بارتفاع عدد الضحايا في العراق الذي زاد على اثني عشر ألف إنسان بين قتيل وجريح تبدو الخريطة السياسية أكثر وعورة وتضاريسها أشدّ قسوة، لاسيّما بانعدام الثقة بالحكومة، فلم تعد تكفي الوعود بالإصلاحات أو بمحاربة الفساد، بل أصبح الطريق إلى تهدئة الأوضاع يتطلّب الاستجابة إلى مطالب، بل حقوق، المتظاهرين وحركة الاحتجاج الواسعة، التي لم يشهد العراق مثيلاً لها، وهي أقرب إلى استفتاء على "عدم شرعية" استمرار العملية السياسية التي بدأت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، والتي قامت على أساس نظام المحاصصة الطائفي- الإثني المستند إلى الزبائنية السياسية وتقاسم المغانم .
ولم يعد ممكناً ردم الهوّة بين الحكومة والشارع العراقي، إلّا بإجراء تغييرات جوهرية، تلك التي يعبّر عنها المتظاهرون بـ استقالة الحكومة وتعديل الدستور وإلغاء قانون الانتخابات وحلّ الهيئات المستقلة " غير المستقلة"، وهي أمور ممكنة وآنية، ويمكن أن تمهّد لتغييرات أوسع وأشمل، وإن كان هناك عقبات وكوابح أمامها على صعيد القوى السياسية الداخلية، أو على صعيد النفوذ الإقليمي والدولي المؤثر في العراق على نحو كبير.
أما فيما يتعلق بتحسين مستوى المعيشة والخدمات الصحية والتعليمية وإيجاد فرص عمل ومحاسبة الفاسدين وإلغاء الطائفية السياسية ووضع حدّ لنظام المحاصصة، فتلك أمور تحتاج إلى وقت وتراكم وتدرّج، وتلك مسألة واقعية في علم السياسة التي هي في المحصلة فن الممكنات وتوازن القوى واتساق بين ما هو موضوعي بما هو ذاتي.
وقد انقسمت القوى والكتل السياسية حول مسألة التغيير إلى مجموعات، فجاءت مواقفها متضاربة ، بل شديدة الاختلاف، وبدأت المعركة كأنها "كسر عظم" كما يُقال .
المجموعة الأولى- تتمثل بالشارع العراقي: وهذه تتألف من فئة الشباب وفيهم متعلمين وخريجين، لكنهم عاطلون على العمل على الرغم من المعارف والمهارات التي اكتسبوها ، ناهيك عن اطلاعهم على ما يجري في العالم عبر الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي ، فالعالم أصبح أصغر من "قرية صغيرة" بفعل الثورة العلمية - التقنية الرابعة وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والمواصلات، ولاسيّما في ظلّ الطفرة الرقمية " الديجيتل" وهذه كلّها من نتاج العولمة. فلم يعد الشباب من الجيل الجديد والذي تتراوح أعماره بين 18-25 عاماً يقبل بما هو سائد لأنه أكثر ميلاً وتطلعاً للالتحام بالعالم في فضاء من الحرية والتواصل الإنساني.
المجموعة الثانية- القوى المؤيدة للتغيير: وهذه الأخيرة كان الحراك الشعبي مفاجئاً لها، بل إنه اضطرّها بعد المواقف السلبية والتشكيكية عشية بدئه إلى المشاركة فيه لاحقاً، ومن هؤلاء كتلة سائرون التي تضم تيار الصدر برئاسة السيد مقتدى والحزب الشيوعي العراقي. وحسناً فعلت هذه المجموعة بالالتحام بحركة الاحتجاج، علماً بأن مطالب المتظاهرين تمثل بعض مطالبهم بالذات، لذلك كان انحيازهم إيجابياً، لاسيّما وأن غالبية المشاركين في الحراك هم من الفقراء والمعدمين .
المجموعة الثالثة- الحركة الكردية وإقليم كردستان:وهؤلاء بشكل عام لم ينحازوا للحراك، بل وقفوا منه موقفاً سلبياً، خشية أن يؤثر على المكاسب التي حصلوا عليها، تلك التي حاول عادل عبد المهدي طمأنتهم بشأنها، بعد تشدد سلفيه نوري المالكي وحيدر العبادي، خصوصاً عشية استفتاء إقليم كردستان بشأن الاستقلال (سبتمبر/أيلول/2017) وما ترتب عليه من إجراءات زادت من مشاكل الإقليم مع السلطة الاتحادية.
المجموعة الرابعة- الرافضة للتغيير: وخصوصاً تلك التي تعتبر المطالبة بالتغيير "مؤامرة خارجية" مشبوهة مدعومة من الولايات المتحدة و"إسرائيل" وبعض الدول العربية، كما ذهب إلى ذلك قيس الخزعلي رئيس "عصائب أهل الحق"، علماً بأنه وفصائل مسلحة من الحشد الشعبي مثل كتائب حزب الله وسرايا النجباء وسرايا الخرساني وكتائب التيار الرسالي وسرايا الجهاد والبناء أعلنت مواقفها الرافضة للحراك الشعبي، وهذه جميعها مقرّبة من إيران ، وكانت هذه الأخيرة قد اتخذت موقفاً سلبياً من الحركة الاحتجاجية التي اتهمتها هي الأخرى بأنها من تأثير واشنطن وتل أبيب.
المجموعة الخامسة- قوى دينية من " الشيعية السياسية" :ساهمت في العملية السياسية منذ البداية وتتحمل قسطاً كبيراً وأساسياً من المسؤولية، بل إنها من القوى التي استفادت منها على الصعيدين الحزبي والشخصي، وبسبب المنافسة السياسية ووصول الأوضاع إلى طريق مسدود، اندفعت لمعارضة حكومة عادل عبد المهدي، التي تعتقد أنها أحق منه بها، ولذلك وقفت إلى جانب إقالة الوزارة ، لكنها ظلّت تقدّم خطوة وتؤخر أخرى ، مثل حزب الدعوة مجموعة المالكي أو " كتلة النصر" جماعة العبادي وتيار الحكمة ( السيد عمار الحكيم)، الذي أبدى تحفظاً منذ البداية حول تركيبة الحكومة، وقرّر بلورة موقف يميّز بين الموالاة والمعارضة، وفضل هو بالذات أن يعتبر نفسه في المعارضة على أن يحتسب من تيار الموالاة.
المجموعة السادسة- الأحزاب والكتل "السياسية السنّية": وهذه وإن كانت غير منخرطة في الحراك الشعبي، لكنها لا تستطيع أن تقف ضده، إذْ أن غالبية المطالب هي مطالبها، مثل إلغاء الهيمنة الطائفية ووضع حد للنفوذ الإيراني، وهي ذاتها مطالب القائمة الوطنية " العراقية" برئاسة علاوي الذي طلب في بدء الحراك إطلاق صلاحيات عادل عبد المهدي، لكنه مع تطور الأحداث، اقترب موقفه من مطالب الحراك الشعبي.
لقد دفع الحراك الشعبي أوساطا واسعة بعضها في الخارج، للتحرك ، فأصدر العديد من التجمعات والشخصيات نداءات وبيانات ومقالات، لتحريض المتظاهرين، مع أن هؤلاء لا يحتاجون إلى تحريض، لأنهم في قلب الحدث وفي عمق المأساة، فتخطّى فيها جميع الأحزاب والحركات والقوى السياسية على أنواعها ، طائفية أو غير طائفية، مشاركة بالعملية السياسية أم خارجها، في الداخل والخارج، فالجمهور المحرّض بما فيه الكفاية والمسحوق حتى العظم والمهان والمذل والمستغفل يعرف ما يريد، وقد شعر بعمق الهوّة بينه وبينها ، فهتف ضدها، بل أحرق بعض مقارها.
إن ما يحتاجه الجمهور هو بلورة خطوات عملية لتحقيق أهدافه الآنية، وهنا يمكن للنقابات والجمعيات والاتحادات المهنية أن تلعب مثل هذا الدور، وعندئذ يمكن مواصلة الضغط على الحكومة لإجبارها على التنازل، بل فرض برنامج واقعي وتدرّجي وممكن التحقيق عليها، يلزم ما بعدها.
إن الخريطة السياسية العراقية بما فيها من نتؤات ومنعرجات وصعود ونزول مرشحة لتغييرات واصطفافات وانتقالات يفرضها تطوّر المشهد السياسي، فعلى الرغم من استمرار حركة الاحتجاج الواسعة في بغداد ومحافظات وسط جنوب العراق، ما تزال الحكومة العراقية هي الأخرى مستمرة في تشبثها بمواقفها، وكأن هذا الأمر لا يعنيها، وإنْ كان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اعترف بتشخيص حركة الاحتجاج للأخطاء المتراكمة منذ العام 2003 ولحد الآن، لكنه رفض تقديم استقالة الحكومة ما لم يتم تحضير بديل، لأن ذلك قد يؤدي إلى فراغ على حد تعبيره، وربما يأخذ العراق إلى المجهول.
ومع أنه أقرّ بأحقية التظاهرات السلمية، لكنه انتقد التظاهرات من قناة أن " البعض يتخذها درعاً بشرياً للتخريب" منبهاً إلى " أن القوات العراقية إلى الآن في وضع دفاعي وليس هجومياً، وهي لا تستخدم الرصاص"، وقد اعتبر المتظاهرون ذلك بمثابة تهديد مبطّن باستخدام المزيد من القوة. وما تزال لغة الحكومة باردة، بل إنها غير مكترثة بالبشر الذين سقطوا ضحايا العنف، وإلّا لماذا هذا الإصرار على الاستمرار؟ ، وأية قيمة لدستور أو آيديولوجيا أو مبادئ أو حتى أديان أو طوائف إزاء الدماء التي سالت والتي لا يقابلها أي شيء على الإطلاق؟، "فالإنسان هو مقياس كل شيء"، على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس .
صحيح أن الفراغ الدستوري غير يسبب نوعاً من الفوضى لكن الدستور يعالج مسألة الفراغ في المادة 64 ، لذلك إن التشبث بالدستور ليس سوى ذريعة غير مبررة ، علماً بأن الدستور تم وضعه على الرف في العديد من المرات، ناهيك عن كونه أس المشاكل، وقد احتوى على الكثير من الألغام، وهو امتداد للدستور المؤقت للمرحلة الانتقالية الذي صاغه نوح فيلدمان اليهودي الأمريكي المتعاطف مع الصهيونية و"إسرائيل" (2004)، وقبل ذلك هو ما جاء به بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق الذي وضع أسس النظام الطائفي - الإثني في صيغة مجلس الحكم الانتقالي (2003)، وهو الأمر الذي صيغ بعنوان "المكوّنات" في الدستور الدائم (2005) التي وردت عدة مرّات في الدستور.
وتتحمل القوى التي حكمت العراق بعد الإطاحة بالدكتاتورية مسؤولية ما وصلت إليه البلاد، ممثلة بالتيار الإسلامي، وخصوصاً حزب الدعوة، حيث توالى على دست الحكم أربع دورات (الأخيرة لم تكتمل) منذ العام 2005 ففي الأولى والثانية حكم نوري المالكي وفي الثالثة حيدر العبادي وكلاهما من حزب الدعوة ، أما في الدورة الرابعة فقد تم اختيار عادل عبد المهدي، الذي كان مع المجلس الإسلامي الأعلى، وظلّ قريباً من التيارات الإسلامية، حيث تم اختياره باتفاق بين كتلتي سائرون برئاسة مقتدى الصدر والفتح برئاسة هادي العامري وقيل بترشيح أو تأييد ومباركة من السيد علي السيستاني الشخصية الشيعية المتنفذة في النجف، وكذلك بتوافق إيراني- أمريكي.
لا أحد يستطيع أن يتكهّن كيف ستنتهي حركة الاحتجاج، لكن المؤكد أن عراق ما قبل الفاتح من اكتوبر (تشرين الأول) 2019 ، هو ليس ما بعده ، فثمة تغييرات ستحصل في الخريطة السياسية ، بل ستزداد التصدعات في تضاريسها بعد انتهاء حركة الاحتجاج، سواء حققت كامل مطالبها أو جزءً منها، لكن خط التغيير سيأتي، سواء بقيت الحكومة الحالية أم لم تبقَ، فالمؤكد أن العالم كلّه ظلّ يتطلّع إلى حركة الاحتجاج السلمية، وكانت الأمم المتحدة قد أدانت عبر " المفوضية العليا لحقوق الإنسان" "قطع الانترنيت والكهرباء واستخدام الرصاص الحي والمطاطي والغازات المسيلة للدموع من قبل قوات الأمن تجاه المتظاهرين" داعية هذه القوات إلى "حماية المتظاهرين".
إن أحد مؤشرات شرعية الحكم هو رضا الناس وقبولهم ، وكان العديد من دول الاتحاد الأوروبي، والتحالف الغربي الذي تشكل لمواجهة داعش (2014) بما فيه الولايات المتحدة حليفة العراق رسمياً في إطار " معاهدة التحالف الاستراتيجي" قد شجبت استخدام القوة وقتل وخطف المحتجين، ودعت إلى التفاعل بين القادة السياسيين والمواطنين العراقيين المطالبين بالإصلاح، ففي ذلك وحده يمكن تفعيل المطالب لشعبية ووضعها موضع التطبيق، وهو ما ينبغي أن تدركه الحكومة العراقية، لا أن تستمر في تشبثها بجوانب "شكلانية" ، فمثل هذه الأوضاع الاستثنائية تتطلب حلولاً استثنائية.