ماهية أعمال السيادة
الأصول التاريخية لنظرية السيادة
آثار الدفع بأعمال السيادة
مبررات نظرية أعمال السيادة
التطبيقات العملية لأعمال السيادة
المعايير المميزة لأعمال السيادة
أعمال السيادة في الجمهورية العربية السورية
أولاً- ماهية أعمال السيادة:
أعمال السيادة Les actes de gouvernement/Acts of state هي طائفة من الأعمال الإدارية بطبيعتها والتي تتميز بعدم خضوعها لرقابة القضاء عموماً، سواء في ذلك القضاء العادي أم القضاء الإداري، وذلك مهما كانت درجة عدم مشروعيتها؛ لاتصالها بسيادة الدولة الداخلية أو الخارجية، فلا تكون محلاً للطعن بالإلغاء أو التعويض أو وقف التنفيذ أو فحص المشروعية، وذلك بالرغم من صدورها من جانب السلطة التنفيذية واتصافها بجميع الخصائص التي تتميز بها القرارات التي تخضع لرقابة القضاء. ومن هنا اتجه بعض الفقه لاعتبارها خروجاً صريحاً على مبدأ المشروعية أو استثناءً يرد عليه، فاتخذ منها موقفاً معادياً إلى حد إنكارها من جانب الكثيرين؛ لأن هذه السلطة (التنفيذية) التي تخضع من الوجهة النظرية لمبدأ سيادة القانون تستطيع استغلال فكرة (أعمال السيادة)، فتتخذ إجراءات وتقوم بتصرفات، تسبغ عليها صفة أعمال السيادة، تخرج فيها عن القواعد القانونية التي يتضمنها مبدأ المشروعية، ومن هنا تبدو خطورة نظرية أعمال السيادة؛ إذ تعد سلاحاً خطيراً في يد الحكومة، يمكّنها من ارتكاب تصرفات استبدادية وغير مشروعة في ميدان الحريات العامة وحقوق الأفراد، ولا يجد هؤلاء أمامهم وسيلة للدفاع يدرؤون بها خطر هذا السلاح؛ لأن القضاء ممنوع من التعرض لمناقشة هذه الأعمال التي تتصف بالسيادة.
ثانياً- الأصول التاريخية لنظرية السيادة:
نظرية أعمال السيادة نظرية قضائية، يعود الفضل في ابتداعها للقضاء الإداري في فرنسا، إذ أنشأها مجلس الدولة الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر حينما سلَّم بوجود بعض تصرفات للسلطة التنفيذية لا تخضع لرقابته؛ حفاظاً على استقلاله في مواجهة السلطة التنفيذية.
فقد أنشأ نابليون بونابرت مجلس الدولة عقب قيام الثورة الفرنسية دون أن يملك هذا المجلس سلطة البت النهائي فيما يعرض عليه من مسائل، بل كان يقدم مجرد اقتراحات لرئيس الحكومة كانت تحظى دائماً بموافقة السلطة التنفيذية نتيجة ثقة الإمبراطور نابليون بالمجلس، إلا أنه بعد سقوط نابليون وعودة الملكية إلى فرنسا شعر أعضاء مجلس الدولة بأن رجال العهد الجديد غير راضين عن المجلس، وخصوصاً أنه من إنشاء الإمبراطور المخلوع.
وهكذا قامت الحكومة الملكية الجديدة بتقليص نفوذ المجلس إلى أبعد مدى؛ بإبعاده عن التعرض لأعمال الحكومة ذات الصبغة المهمة؛ مبتكرةً بذلك فكرة أعمال السيادة لتحصين بعض تصرفاتها من رقابة مجلس الدولة.
وحتى يُبقي المجلس على نفسه ويبعد عنه شبح الإزالة استسلم لاتجاه الحكومة وسلَّم بنظريتها في أعمال السيادة، وقررها في أحكامه العديدة. ومن هنا نشأت النظرية وتكرست نتيجة كون قضاء مجلس الدولة حتى ذلك الوقت مازال معلقاً على تصديق رئيس الحكومة، وبالتالي كانت الحكومة تستغل هذا الوضع لتأكيد حقها في تحصين بعض تصرفاتها من رقابة القضاء.
وبسقوط الملكية وعودة الإمبراطورية ثانية تغير وضع مجلس الدولة باسترداده ثقة الحكومة؛ وحصوله على سلطة القضاء المفوض الذي لا يحتاج إلى تصديق أحد منذ عام 1872، ومع ذلك حرص مجلس الدولة على إبقاء نظرية أعمال السيادة ولم يعدل عنها بالرغم من كونها أثراً من آثار الحكم الملكي.
ثالثاً- مبررات نظرية أعمال السيادة:
إن مسألة خروج بعض القرارات الإدارية من دائرة الرقابة القضائية تؤدي إلى نشوء وضع تعجز عن تفسيره القواعد العادية المحدِدة لاختصاص القضاء، ومن أجل ذلك حاول الفقهاء تفسير هذا الوضع وبيان مبرراته ولكنهم لم يتفقوا، ولهذا تعددت مبررات النظرية تبعاً لاختلاف وجهات النظر الفقهية:
1- المبرر التاريخي: وهو مبرر لا يمكن إنكاره، فهو السبب الرئيس لوجود النظرية أساساً، فقد وافق مجلس الدولة على الإبقاء على النظرية في مقابل أن يبقى قضاؤه مفوضاً بالنسبة إلى باقي أعمال الإدارة ملتزماً بعدم التعرض لأعمال السيادة؛ كثمن يدفعه لبسط رقابته على باقي القرارات الإدارية، وعلى الرغم من زوال هذا المبرر بعد أن أصبح مجلس الدولة راسخاً؛ فإنه مازال مستمراً في تطبيق أعمال السيادة وإن كان قد ضيق من نطاق الأعمال التي تعد من قبيل أعمال السيادة.
2- المبررات القانونية: وجد جانب من الفقه أن القضاء ابتدع هذه النظرية معتمداً على بعض المبررات القانونية، ومنها:
أ- نص المادتين (47) من القانون الصادر عام 1849 و(26) من القانون الصادر عام 1872؛ واللتين اعتبرتا أساساً قانونياً لعدم اختصاص مجلس الدولة بنظر أعمال السيادة، فطبقاً لهاتين المادتين يكون للوزراء الحق في أن يحيلوا إلى محكمة التنازع القضايا المرفوعة أمام مجلس الدولة والتي لا تدخل في اختصاص القضاء الإداري. وفي رأي هذا الفقه أن المقصود بالقضايا المذكورة القضايا المتعلقة بأعمال السيادة.
ب- حاول آخرون تبرير تخلي القضاء الإداري عن نظر أعمال السيادة بأنه تطبيقٌ للقواعد العامة في توزيع الاختصاص معتمدين في ذلك على نظريتين.
- نظرية الأعمال المختلطة أو المركبة: واستناداً لهذه النظرية فإن أعمال السيادة هي أعمال قانونية مركبة تصدر من السلطة التنفيذية؛ بمناسبة دخولها في علاقات مع هيئات وطنية أخرى أو سلطات أجنبية لا تخضع بذاتها لرقابة القضاء، ومثالها ما تتخذه السلطة التنفيذية من قرارات بمناسبة علاقاتها مع البرلمان أو بمناسبة علاقاتها مع الحكومات الأجنبية، ففي مثل هذه الحالات لا يكون التصرف تنفيذياً بحتاً، بل يكون تصرفاً مركباً لا تنفرد السلطة التنفيذية بإصداره، وبما أنه لا ولاية للقضاء الإداري بالنسبة إلى التصرفات الصادرة عن سلطة غير السلطة التنفيذية؛ فإن معنى ذلك ألا يكون القضاء الإداري مختصاً بنظر هذه الأعمال بسبب طبيعتها المركبة.
- أعمال السيادة ليست من أعمال القانون الإداري: وهذه نظرية الفقيه ڤيرالي Virally الذي رأى أن الأعمال التي تصدر عن السلطة التنفيذية لا تخضع جميعها لقواعد القانون الإداري، ومن ثم لا ينعقد الاختصاص بشأنها جميعاً للقضاء الإداري وحده؛ لأن اختصاصه ينحصر في مواد القانون الإداري دون غيرها، فقد تقوم السلطة التنفيذية بتصرفات لا تظهر فيها بمظهر السلطة العامة، ومن ثم فإنها تخضع للقانون الخاص وينعقد الاختصاص بشأنها للمحاكم العادية.
أما في مجالات القانون العام التي تظهر فيها الإدارة بمظهر السلطة العامة فإنها أيضاً لا تخضع لنظام قانوني واحد من نظم القانون العام، فإلى جانب ما تجريه الدولة من أعمال تخضع للقانون الإداري والقضاء الإداري هناك طائفتان أخريان من الأعمال تخضع إحداهما للقانون الدولي العام (كما في علاقات الدولة بالدول الأخرى) وتخضع الطائفة الثانية للقانون الدستوري (كعلاقة السلطة التنفيذية بالبرلمان)، وهاتان الطائفتان الأخيرتان من أعمال السلطة التنفيذية تمارسهما في نطاق القانون الدولي العام أو القانون الدستوري، ومن ثم فإنها لا تعد خروجاً عن اختصاص القضاء الإداري بل تطبيقاً للقواعد العامة التي تحكم هذا الاختصاص.
3- المبررات السياسية: حاول بعض الفقه التمييز بين نوعين من الوظائف التي تضطلع بها السلطة التنفيذية: النوع الأول هو الوظيفة الحكومية، النوع الثاني وهو الوظيفة الإدارية والأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية بمقتضى وظيفتها الحكومية، يغلب عليها الطابع السياسي؛ ولهذا فإنها تخرج عن رقابة القضاء وتخضع لرقابة البرلمان. أما أعمال السلطة التنفيذية بمقتضى وظيفتها الثانية فهي التي تخضع في ممارستها لرقابة القضاء الإداري، ويرى ديجي Duguit أن الطبيعة السياسية لهذه الأعمال هي التي تبرر عدم خضوعها لرقابة القضاء، ويفضل إطلاق اصطلاح الأعمال السياسية عليها نظراً لما يثيره اصطلاح أعمال السيادة من لبس قد يؤدي إلى التوسع فيها.
4- المبررات العملية: يرى جانب من الفقه أن نظرية أعمال السيادة بما تتضمنه من خروج على مبدأ المشروعية تجد مبررها في الرغبة في إعطاء الحكام حرية التصرف والحركة لاتخاذ ما يرونه لازماً للدفاع عن الدولة وسلامة شعبها، وبالتالي عدم إلزام السلطة التنفيذية بالإفصاح عن خططها وأساليبها لما ينطوي عليه ذلك من إضرار بالمصلحة العامة.
رابعاً- المعايير المميزة لأعمال السيادة:
اختلف الفقهاء الذين اعترفوا بنظرية أعمال السيادة في تحديد معايير تمييز هذه الأعمال من الأعمال الأخرى للسلطة التنفيذية، الأمر الذي أدى إلى تعدد المعايير المقترحة لبيان الفرق بين أعمال السيادة وغيرها من أعمال الإدارة:
1- معيار الباعث السياسي للعمل: يقوم هذا المعيار - والذي يعد أول المعايير التي ظهرت في فرنسا للتمييز بين أعمال السيادة والأعمال الإدارية - على أساس النظر إلى الباعث الذي أدى إلى صدور القرار أو العمل محل الطعن، فإذا كان الباعث سياسياً - أي يتصل بالسياسة العليا للدولة بقصد حماية مصالح الدولة في الداخل أو الخارج - أصبح العمل من أعمال السيادة، أما إذا كان الباعث غير سياسي فإن العمل يعدّ من الأعمال الإدارية التي تخضع لرقابة القضاء.
وبمعنى آخر تتحدد صفة العمل وفقاً للغرض منه، فهو عمل سيادة إذا ما قررت الحكومة أنها تستهدف من ورائه غرضاً سياسياً، وهو عمل إداري عادي إذا لم يكن الغرض منه سياسياً، وبالتالي فإن العمل الواحد قد يتصف بوصفين مختلفين وفقاً للغرض منه.
يؤخذ على هذا المعيار عدم وضعه حدوداً واضحة لهذه الطائفة من الأعمال بحيث يؤدي إلى توسيع نطاق أعمال السيادة؛ وذلك لإمكانية تذرع السلطة التنفيذية بحجة الباعث السياسي كلما أرادت أن تفلت من رقابة القضاء.
وهذا الاتجاه من شأنه إهدار الرقابة القضائية على أعمال الإدارة وجعل القضاء خاضعاً لأهواء ونزوات السلطة التنفيذية التي تتغير تبعاً لاختلاف الظروف السياسية.
2- المعيار المستمد من طبيعة العمل الذاتية: نتيجة خطورة الأخذ بمعيار الباعث السياسي اتجه الفقه والقضاء للبحث عن معيار آخر لتمييز أعمال السيادة بحيث تكون طبيعة العمل الذاتية - لا البواعث عليه - هي الفيصل في تحديد ما إذا كان من أعمال السيادة أم لا؟ ويؤدي ذلك إلى القول إن هناك أعمالاً صادرة عن السلطة التنفيذية تعدّ بسبب طبيعتها الذاتية من أعمال السيادة وهي التي لا تسمح بأن تكون محلاً للمناقشة القضائية. وبالتالي فإن أعمال السيادة هي الأعمال التي تصدرها السلطة التنفيذية في ممارستها لوظيفتها الحكومية وذلك بخلاف الأعمال الأخرى التي تصدرها في تأديتها لوظيفتها الإدارية، وقد عبر عن ذلك الفقيه لاڤيرير قائلاً: «تنحصر وظيفة الإدارة في التطبيق اليومي للقوانين والإشراف على علاقات الأفراد بالإدارة المركزية أو المحلية وعلاقات الهيئات الإدارية بعضها ببعض. أما الوظيفة الحكومية فيقصد بها تحقيق مصلحة الجماعة السياسية كلها والسهر على احترام دستورها وسير هيئاتها العامة والإشراف على علاقاتها مع الدول الأجنبية وعلى أمنها الداخلي».
غير أن الفقه لم ينجح في الاتفاق على الضوابط الموضوعية التي تسمح بتحديد طبيعة أعمال السيادة والتي تميزها من أعمال الإدارة؛ لأن من الصعوبة إقامة حدود واضحة بين الأعمال التي تدخل في نطاق وظيفة الحكم وتلك التي تتضمنها وظيفة الإدارة، وذلك راجع إلى الأسباب التالية:
أ- السلطة التي تصدر النوعين من العمل واحدة والشكل الذي يتجسد فيه النوعان واحد، ولذلك فإن المعيار الشكلي في تمييز الأعمال الإدارية منعدم.
ب- الطبيعة القانونية للنوعين واحدة بالاعتماد على المعيار الموضوعي.
ج- عدا عن أن هناك أعمالاً إدارية بلا شك ولكنها تصبح في بعض الأحيان أعمالاً حكومية إذا أحاطت بها بعض الملابسات.
الأمر الذي أدى إلى انتقاد هذا المعيار واتهامه بالغموض والإبهام وعدم الوضوح الكافي لتحديد أعمال السيادة، لما يترتب على هذا التحديد من نتيجة خطيرة وهي تحصين العمل ضد رقابة القضاء، وهي نتيجة لا يصح ربطها بمعيار مبهم أو غامض.
3- المعيار الشكلي: إزاء إخفاق المعيارين السابقين في تحديد طبيعة أعمال السيادة حاول بعض الفقهاء اللجوء إلى بعض الضوابط الشكلية لتحديد أعمال السيادة، ومنها:
أ- الاعتماد على النصوص القانونية: ذهب رأي إلى القول إن عمل السلطة التنفيذية يعد من أعمال السيادة إذا اتخذته هذه السلطة تنفيذاً لاختصاصاتها المحددة في النصوص الدستورية، أما الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية استناداً إلى نصوص القوانين واللوائح فإنها تعدّ من قبيل الأعمال الإدارية، إلا أنه أُخذ على هذا الرأي تقريره لتفرقة تحكمية بين أعمال السلطة التنفيذية لا تستند إلى أساس مقبول، علاوة على أنه يؤدي إلى عدم إخضاع الأعمال المقيدة للحقوق والحريات الفردية لرقابة القضاء؛ لمجرد صدورها تنفيذاً لنصوص دستورية، وهو الأمر الذي يُحوّل الدستور من أداة أساسية لتقرير الضمانات التي تكفل حماية حقوق الأفراد وحرياتهم إلى أداة في يد السلطة التنفيذية تستخدمها للتخلص من الرقابة القضائية على أعمالها في مواجهة الأفراد.
لذلك ولما سبق رفض القضاء الأخذ بهذا المعيار ولاسيما أن سلطات الإدارة في تنفيذ القوانين وترتيب المرافق العامة وممارسة الضبط الإداري تجد مصدرها دائماً في النصوص الدستورية الصريحة ومع ذلك تبقى أعمالاً إدارية بطبيعتها، إضافة إلى أنه يعدّ بعض الأعمال المستندة إلى نصوص القوانين واللوائح من أعمال الحكومة.
ب- فكرة الأعمال المختلطة: اتجه بعض الفقه إلى الأخذ بضابط شكلي آخر في تحديد أعمال السيادة، وذلك بالنظر إلى أطراف العلاقة التي صدر بشأنها العمل أو القرار من السلطة التنفيذية. فالذي يميز أعمال السيادة هو أنها تصدر عن السلطة التنفيذية بخصوص علاقتها مع سلطة أخرى لا تخضع لرقابة القضاء، ومن هنا تعد هذه الأعمال مختلطة أي مشتركة بين سلطتين، وتبعاً لذلك فإن الأعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية بشأن علاقتها بالبرلمان من مثل الدعوة إلى إجراء الانتخابات أو دعوة المجلس للانعقاد أو قرار وقف جلساته أو حله، وكذلك الأعمال الصادرة عنها بصدد علاقتها بسلطة أجنبية كالاعتراف بدولة أو تبادل السفراء أو سحبهم أو إعلان الحرب أو عقد الصلح، كل هذه الأعمال تعدّ أعمالاً مختلطة وبالتالي فإنها تعدّ من أعمال السيادة؛ وذلك لمساسها بعلاقات الحكومة بغيرها من السلطات العامة أو الهيئات الأجنبية.
ولأن ولاية القضاء الإداري تقتصر على تصرفات السلطة التنفيذية فحسب بوصفه قاضي السلطة التنفيذية دون غيرها؛ فإن هذه الأعمال المختلطة تخرج عن نطاق اختصاص القضاء الإداري لانتفاء صفة العمل الإداري عنها، ومن ثم لا تصلح لأن تكون محلاً للطعن ضدها بالإلغاء أو التعويض، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أعمال الحكومة مع السلطات الأجنبية؛ لأن هذه السلطات لا تخضع أصلاً لقضائه لأنه قاضي وطني لا يفصل في المسائل الدولية، وما عدا ذلك من أعمال السلطة التنفيذية يخضع لقضاء المجلس في ظل القاعدة العامة وهي مسؤولية السلطة التنفيذية عن أعمالها. وقد أيد جانب من الفقه هذا الرأي باعتباره المعيار السليم لتمييز أعمال السيادة وتبرير عدم خضوعها للرقابة القضائية، في حين انتقده آخرون باعتباره قاصراً عن الإحاطة بكل أعمال السيادة المتفق عليها؛ إذ يصلح لتفسير أو تبرير عدم خضوع بعض أعمال الحكومة لرقابة القضاء دون البعض الآخر.
ج- معيار القائمة القضائية: نتيجة إخفاق المعايير السابقة في تحديد أعمال السيادة وتعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً؛ اتجه بعض الفقه في فرنسا إلى استقراء الأحكام القضائية وتعداد أعمال السيادة طبقاً لهذه الأحكام وخاصة تلك الصادرة عن مجلس الدولة ومحكمة التنازع، مما أدى إلى القول بظهور معيار جديد يعرف بمعيار القائمة القضائية، وهذا ما ذهب إليه العميد هوريو عندما قال: «العمل الحكومي هو كل عمل يقرر له القضاء الإداري ومحكمة التنازع هذه الصفة».
وبمقتضى هذا المعيار يصبح تحديد أعمال الحكومة متروكاً للقضاء ذاته، وما على الفقه إلا الرجوع إلى الأحكام القضائية المتعلقة بأعمال السيادة لحصرها وتجميعها في قائمة تضمها جميعاً.
وواقع الأمر أن هذا الفقه أعياه البحث في أحكام القضاء للوصول إلى المعيار الذي يعتنقه القضاء في تحديد أعمال السيادة، فما كان منه إلا أن اكتفى بتعداد الأعمال التي استبعدها القضاء من اختصاصه من دون أن يوضح سبباً لهذا الاستبعاد معتبراً هذه الأعمال من قبيل أعمال السيادة وفقاً لأحكام القضاء، وساعده على ذلك أن القضاء كان يرفض استخدام اصطلاح أعمال السيادة، مكتفياً بالقول: «هذا العمل موضوع الطعن لا يقبل بطبيعته أن يكون محلاً لخصومة قضائية ومن ثم فهو يخرج عن ولايته»، أو أن «المجلس ليس له أن ينظر هذه الدعوى طبقاً لقانون اختصاصه».
ويؤخذ على هذا المعيار أنه يؤدي إلى تحكم القضاء بدلاً من الإدارة في تحصين عمل أو قرار إداري من رقابته، فهو معيار مرن يخشى أن يكون مرتبطاً باعتبارات سياسية أو بتخوفات خاصة بالقضاء ذاته حرصاً على بقائه بدلاً من ارتباطه بسلامة الدولة في الخارج أو الداخل أو بالمصالح العليا للدولة، وخير دليل على ذلك أن أصل نشأة نظرية أعمال السيادة يرجع إلى تخوف مجلس الدولة الفرنسي من بطش السلطة التنفيذية التي كانت تتربص به خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
خامساً- آثار الدفع بأعمال السيادة:
من المسلم به - حسب الرأي السائد بين الفقهاء - أن تحديد ما يعد من أعمال السيادة أم لا هو أمر متروك للقضاء، فله وحده أن يقرر ما إذا كان العمل الإداري المطعون فيه من أعمال السيادة أم أنه مجرد عمل إداري عادي صادر عن السلطة التنفيذية.
فإذا ما دُفع أمام القاضي الإداري بعدم اختصاصه بنظر النزاع استناداً إلى أن العمل المعروض عليه يعد عملاً من أعمال السيادة، فيتوجب عليه القيام أولاً بفحص العمل المعروض عليه في ذاته ليتبين ما إذا كان يندرج ضمن أعمال السيادة أم لا؟ فإذا ما قبل بالدفع، بمعنى إذا ما تبين له أن العمل من أعمال السيادة فليس أمامه في هذه الحالة إلا أن يحكم «بعدم الاختصاص» أياً كانت الطلبات التي قدمها المدعي في دعواه، سواء أكانت طلبات إلغاء أم تعويض.
إلا أن مجلس الدولة الفرنسي ذهب في بعض أحكامه إلى فهم حصانة أعمال السيادة على أنها حصانة ضد الإلغاء؛ إذ إن ما تريده الحكومة من الاستناد إلى أعمال السيادة ليس سوى المحافظة على العمل الذي أصدرته ومنع المجلس من إلغائه، وبالتالي لن يضيرها أن تتحمل الجماعة الآثار الضارة الناجمة عن عمل السيادة استناداً إلى المبادئ القانونية العامة والتي تقضي بالمساواة أمام التكاليف العامة، ولذلك حكم المجلس بالتعويض عن أعمال السيادة استناداً إلى فكرة المخاطر وتحمل التبعة.
سادساً- التطبيقات العملية لأعمال السيادة:
لئن كان الرأي السائد الآن بين الفقهاء المؤيدين لنظرية أعمال السيادة يُجمع على تحبيذ فكرة القائمة القضائية والاكتفاء بها في تحديد هذه الأعمال؛ فإن هذا الإجماع الذي ينصب على الفكرة ينتفي بالنسبة إلى مضمونها ومحتواها، وذلك نتيجة لاختلاف نظرة الفقهاء للأحكام القضائية عند تفسيرهم لها وتعليقهم عليها، ولكن مع هذه الاختلافات يمكن استخلاص عدد من المسائل المتفق عليها والتي تمثل التطبيقات العملية لأعمال السيادة والمستخلصة من واقع أحكام القضاء:
1- الأعمال المتصلة بعلاقة السلطة التنفيذية بالبرلمان: يقصد بهذه الأعمال تلك التي تشترك بواسطتها السلطة التنفيذية مع البرلمان في أداء هذا الأخير لوظيفته التشريعية وكذلك قراراتها بصدد تكوينه.
ومثال النوع الأول من هذه الأعمال: القرارات المتعلقة باقتراح القوانين أو الاعتراض عليها بعد إقرارها من البرلمان.
أما أمثلة النوع الثاني المتصلة بتكوين البرلمان فمنها: قرارات دعوة الناخبين لاختيار أعضاء البرلمان، وقرارات دعوة البرلمان للانعقاد (عادياً أم غير عادي)، وقرارات وقف جلسات البرلمان، وكذلك قرارات حل البرلمان.
ولا يختص القضاء بنظر الطعون ضد هذه الأعمال على أساس أنها تحرك مسؤولية الحكومة السياسية لا الإدارية، ولأن التدخل من جانب القضاء في هذه العلاقات يعد تجاوزاً منه لحدود اختصاصه الطبيعي.
2- الأعمال المتصلة بالعلاقات الدولية وشؤون الدولة الخارجية: يجمع الفقه على أن جميع الأعمال المتصلة بعلاقة الدولة بالسلطات أو الهيئات أو الأشخاص الدولية لا تدخل في نطاق اختصاص القضاء بالرقابة عليها.
وتضم هذه الأعمال جميع الأعمال التي يقوم بها ممثلو الدولة في الخارج فيما يتعلق بوظائفهم الدبلوماسية، وكذلك التعليمات التي توجهها الدولة إلى دبلوماسييها، وكذلك القرارات التي تتعلق بضم أقاليم جديدة للدولة وإجراءات حماية رعايا الدولة المقيمين في الخارج، وقرارات إنشاء العلاقات السياسية أو قطعها. كما يندرج في نطاق هذه الأعمال التصرفات المتصلة بالمعاهدات والاتفاقات الدولية، مثل المفاوضات التي تدور بشأنها وإبرامها والتصديق عليها وتفسيرها، أما الإجراءات والأعمال التنفيذية لهذه المعاهدات فهي تخضع لرقابة القضاء لما لها من صبغة داخلية.
ويرى أنصار نظرية أعمال السيادة أن الأعمال المتصلة بشؤون الدولة الخارجية هي المجال الحقيقي لهذه النظرية، في حين يرى آخرون أن عدم اختصاص القضاء الداخلي في نظر المنازعات الناشئة من علاقات الدولة الخارجية؛ مرجعه أن هذه العلاقات تخضع لقواعد القانون الدولي ومن ثم تكون المحاكم الدولية هي المختصة بنظر المنازعات المتعلقة بها.
3- الأعمال المتصلة بالحرب: تعد التصرفات المتعلقة بالحرب من أعمال السيادة وفقاً لأحكام القضاء الإداري، ومن مثل هذه التصرفات: قرار إعلان الحرب والإجراءات المتصلة بسير العمليات الحربية، كما يلحق بهذه التصرفات التدابير التي تتخذها الإدارة تجاه رعايا الدول المعادية كإبعادهم أو اعتقالهم أو فرض الحراسة على أموالهم، وكذلك الطلبات الناشئة من الأضرار الحربية التي تنشأ من أعمال القتال وبشرط أن تنشأ هذه الأضرار مباشرة من العمليات الحربية؛ أي كنتيجة حتمية لها؛ وسواء تمت هذه العمليات الحربية على أرض الوطن أم خارج نطاق الإقليم، أما إذا كانت الأعمال التي قامت بها الحكومة غير ذات صلة مباشرة بالعمليات الحربية فإنها لا تعد من أعمال السيادة وتخضع بالتالي لرقابة القضاء الإداري إلغاء وتعويضاً.
4- بعض التدابير الخاصة بسلامة الدولة وأمنها الداخلي: يجري القضاء الإداري الفرنسي على اعتبار إجراءات الأمن الداخلي في ظل الظروف العادية إجراءات إدارية وليست من قبيل أعمال السيادة، ولهذا فهي تخضع لرقابته شأنها شأن الأعمال الإدارية الأخرى. أما بخصوص إجراءات الأمن الداخلي في الظروف الاستثنائية فقبل صدور الدستور الفرنسي لعام 1958 ساير مجلس الدولة الفرنسي آراء الفقهاء المنادين بالتضييق من أعمال السيادة، فقضى في أحكامه بخضوع كل الإجراءات المتعلقة بالأمن الداخلي في الظروف الاستثنائية لرقابته، إلا أنه مع صدور الدستور الفرنسي لعام 1958 حدث تطور جديد؛ إذ قرر مجلس الدولة التمييز بين قرار اللجوء إلى المادة (16) من الدستور والإجراءات التي تتخذ بمقتضى هذه المادة؛ فقرار رئيس الجمهورية باللجوء إلى المادة (16) يعد من قبيل أعمال السيادة، ولذلك لا معقب عليه من مجلس الدولة. أما الإجراءات المتخذة بمقتضى هذه المادة فيجب التفرقة في شأنها بين فرضين:
أ- إذا كانت هذه الإجراءات قد تناولت أحد الموضوعات الداخلة في نطاق القانون طبقاً للدستور؛ فإنها تعد من قبيل الأعمال التشريعية وتخرج بهذه الصفة عن اختصاص مجلس الدولة.
ب- أما إذا تناولت أحد الموضوعات الداخلة في نطاق المادة (27) من الدستور - وهي المادة التي تحدد نطاق السلطة اللائحية للإدارة- فإنها تعد بمنزلة قرارات لائحية تخضع لرقابة مجلس الدولة.
سابعاً- أعمال السيادة في الجمهورية العربية السورية:
أغفل المشرع السوري تعريف أعمال السيادة مكتفياً بالنص على استبعادها من ولاية القضاء سواء العادي أم الإداري. حيث نصت المادة (26) من قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم (98) تاريخ 1961 على أنه «ليس للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أعمال السيادة» وكذلك كان الأمر في قانون مجلس الدولة رقم (55) لعام 1959 حيث نصت المادة (12) منه على أنه «لا يختص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بالنظر في الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة».
وبالتالي فإن هذه الأعمال محصنة بمواجهة القضاء بحيث لا يملك القضاء سلطة إلغائها أو وقف تنفيذها أو التعويض عنها، ولكنه يملك سلطة تكييفها لبيان ما إذا كانت من أعمال السيادة أم لا؟ استناداً إلى سلطته التقديرية.
وبالتالي فإن تحديد عمل من الأعمال على أنه من أعمال السيادة هو مسألة تكييف تقوم بها المحكمة المرفوعة إليها الدعوى، وتخضع في ذلك لرقابة المحاكم الأعلى، وليس ثمة قائمة أو لائحة تنص على تحديد الأعمال التي تعدّ من الأعمال السياسية أو أعمال السيادة، التي يمتنع على المحاكم النظر فيها ولا عبرة لما تدفع به السلطة التنفيذية بهذا الخصوص لأن العبرة لطبيعة العمل وليس للوصف الذي تعطيه الحكومة له.
ففي قرار للهيئة العامة لمحكمة النقض السورية رقم (41) عرفت أعمال السيادة بأنها «تلك الأعمال والتصرفات الصادرة عن السلطات العليا في الدولة وتشمل الأعمال السياسية المهمة فلا علاقة لقيام إحدى الدوريات الأمنية بإطلاق النار على أحد المواطنين بداعي عدم امتثاله لإشارة الوقوف بأعمال السيادة».
في حين جاء في قرار للمحكمة الإدارية العليا في سورية «إن اتخاذ التدابير الأمنية توفيراً للسلامة والطمأنينة العامة يدخل في صلب الصلاحيات والمهام التي تمارسها الحكومة، وتنجو هذه التدابير من الرقابة التي يمارسها القضاء على التصرفات الإدارية والمصالح العامة، وتعد من هذه التدابير منع تجول الدراجات النارية في مدينة دمشق وبعض المدن السورية».
وهو أمر أكدته تلك المحكمة. كذلك في قرار آخر جاء فيه «إن قرار حظر التعامل مع شهود يهود الصادر استناداً إلى أحكام مقاطعة إسرائيل هو إجراء متخذ من قبل الحكومة بما لها من سلطة في نطاق وظيفتها السياسية تستهدف به الحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي للدولة وهو بهذه المنزلة يدخل في مفهوم أعمال السيادة التي استبعدت عن اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري».
وواضح مما سبق عدم وجود معيار قاطع في معرفة طبيعة عمل السيادة، وبالتالي فإن عمل السيادة في الجمهورية العربية السورية - كما هو الحال في فرنسا - هو كل عمل يقرر له القضاء هذه الصفة، فإذا وجد أن العمل من أعمال السيادة حكم بعدم الاختصاص ولم يتعرض للعمل مطلقاً، وهو ما أكدته المحكمة الإدارية العليا في سورية عندما عرفت أعمال السيادة في أحد قراراتها بأنها «تلك الأعمال والتصرفات الصادرة عن السلطات العليا في الدولة والتي يرتأي القضاء الإداري ذاته أنها يجب أن تبقى بمنأى عن الرقابة القضائية؛ بسبب عدم الملاءمة أو مصلحة عليا للدولة يراها، هذا فضلاً عن طائفة أعمال السيادة المعترف لها بهذه الصفة والتي هي في تقلص مستمر في مفهوم الاجتهاد والفقه الإداريين، فهي لا تشمل سوى الأعمال السياسية المهمة كحالات الحرب والعلاقات الخارجية وممارسة رئيس الدولة لبعض مهامه الدستورية وكبعض علاقات الحكومة بالسلطة التشريعية».
مراجع للاستزادة:
- محمد عبد الحافظ هريدي، أعمال السيادة في القانون المصري والمقارن (رسالة دكتوراه، القاهرة 1952).
- عبد الفتاح ساير داير، نظرية أعمال السيادة (رسالة دكتوراه، القاهرة 1957).
- محمد كامل ليله، الرقابة على أعمال الإدارة، الكتاب الثاني (دار النهضة العربية، بيروت 1968).
- عبد الله طلبة، الرقابة القضائية في أعمال الإدارة (مطبعة الكتاب، دمشق 2002).