– الحديث عن العلاقات السورية – الروسية هو حديث عن علاقات تاريخية، قديمة ترتكز على مشتركات متنوعة، ومصالح إستراتيجية، وليست آنية، وقد واجهت هذه العلاقات تحديات ومصاعب خلال عقود من الزمن، ولكن ما يميزها عراقتها وتجذرها والذاكرة الطيبة بين الشعبين عما يجمع، أكثر مما يفرق، وعما يواجه البلدان والشعبان من تحديات مستقبلية لا بد من التعاطي معها بالجدية المطلوبة، والرؤية البعيدة المدى، وليست القصيرة النظر، والمصلحية فقط.
– لا يتوقف المسؤولون السوريون والروس عن إطلاق التصريحات المطمئنة، والباعثة على الأمل في المستقبل بالنسبة للعلاقات الثنائية، وخاصة في ضوء التحديات المصيرية التي يواجهها الشعب السوري، والحصار الفاشي الذي تُنفذه الولايات المتحدة الأميركية جهاراً نهاراً، وتدفع به السوريين نحو ما تعتقده واهمة أنه المصير المحتوم لما يسميه (جيمس جيفري) النهاية السوفييتية في أفغانستان، من دون أن يدرك هذا الدبلوماسي أن الفرق هائل في المقارنة بين مصير السوفييت الذين كانوا في أفغانستان في أرضٍ ليست أرضهم، وإن كان لديهم مبررات للدفاع عن أمنهم القومي آنذاك، وبين السوريين الذين يدافعون عن أرضهم وترابهم وتاريخهم وهويتهم ومستقبلهم، وبالتالي فإن هذه المقارنة لن تؤتي أُكُلها لأن (جيفري) يتجاهل العامل الروحي وقدرة أهل هذه البلاد على الذود عن حياض بلادهم وتلقينه درساً لن ينساه على كل قساوة الظروف التي يمر بها السوريون.
– تُذكر واشنطن موسكو دائماً بأنها خصم، لا بل إن بعض الأطراف الأميركية تسميها (عدواً) وإن كانت تلطف الكلمة والعبارة تحت عنوان (منافس إستراتيجي) ومهما فعل الروس للأميركان، والغرب فإنهم يرون في روسيا خطراً داهماً عليهم، ودولة يجب أن تطوق، وتحاصر، وتسقط كما أسقط الاتحاد السوفييتي، يريدونها دولة يلتسينية (نسبة لـ«يلتسين») إذ كان أحد الدبلوماسيين الأميركان يقول قبل الاجتماع مع يلتسين (كنا نسرع لملء كؤوس الفودكا قبل وصوله – لنحصل بعد ذلك على ما نريد)! أما الآن فإنهم يتعاطون مع دولة قوية استعادت عافيتها (بعد عقد ونصف العقد من الإذلال) ما بين بداية التسعينيات وحتى مجيء الرئيس بوتين الذي أعاد لها استقلالها وقوتها، وكرامتها، ووزنها الدولي بجهود جبارة، ومع كل محاولات بوتين ودبلوماسيته مع الأميركان فإنهم كانوا وما زالوا يغلقون الأبواب في وجهه، لأنه حسب رأيه (يريد الأميركان أتباعاً وليس شركاء)، ولا يمكن لدولة مثل روسيا أن تعود للوراء أبداً….. بعد ما اختبرت الضعف، والهوان، والإذلال في عهد يلتسين وأذرع المافيا اليهودية التي نهبت روسيا والشعب الروسي، وكادت تؤدي بـروسيا لمصير الاتحاد السوفييتي…..
– عادت موسكو لممارسة دورها العالمي، بعد أن كذب الناتو على غورباتشوف، وأقسم أغلظ الأيمان أنه لن يتوسع في محيط روسيا الحيوي، لتجد موسكو نفسها مطوقة من البلطيق، إلى أوروبا الشرقية، إلى أوكرانيا، وجورجيا، ولولا وصول اليد الروسية إلى القرم لكان الناتو قد نجح في خنق روسيا من بوابتها البحرية على البحر الأسود، كما كذب على روسيا مع بداية ما يسمى الربيع العربي في ليبيا، وكانت الخطوة التالية في الحرب الفاشية على سورية لمنع روسيا من الوصول إلى المتوسط، وهو أمر سقط بالانخراط الروسي في دعم الدولة السورية في الحرب على الإرهاب العالمي، حيث نجح التحالف السوري – الروسي، مع إيران، وحزب اللـه في القضاء على جيوش القتلة، والمجرمين الذين أُتي بهم إلى سورية من كل أصقاع الأرض، البنتاغون وفي إحصائيات رسمية تحدث عن إرهابيين من (82) جنسية، وأما وزارة الدفاع الروسية فقد اعترفت بأنها شاركت في قتل (82) ألف إرهابي خلال خمس سنوات، إذاً: الانخراط الروسي أعطى موسكو موطئ قدم على المتوسط بالاتفاق مع الدولة السورية، وضمن إطار مصلحة مشتركة سورية – روسية، فالوجود الروسي على المتوسط مصلحة لـسورية، كما هو مصلحة لروسيا وأمنها القومي، وكان الرئيس بوتين يقول في أكثر من مناسبة إن موسكو تقاتل الإرهابيين في سورية، وإلا فستضطر لمقاتلتهم في شوارع المدن الروسية، وهو أمر يعني فيما يعنيه أن مكافحة الإرهاب هو مصلحة لدمشق وموسكو والبشرية جمعاء، وأن تصفية هؤلاء القتلة هي مصلحة أيضاً للأمم المتحضرة في العالم.
– لقد فتح النقاش في تطور العلاقات بين دمشق وموسكو في بعض المراحل حوارات، وجدالات دلت بشكل واضح على سوء فهم، وتقديرات خاطئة لدى عدد من النخب في البلدين – إذ كان مقال صحفي ينشر هنا أو هناك يثير زوبعة، وعاصفة من ردود الفعل غير المبررة أحياناً من الطرفين بسبب نجاح بعض الجهات الخارجية، والمعادية لـموسكو ودمشق في إحداث اختراقات، لم تتم معالجتها حتى الآن، والسبب في رأيي الشخصي عدم نجاح موسكو في استخدام القوة الناعمة كأداة مرافقة للانخراط العسكري، وأقصد بالقوة الناعمة الأدوات الثقافية، والعلمية، والحوارات، والإعلام، والمنتديات، والتواصل الشعبي، والاجتماعي التي لا يشعر السوريون بها أبداً، وهو خلل ننصح بمعالجته لأن العلاقات الشعبية والاجتماعية هي الأقوى والأكثر تجذراً، وهي الحامل الحقيقي للعلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية بين أي بلدين، إذ لا تكفي الاجتماعات الرسمية، واللقاءات خلف الأبواب المغلقة، فالمواطن السوري، والروسي يجب أن يشعر، ويفهم أهمية العلاقات، وعمقها، وضرورتها لمستقبل البلدين، وإلا فإن التواصل الرسمي لا يكفي وخاصة أن ما يتسرب ويوضع أمام الرأي العام من خلف كواليس الدبلوماسية شحيح، ولا يشفي غليل المهتمين، والمتابعين، والمحبين…
– وإذا كنت في عداد أكثر من وفد سافر إلى روسيا بدعوة من البرلمان الروسي للمشاركة في مؤتمرات عالمية، إضافة إلى جهات أخرى كثيرة ساهمت في النشاط المشترك السوري – الروسي، فإن ذلك غير كافٍ أبداً إذ لم أتابع طوال سنوات مؤتمرات تهتم بالعلاقات الثنائية، ولا برامج إعلامية مشتركة، ولا ندوات أكاديمية بحثية على مستوى عالٍ، ولا محاضرين في مكتبات، وجامعات سورية قادمين من روسيا، ولا علاقات متواصلة بين المنظمات الاجتماعية، والأحزاب، وإذا كانت الساحة لا تخلو من ذلك تماماً، فإن الأمور ليست بالزخم المطلوب.
– إن القناعة القائمة لدى المسؤولين الروس أن سورية مرتكز أساسي للسياسة الروسية في الشرق الأوسط، لا يجوز أن تعكرها مراهنة البعض على وجود خيارات مصالح في مصر أو الخليج، أو شمال إفريقيا، أو ليبيا، أو لبنان حيث الوجود الأميركي والغربي طاغ، ويتغلغل في شرايين هذه البلدان، وفي بنية أنظمتها المرتبطة عضوياً بواشنطن، والأطلسي، وتبدو لي أنها خيارات غير منتجة حتى الآن، على الرغم من حق موسكو كدولة عظمى أن تنافس وتبحث عن مصالحها حيث تريد، ولكن عليها أولاً أن تعزز، وتُمكن المرتكز الأساسي لها في الشرق الأوسط أي (سورية) بعلاقات ليست عسكرية واقتصادية ومصلحية فقط، على أهمية ذلك، وحيويته، للبلدين، ولكن أيضاً من خلال مؤسسات قوة ناعمة، تشبك أكثر بين الشعبيين والمجتمعين وتُحصن هذه العلاقات القديمة، والعريقة، والمستمرة، من أي اهتزازات، أو محاولات اختراق شهدنا نماذج لها في الماضي القريب، بسبب ضعف أدوات القوة الناعمة لدى موسكو في سورية، وعدم النجاح حتى الآن في إحداث اختراقات مهمة، وواسعة… وملموسة.
– إن حصول روسيا على المرتبة السابعة عالمياً في اختيار الجمهور من حيث التأثير العالمي، والمرتبة التاسعة في معيار العلاقات الدولية، في التقرير العالمي لمؤشر القوة الناعمة (2020)…. يفترض من باب المحبة، أن تحتل المرتبة الأولى في قلوب السوريين، بعد التضحيات المشتركة، والدماء الروسية التي سالت على الأرض السورية، وهو أمرٌ بحاجة ماسة لإسعافات القوة الناعمة من أجل الديمومة والاستمرار من جهة، والثبات في وجه محاولات التشكيك والتلاعب.