تحولت سورية، مع بداية الحرب عليها، إلى ساحة قتال لجميع دول العالم، أدت إلى وقوع مواجهات فيها بين الولايات المتحدة وروسيا. لكن واشنطن حزمت أمرها أخيراً في العشرين من كانون الأول الماضي، وقررت الانسحاب من سورية من دون أي مقابل.
سوف يُسجل هذا اليوم في التاريخ العالمي باعتباره الأهم منذ 26 كانون الأول 1991، تاريخ حل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، حين تحول العالم إثرها إلى عالم أحادي القطب لمدة سبعة وعشرين عاماً، أصبحت خلالها الولايات المتحدة القوة الاقتصادية والعسكرية الرائدة، وسيدة العالم بلا منازع.
بيد أنها بدأت منذ ثلاث سنوات خلت، تفقد مكانتها على الصعيد الاقتصادي، إلى أن تجاوزتها الصين مؤخرا، ثم بدأت مكانتها كقوة عسكرية تقليدية أولى، تتآكل تدريجياً أمام قوة روسيا أيضاً، وقد خسرت فعليا آخر مكانة لها كأول قوة نووية مقابل الأسلحة الروسية ذات السرعة فوق الصوتية.
وقد وفى كل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والجنرال جيمس ماتيس بوعدهما مؤخراً في توقف بلدهما عن تقديم أي دعم للجهاديين، وكذلك سحب قواتهما القتالية من سورية وأفغانستان.
لكن بالنسبة إلى ماتيس، فإن نهاية «التحالف الدولي لمكافحة داعش» الذي يضم 73 دولة بقيادة الولايات المتحدة، يعني أيضاً حل حلف الناتو، ومن غير الممكن بالنسبة له أن يقبل، بوصفه جندياً في القوات المسلحة، فكرة الإقدام على مخاطر حرمان بلاده من التحالفات القائمة.
في المقابل، يؤكد الرئيس ترامب أن سقوط الولايات المتحدة الوشيك، لم يعد يسمح لها بخوض أي حرب من أي نوع.
ووفقا للرئيس ترامب، فقد أضحى الاستمرار في قيادة هؤلاء الحلفاء، والإسراع في إنعاش الاقتصاد الأميركي، أمراً مستحيلا في آن واحد، ولم يأخذ قراره بهذا الشأن إلا بعد نضوج الفكرة تماماً، التي كانت شرارتها الأولى زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف مؤخراً إلى دمشق.
يدير هذا الرجل المجمع الصناعي العسكري الروسي، ويحظى بميزانية خاصة بعيدة عن أعين الرقابة الغربية، لكونها مغفلة في الميزانية الرسمية للدولة، وقد أبرم مع السوريين إبان زيارته، شروط إعادة الإعمار والعلاقات الاقتصادية والمبادلات التجارية، التي سيتم تداولها حصراً عبر مصرف خاص بالروبل، بعيداً عن الدولار.
يأتي هذا القرار أيضاً في أعقاب أول زيارة لرئيس دولة عربية، عمر البشير، إلى دمشق، وزيارة الأخير لا تمثل السودان فحسب، بل نظراءه في الولايات المتحدة، والسعودية، وقطر أيضاً. وبمجرد إبلاغه عن لقاء البشير مع الرئيس بشار الأسد في دمشق، أعلن الرئيس ترامب عن الانسحاب العسكري الأميركي من سورية.
قيل إنه جرت في ذلك اللقاء مناقشة خطة لإعادة إدماج المقاتلين الأكراد في الجيش العربي السوري بمساعدة إيران، من خلال تدخل القوات الشيعية العراقية الرئيسية في هذه العملية.
وبالتزامن مع ذلك، استمر الرئيس ترامب بالتكتم على الإعلان عن صفقة القرن، على الرغم من أن تنفيذها جارٍ على قدم وساق على أرض الواقع، فحماس لم تعد تحارب إسرائيل التي أصبحت تمولها عبر قطر، وسيتعين على النظام الملكي الهاشمي أن يوافق على بسط نفوذه على الفلسطينيين درءاً لمخاطر قيامهم بالإطاحة بنظامه.
أما نظام الفصل العنصري في تل أبيب، فسوف يواجه في السنوات القريبة القادمة مصير نظام بريتوريا العنصري نفسه.
وبالنتيجة، لم يتطور العالم كما كنا نعتقد في السابق، من نظام أحادي القطب، إلى نظام متعدد الأقطاب.
لاشك أن هناك الاتحاد الأوروبي الآسيوي الروسي-الصيني، لكن من المؤكد أنه لم يعد هناك شيء اسمه الغرب.
وهكذا فجأة، بدأت كل دولة من دول حلف الناتو تبحث عن استقلالها، ومن المحتمل أن تأخذ بعض تلك الدول مبادرات بهذا الاتجاه، لقناعتها بحتمية ما يجب أن تقدم عليه، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من أن ينخرط بعضهم مرة أخرى في حروب دموية فيما بينهم.
يبدو أن كل ما تعلمناه من العالم في السابق قد انتهى، فها هو عصر جديد يبدأ منذ الآن.