ذكّرتني الأزمة العراقية ما بعد الانتخابات والطعون والاتهامات التي صاحبتها، بما سبق وراج في الفكر السياسي والقانوني، «مصطلح النهايات» الذي أخذ يتردّد خلال العقود الثلاثة الماضية «نهاية التاريخ» و«نهاية الفلسفة» و«نهاية الأيديولوجيا»، وأعقبها مباشرة دعوات لمصطلح «الما بعديّات»: «ما بعد التاريخ» و«ما بعد الماركسية» و«ما بعد العلمانية» و«ما بعد الحداثة» وأخيراً «ما بعد الديمقراطية».
واستعدتُ تحذيرات المفكر الفرنسي ألكسيس دوتوكفيل قبل نحو قرن وثلاثة أرباع القرن عن بعض مساوئ الديمقراطية، والخشية على الديمقراطية من الديمقراطية نفسها، وكلّ تلك الانتقادات الحصيفة التي تعتبر «الديمقراطية أحسن نظام حكم سيّئ»، خصوصاً حين يتحوّل «حكم الأغلبية» إلى نوع من الاستبداد أو الدكتاتورية.
والسؤال لا يتعلّق بالعراق أو ببعض البلدان التي انتقلت من أنظمة الاستبداد التقليدية إلى أنظمة انتقالية لم تتوضّح معالمها بعد، حتى وإن زعمت أنها على طريق الديمقراطية، وإنما يشمل الغرب ذاته معقل الديمقراطية، بما فيه الولايات المتحدة التي حاول دوتوكفيل دراسة تجربتها على نحو عميق، فوضع كتابين كبيرين بعنوان «الديمقراطية في أمريكا».
فالديمقراطية لا تتحقق إلّا عبر منظومة متفاعلة من القوانين والأنظمة والمؤسسات الدستورية والقضائية والممارسة والشفافية والتربية، وذلك في فضاء من الحرية والمساواة والمشاركة واعتراف بالتنوّع والتعددّية، فأين نحن من كل ذلك حين يتم اختزال «الديمقراطية» بصندوق اقتراع؟ وهذا الأخير يتم الالتفاف عليه وتجري محاولات مستميتة لتغيير نتائجه والتلاعب به بوسائل تبدأ من التضليل والوعود وتمرّ بالتحريم والتأثيم باسم الدين أو بغيره ولا تنتهي بالتزوير، حيث تعقد الصفقات بوسائل ناعمة أو خشنة، بما فيها التأثير في المؤسسات المسؤولة التي يفترض أن تكون هي الحامية والمحايدة، لا مشاركة ومتواطئة.
وكان صعود قوى شعبوية يمينية متطرّفة إلى قمة السلطة في الغرب بفعل «الديمقراطية» قد نبّه إلى مخاطر جديدة، وكان المثال الأشد تأثيراً هو دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة، الذي دشّن عهده بطائفة من القضايا الّلاديمقراطية والمعادية لحقوق الإنسان بدءاً من موقفه من اللاجئين، ووصولاً إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وما بينهما قضايا تخص حياة الناس من الصحة إلى التعليم، فهل انتهت «الديمقراطية التمثيلية؟
وإذا كان انهيار جدار برلين في العام 1989 قد دفع مفكراً مثل فرانسيس فوكوياما لينظّر عن «نهاية التاريخ» ويبّشر «بظفر الليبرالية»، فماذا سيقول بعد ثلاثة عقود من الزمان، حيث تبيّن التجربة أن الديمقراطية واجهت وتواجه مأزقاً كبيراً في موطنها، الأمر الذي فجّر الكثير من التناقضات، على الصعيد الداخلي في العديد من البلدان الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعد انسحاب بريطانيا منه.
ولم تستطع الديمقراطية كبح جماح الإرهاب الذي تفشّى في جميع بلدان العالم، وأحياناً قادت إلى خيارات سيئة وسلبية جداً، ولعلّ ذلك إحدى المفارقات التي سبق ل ألكسيس دو توكفيل أن طرحها منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وإذا كان مثل هذا التحذير قد ورد على لسان «أبو الديمقراطية» أو حامل صليبها، كما يسمّى، وكانت حينها نظاماً واعداً، فماذا سنقول نحن إزاء تجربة ولدت عليلة منذ البداية وزادت اعتلالاً خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، في ظل استشراء الطائفية والإثنية كنظام للمحاصصة يقوم على الزبائنية، واستفحال الإرهاب والعنف وتفشّي الفساد المالي والإداري واستمرار ضعف الدولة ووجود مرجعيات تحاول تجاوزها؟
لقد تنبأ دوتوكفيل منذ وقت مبكر بخطر الديمقراطية نفسها على نفسها، محذّراً من «الاستبداد الديمقراطي» الذي هو نوع جديد من الاستبداد «أشدّ مكراً» أحياناً من الاستبداد التقليدي، لدرجة أنه يبدو «جذّاباً» لكنه «أكثر فتكاً» من الأول، وهو استبداد «خفي» أحياناً مقابل «الاستبداد المعلن»، وهو استبداد يحطّم قيم الناس، خصوصاً حين تشرعنه السلطات وتعطيه توصيفاً قانونياً «دستور»أو «قانون انتخابات» أو «برلمان»، وكل هذه توظّف لتكريس الامتيازات، ناهيك عن إسهامها في التدليس وسوء الأخلاق، ويتم التبرير أحياناً باسم «حكم الأغلبية» و«إرادة الشعب» وبمعزل عن قيم الديمقراطية نفسها وبلا ضوابط كافية تمنع الارتداد والتراجع عن جوهر الديمقراطية وفلسفتها في الغاية والوسيلة. ويزداد الجدل ويتعاظم أكثر من أي وقت مضى حول جوهر الديمقراطية ومحتواها، وخصوصاً في التجارب الناشئة وفي المجتمعات الانتقالية، فهل «رأي الأغلبية» وحده هو الفيصل في الحكم على الديمقراطية؟ أم ثمة معايير أخرى، تتعلق بالمضمون وليس بالشكل؟ دون إهمال الآليات والوسائل التي هي الأخرى ينبغي أن تكون ديمقراطية، فلا غاية عادلة دون وسيلة عادلة، ولا وسيلة ظالمة توصلك إلى هدف نبيل.
الديمقراطية الحقة لا تحمي المجتمعات من الدكتاتورية الفردية أو «الأقلويّة»، بل ينبغي أن تحميها من «دكتاتورية الأغلبية»، سواء كانت هذه الدكتاتورية سياسية أو مجتمعية باسم العادات والتقاليد طبقاً لاعتبارات دينية أو طائفية أو إثنية بزعم «الأغلبية»، ولا تتحقق الديمقراطية إلّا باحترام رأي «الأقلية»، وإلّا سيكون للديمقراطية الناعمة أسنان حادة وربّما قاطعة.