكثيرة، ومركز الثقل الذي لطالما تفاخر به أردوغان، لكن الإشكالية الأخرى أن المعارضة التركية بدلاً من أن تكون وطنية تحولت إلى متسول على أبواب البيت الأبيض، وتحولت التحالفات القديمة لأردوغان إلى تحالفات جديدة لحزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليتشدار أوغلو الذي أصبح حليفاً لـ«فتح الله غولن» شريك أردوغان القديم، وحليفاً لحزب الشعوب الديمقراطي، الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، وحليفاً لـ«داوود أوغلو»، وعلي بابا جان إخوة أردوغان الأعداء… إذاً:
بديل أردوغان الذي يتم تحضيره ليس وطنياً تركياً على الرغم من التصريحات التي تهاجم أردوغان، والتي قد تـثـلج صدور البعض لدينا، لكن: علينا الحذر كثيراً.
أردوغان استخدم في المشروع الكبير، وانتهى دوره كما يبدو على الرغم من رسائله لـ«بايدن» عبر «بلومبيرغ» ولكن ذلك لم يجد نفعاً، وواضح تماماً أنه خائف من سياسة بايدن، وهذا سيدفعه إلى «عقلنة سياسته الخارجية»، وهو ما نراه تجاه مصر، والأهم أننا قد نراه تجاه سورية في المستقبل القريب، لأن مشروعه فشل، ولا خيارات أمام تركيا سوى العودة إلى إعادة ترتيب ملفاتها الخارجية، وما يجب أن يفهمه أردوغان: أنه لا أمن ولا استقرار في ظل الاحتلال، وأن الأمن القومي للدول لا يصنع على حساب مآسي تلحق بشعوب ودول الجوار، ولا عبر قطع المياه، وتربية الضباع والمرتزقة على الحدود المشتركة، وإنما عبر التعاون والتنمية والاستقرار لتركيا وجوارها.
وإذا كان البيدق أردوغان قد سقط، فهل هناك أردوغان آخر مضطر للذهاب بهذه الخيارات التي تحدثت عنها، الحقيقة أنه مجبر ومضطر ولو كان مكرهاً.
لننتظر ونر، لكن البيدق سقط، أما إذا كان التفكير وطنياً لديه، فلا أعتقد أن أحداً سيعارض ذلك، الأهم: أن زمن الاحتلال والعثمانية الجديدة، والعنتريات قد ولّى، وما على أردوغان سوى النزول عن الشجرة قبل أن يُسحب السلم، باختصار: المقاومة العربية السورية بقيادة الرئيس الأسد أسقطت البيدق.
وما عليه سوى طرق أبواب دمشق، فهل تستجيب!