عندما بدأت مسألة اللاجئين السوريين بالتصاعد كانت الأزمة السورية تأخذ مساحة مختلفة، وربما غير مألوفة، تحاول نقل الصراع الإقليمي باتجاه التركيز على القضية الإنسانية، ورغم أن حركة اللاجئين استطاعت استقطاب حراك أوروبي غير مسبوق، ودفعت بعض الدول، مثل بريطانيا إلى التحرك من جديد على خط الأزمة، إلا أن هذا «التطويق» الإعلامي للمسألة السورية يبدو خارج السياق السياسي، فالهجرة غير الشرعية لم تتوقف وكانت «قوارب الموت» تؤرق السوريين دون أن تظهر على صفحات الإعلام الأوروبي، فعلى خلفية اللجوء تظهر مسألتان أساسيتان؛ الأولى رسم محاور سياسية جديدة في سورية تستند أساساً إلى إيجاد سيناريو بديل للمبادرات التي يتم طرحها اليوم، والثاني إضافة العامل الإنساني ليصبح المحرك الأساسي في البحث عن حلول سياسية توجد وصاية أممية في أي حل قادم للأزمة السورية.عملياً تبدو الخلفية السياسية لمسألة اللجوء نقطة ارتكاز محورية لخلق عملية فرز داخل الصراع في سورية، وإعادة تشكيل العلاقات الإقليمية، وهو محور يهدف إلى شد القوى المحلية والإقليمية في مواجهة سياق آخر يرتسم ما بين طهران وموسكو، ويكون حلقة مهمة نحو الوصول إلى جنيف3، ويمكن هنا قراءة التكوين السياسي الذي تسعى بعض الأطراف إلى رسمه وفق ملاحظتين أساسيتين:
– الأولى : إن القضية الإنسانية لم تعد هامشاً داخل الأزمة السورية؛ فمن المفترض أن تصبح مسارا أساسيا ضمن الحل السياسي، وهذا الأمر يفترض بالدرجة الأولى تبديل العلاقات الإقليمية القائمة اليوم وإزاحة إيران بالدرجة الأولى؛ لتصبح تركيا نقطة الاستقطاب كون الهجرة تنطلق منها....عملياً فإن محاولة إزاحة إيران ليست جديدة، لكنها تستند اليوم إلى آلية مختلفة، فيتم التركيز على مسائل التباعد الجغرافي والاهتمام بالحزام التركي؛ الذي يعتبر أكثر من نقطة عبور للاجئين لأنه يشكل حدود الصراع مع داعش وفق التصور الغربي، وفي المقابل يستند طرح المسألة السورية على خلفية من القضايا الإنسانية بإعادة رسم «المنطقة الآمنة»، أي تشكيل الصراع مع داعش وفق سياق يتجاوز الدولة السورية وعلاقاتها الإقليمية المستند اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التحالف مع طهران والمقاومة اللبنانية.
– الثانية : نوعية الضغوط التي تمارس على سورية عبر البحث عن «انقلاب في المشهد»، فمسألة اللاجئين وتجدد الحديث عن المناطق الآمنة على لسان رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، هو عملياً إعادة رسم حصار جديد على الدولة السورية، وإظهارها كـ«دولة فاشلة» وكسر احتمالات تعزيز علاقاتها القائمة اليوم، فهل يمكن اعتبار ما يحدث محاولات لكسر قوة الدور الإيراني إقليميا عبر استهداف ينطلق أساساً من تغيير معايير الأزمة السورية؟ ...يطرح السؤال السابق مستويين لخلفية المشهد السياسي السوري، الأول مرتبط بالعلاقة السورية– الإيرانية التي يمكن اعتبارها «بنيوية»، أي إنها تحاول استكمال قوس جغرافي فاصل ما بين الدور التركي والدور السعودي، وضمناً الدور الأردني، وهو ما يجعل دمشق تتعامل ضمن خيارات مفتوحة مع طهران دون أي خوف على سيادتها، وما يمكن وصفه بـ«التحالف» انتقل عبر سنوات الأزمة إلى علاقة تتجاوز البنية الإقليمية السابقة لـ«محور المقاومة» ليصبح دوراً جيوستراتيجياً يتجاوب مع طبيعة الحرب المفتوحة اليوم على طول الجغرافية الممتدة من الحدود الإيرانية العراقية إلى ساحل المتوسط....هذه العلاقة البنيوية تفسر الدور الإيراني في بعض المفاوضات المحلية؛ حمص سابقا وكفريا والفوعة في المرحلة الحالية، تلك المفاوضات التي يدخل فيها الأتراك كطرف وسيط مع الجهات التكفيرية والإرهابية، فهي ربما تأخذ بعدا إنسانيا مهما لكنها في الوقت نفسه تؤشر على طبيعة العلاقة «البنيوية» بين طهران ودمشق، ورغم أنها لا تأخذ بعدا إعلاميا نظراً لارتباطها بالواقع العسكري، إلا أنها تؤثر بشكل عام في بناء الدور الجيوستراتيجي للمحور الصاعد اليوم الذي سيؤثر بعمق في بنية الشرق الأوسط القادم.
المستوى الثاني مرتبط بطبيعة العلاقة السورية الداخلية، حيث لا يوجد سيناريو متكامل يمكن التعامل معه نتيجة الاشتباك الإقليمي على الأرض السورية، وتتفق موسكو وإيران على ضرورة المرونة في أي سيناريو داخلي يكسر حدة الطروح المعارضة المستندة إلى قضايا مطلقة أو «انقلابية»، فالمسألة ليست مرتبطة حصرا بإعادة هيكلة النظام السياسي، بل اعتماد آليات قادرة على التعامل مع ظاهرة انتشار التنظيمات التكفيرية من جهة والحفاظ على وحدة البلاد من جهة أخرى، فالشرعية الداخلية هي التي تقرر في ظل الحوار والمشاركة السياسية طبيعة المرحلة، وليس البحث عن بديل سياسي جاهز تقرره السياسات الخارجية....ما يجمع طهران وموسكو داخل الأزمة السورية هي نوعية المخاطر القائمة من اختصار العملية السياسية بما يطلق عليه «الحكومة الانتقالية»، بكل ما تحمله من خلافات في تفسير محتواها، لأنها تحاول خلق بديل سياسي جاهز في وقت أثبتت وقائع الأزمة أن الصراع الإقليمي والدولي هو عامل أساسي في أي تصعيد حاصل، وتحويل الأزمة إلى قضية لاجئين هو جزء من الالتفاف على الفشل في إسقاط الدولة السورية، فالتركيز الإعلامي على العامل الإنساني يحاول سحب الشرعية من الدولة، والتركيز على «الغطاء الدولي» لبديل سياسي افتراضي ربما يتشكل ببطء في ظل استمرار المجموعات الإرهابية كـ«داعش» وغيرها....ِربما تطفو مسألة اللاجئين على السطح الإعلامي، لكن التحول السياسي في الشرق الأوسط أعمق من العناوين والصور، وهو في الوقت نفسه أوجد واقعاً من الصعب تجاوزه عبر التركيز على قضية واحدة، فهناك مرحلة إقليمية جديدة ومسار علاقات إقليمية ودولية لسورية يصعب إلغاؤها، وهذا الأمر هو الذي يجعل التعامل مع الإرهاب في سورية قضية ربما تطول.