أفرجت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) عن مجموعة من الوثائق المتعلقة بالإنقلابات التي نَظّمتها الولايات المتحدة في جنوب شرقي آسيا، والمجازر التي ارتكبتها أمريكا (بعد أكثر من عشر سنوات من حرب كوريا وتقسيم شعبها) والتي ذهب ضحيتها ملايين المواطنين في إندونيسيا وماليزيا، وتغيير الحكومات وتنصيب مليشيات، بعضها باسم الإسلام، مُسَلّحة أمريكيا، لتَحْكُم في إندونيسيا وتايلند وسنغافورة وماليزيا وغيرها، بعد مرور أكثر من خمسة عقود على هذه الأحداث، التي تزامنت مع تصعيد الحرب العدوانية ضد شعوب فيتنام ولاوس وكمبوديا، بدعم من بريطانيا وهولندا وأستراليا وغيرها من دول حلف شمال الأطلسي…
كان “أحمد سوكارنو” (1901 – 1970) مُقوما للإحتلال الهولندي لبلاده، واعتقلته القوات الإستعمارية لفترة تفُوق العقد، كما قضى سنوات في المنفى الإجباري، وأصبح رئيسا بعد الإستقلال (1947) واستضاف المؤتمر التحضيري لإنشاء حركة عدم الإنحياز في مدينة “باندونغ” (1955)، وكان حُكْمُهُ يُصَنَّفُ “وطنيًّا” و”تَقَدُّمِيًّا”، بدعم من الحزب الشيوعي (ثالث أكبر حزب شيوعي في العالم آنذاك) وبمساندة الإتحاد السوفييتي والصين، ولذلك انقلب عليه الجنرال “سوهارتو” بدعم من مجموعات الإسلام السياسي والمخابرات العسكرية الأمريكية، سنة 1965، وارتكبت مليشيات الإسلاميين والجيش والمخابرات الأمريكية مجازر راح ضحيتها ما بين مليون وثلاثة ملايين مواطن إندونيسي، من بينهم ما لا يقل عن نصف مليون من أعضاء الحزب الشيوعي ومناصريه وأفراد أُسَرِهم ومن النقابيين والعاملين، المحسوبين على الشيوعيين، وتقهقَر وضع البلاد، من بلاد كانت تقوم بتطوير الزراعية والتصنيع وتعمل على القضاء على الفقر والأمية والفوارق الطبقية، إلى بلاد متخلفة يحكمها الجيش والإسلاميون وكبار مالكي الأراضي، بإشراف أمريكي، ودعمت هولندا (القوة الإستعمارية السابقة) وبريطانيا وأستراليا الإنقلاب والمجازر، والإبادة الجماعية، التي أصبحت تُمْنَعُ مُجَرّد الإشارة إلى حُدُوثِها، وبعد سنوات نشأ جيل جديد، تُمَوِّلُ الولايات المتحدة والدول الأوروبية وأستراليا مُثَقَّفِيه لتأسيس منظمات “غير حكومية” تهتم بالحريات الفردية والجنسية وقضايا “الجندر” والمُثُلية الجنسية، وغيرها، مع حَظْر أي حديث عن الإمبريالية والإستعمار الجديد والقضايا التي أثارها مؤتمر “باندونغ” لحركة عدم الإنحياز، ناهيك عن العدالة الإجتماعية والإشتراكية، فتلك مواضيع قد تُؤَدِّي بصاحبها إلى التّهْلُكَة.
منعت سلطات الجيش وكبار الفلاحين والإسلاميين الحزب الشيوعي، وروّجوا رواية طبَخَتْها المخابرات الأمريكية، ومفادها إن الحزب الشيوعي كان بصدد تحضير انقلاب، ولكن الجيش أنقذ البلاد من الفوضى ومن حُكْم “الكافِرِين” (عبر اغتيال ثلاثة ملايين مواطن؟)، ونشرت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا مجموعة من “المراكز الثقافية” ومن المنظمات “غير الحكومية” التي تكفلت بترويج ثقافة “الإحتلال الدّاخلي” أو ما يسمِّيه ابن خلدون “تَشَبُّه المغلوب بالغالب” (وطور فرانتز فانون المفهوم لينطبق على المُسْتَعْمَرِ الذي يُعْجَبُ بالمُسْتَعْمِرِ)، لأنه اقتنع – بعد غسيل دماغه- بأن هزيمة جيل أجداده وآبائه كانت بسبب تَفَوُّق الثقافة والحضارة الإستعمارية (والإمبريالية) وتخَلُّف كل ما هو مَحَلِّي…
غير بعيد من إندونيسيا، قتل النظام الرجعي في “تايلند”، والموالي لأمريكا، الآلاف ممن اعتبرتهم المليشيات الرجعية والجيش “يساريين” في العاصمة “بانغكوك” وفي شمال البلاد، وقتلت الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها ما لا يقل عن عشرة ملايين شخص في ما سُمِّيَ “الهند الصّيِنِيّة” (فيتنام وكمبوديا ولاوس)، عبر القصف وإلقاء قنابل النابالم والمواد الكيماوية الحارقة والمُسَبِّبَة للسرطان وأنواع عديدة من الأمراض الفتاكة، ولم تقع محاكمة ومحاسبة المسؤولين عن ملايين الضحايا، في بلادهم وفي أرضهم، من قِبَل مُحْتَلٍّ قادم من بلاد تقع على بُعْدِ آلاف الكيلومترات…
حَصل هذا الأمر في مناطق عديدة من العالم، كما أطاحت الولايات المتحدة (كرمز للإمبريالية) بحكومة “محمد مصدق” في إيران سنة 1953 للمحافظة على مصالح شركات النفط، وبحكومة “سلفادور أليندي” في تشيلي (11/09/1973) للمحافظة على مصالح شركات المعادن (ومنها النّحاس)، واغتالت المخابرات الأمريكية و”الغربية” الزعيم الكونغولي “باتريس لومومبا” لأنه تجرّأ على تأميم ثروات البلاد، مباشرة بعد الإستقلال، ولا تزال البلاد في حالة حرب (ثمانية ملايين ضحية خلال عشرين سنة)، ولا يزال يَحْصُل هذا الأمر في أماكن عديدة من مختلف قارّات العالم، حيث لا تزال الطائرات الحربية الأمريكية وحلفاؤها من أوروبا وكندا وأستراليا وغيرها تُلْقي قنابل الموت والدمار ضد شعوب أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسوريا ومالي والكونغو وغيرها، ولا تزال تُنظم الإنقلابات والمؤامرات باسم “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان”، و”حماية الأقَلِّيّات”، ضد حكومات لا تهدف سوى رفع مستوى معيشة الشعوب، أو لا تتفق مع رؤية الولايات المتحدة للعالم، في فنزويلا وفي كوبا وإيران وغيرها…
البيانات الأصلية عن موقع “أُورينتال ريفيو” 04/09/18 + موقع “نيو إيسترن آوتلوك” 18/09/18