يبدو أن طريق الحركة الاحتجاجية في العراق سيكون طويلاً أمام إصرار السلطات المتنفذة على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، والاكتفاء بتغيير الوجوه التي طفت على المشهد، هنا وهناك. والجديد هذا الأسبوع، هو الدماء الغزيرة التي سالت في كل من الناصرية والنجف، واستقالة رئيس الحكومة، وما يشاع عن إقالة المسؤول الأمني في مجزرة الناصرية، الفريق جميل الشمري. أسباب الغضب الشعبي العراقي عميقة وترقى إلى الأيام الأولى من عمر الاحتلال الأمريكي حين أسست العملية السياسية على أساس القسمة بين الطوائف، وغيّب في تلك القسمة تاريخ العراق العريق، وهويته العربية. وكل إناء ينضح بما فيه، فلم يكن من المعقول أن تشيد هذه العملية، من دون قيادات تمنح أولوية لهوياتها الصغيرة، ولتكون فوق الانتماء للوطن. وحين يغيب الانتماء للوطن لا تغدو استباحته، ونهب موارده فعلاً شائناً، وعملاً غير أخلاقي. بمعنى آخر، إن الغضب الشعبي العارم، الذي يعم الآن معظم أرجاء مدن العراق، ليس موجهاً ضد أشخاص بعينهم، يتهمهم الشعب بالفساد والاستبداد، واحتكار السلطة، ولكنه يرقى إلى شكل النظام ذاته، لأن هذا الشكل من النظام يولد عصائبية وزبائنية، من نوع غير مألوف، في أنظمة ترى في الانتماء الوطني هوية جامعة لها. تعامل السلطة في العراق مع الأزمة يتم من خلال آليات الحكم، التي هندس لها السفير الأمريكي بول برايمر، والتي يتظاهر الشعب العراقي ضدها، في مدنه وقراه. بمعنى أن المعالجات تتم من خلال الاستناد إلى باطل، والشعب يدرك بحسه العفوي، ووعيه العميق، أن ما بني على باطل فهو باطل. ولذلك يرفض العراقيون الإصغاء إلى لغو المتنفذين في السلطة، ويتمسكون بمواصلة حركتهم الاحتجاجية، حتى يتم اقتلاع الفساد من جذوره. يرفض العراقيون الإصغاء إلى الكلام المعسول، واعترافات اللصوص، بتغول الفساد ونهب الثروات، في السنوات الفائتة. فالاعتراف وحده، من غير استعادة الحقوق، يبدو لغواً لا طائل من ورائه، ما لم يتم إلغاء العملية السياسية ذاتها، وبضمن ذلك دستور المحاصصة، بين الطوائف والإثنيات. هناك ثغرات عدة في الحركة الاحتجاجية العراقية، أهمها أن طابعها لا يزال عفوياً، ومن غير تنظيم أو برنامج سياسي واضح، شأنها في ذلك شأن غالبية الحركات الاحتجاجية التي شهدها الوطن العربي، منذ عام 2011. ومخاطر الحركة العفوية، هو احتمال احتوائها وضربها، أو حرف توجهها. وهي من جانب آخر، في ظل غياب القيادة، قد تفتقر إلى النفس الطويل، حين يطول الأمد في تعطيل مصالح الناس الأساسية اليومية. ثانية نقاط الضعف في الحراك الشعبي الحالي، والبعض يراه نقطة قوة، هو تخندق معظم الحراك، في الشطر الجنوبي من البلاد، في البصرة والعمارة والناصرية وبغداد. بمعنى أن وسط العراق وغربه وشماله، لا تزال خارج الحراك الشعبي. الجانب الإيجابي في تخندق الحراك بالشطر الجنوبي، يدحض ادعاء الميليشيات والأحزاب الطائفية، بدفاعها عن حقوق أهل الجنوب، الذين هم في غالبيتهم من المسلمين الشيعة. لكنه في الوقت ذاته، يحرمهم من عمقهم العراقي، بما يسهل من قمع انتفاضتهم الباسلة. وقد عاش العراقيون من قبل سوابق مماثلة، حين انتفض أهل الأنبار ضد الاحتلال الأمريكي، ولم تتم مساندتهم من قبل أشقائهم في بقية أرجاء العراق. إن الشعب العراقي بأسره متضرر من استمرار العملية السياسية وتبعاتها. وقد شهد العراق، منذ الاحتلال، عام 2003 انتفاضات عديدة، سالت فيها دماء كثيرة، وكانت معضلة هذه الانتفاضات الرئيسية، أنها تمت بمعزل عن بعضها البعض، فيما يشبه المستوطنات المتفرقة. ولا شك أن ذلك من أهم الأسباب الرئيسية لتمكن سلطة الاحتلال، وما تبعها من نظام فاسد، من الإجهاز على تلك المحاولات الشجاعة، لكسر القيود، وإعادة الاعتبار للهوية التي صنعت تاريخ العراق، وما زالت تسكن في وجدان ومشاعر العراقيين. وليس من ضمانة لاستمرار الحركة الاحتجاجية من غير وحدة العراقيين جميعاً، والتفافهم حول انتفاضتهم الباسلة. هناك خشية من تدبير انقلاب عسكري، من داخل السلطة، وبدعم أمريكي، أو إقليمي، يتبنى في العلن مطالب المحتجين، ويعمل في الخفاء على التنكر لها لتكون فيها مرحلة انتقالية، يتم فيها ترتيب الأوضاع الأمنية، وقمع الحركة الاحتجاجية. ومن ثم يعاد ترتيب الانتخابات البرلمانية، على ضوء ما هو قائم، ليعود للوجوه الكالحة مكانها، واعتبارها. التعويل كبير على يقظة العراقيين ووعيهم