![]() |
![]() |
![]() |
بقلم: الدكتور رمزي الحكمي
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 03-09-2025 - 181 من مجاهل واقع الطفولة والنشأة في العالم العربي، نقرأ في “اختيار الجنون” مساراً غير موفق لشخص “عاقل” في ذلك المخاض. العنف الأبوي الذي قد يقود الحزام أو السوط فيه الطفل الى ما لا تفعله زنازين السجون السرية في الأنظمة القمعية العربية الكثيرة. النظام القمعي الأول قاد حاتم بن عبد الله، السعودي المتخيل في الرواية، الى تعلم الكذب، نوبات الهلع، القلق، الاكتئاب الجسيم، مسارات مهنية معينة غير موفقة، الكثير من العار وغير ذلك مما ينتهي الى اختيار الجنون. ماذا يعني اختيار الجنون؟ هل نكتب علمياً عن “الجنون”؟ في الحقيقة إن الكاتب ليس كاتباً اعتيادياً بل هو طبيب نفسي يأخذنا في أدق تفاصيل الأدوية النفسية والإدمان التي لا يعبر عنها مثل أديب وطبيب. رمزي الحكمي، زميلنا في العلوم الحقيقية يكتب الملحمة النفسية العربية الأولى، وأنا واثق من نعتها بهذا الوصف مثلما أنني واثق من سلامة الخيوط العلمية التي فيها وضرورتها للواقع العربي وللثقافة النفسية العربية. طفولة جريحة يقول عبد الله والد حاتم لولده بعد سنوات وأثر انهيارات عديدة في حياة حاتم: “لقد قسوت عليك لأنني أحبك، لكي أجعلك من أحسن الناس”. كم سمعنا هذه السردية البائسة. في عدة قصص للعنف الأسري التي سمعتها شخصياً ينتهي حال الطفل بعد نوبة الضرب بالحزام أو بالأسلاك الكهربائية (تماماً مثلما يحدث في السجون) بالتبوّل أو التغوّط اللاإراديين، وهو ما تغطيه القصة. ما سمعته على لسان هؤلاء الآباء الذين تلقوا هم أيضاً تعذيباً مشابهاً هو أنهم أرادوا أن يصنعوا “زلمة” بالتعبير العراقي والسوري أي رجل. الذين يظنون أنهم نجوا فيقتبسون ذلك ويعيدونه على ذريّاتهم. الحرص على نقل التشوهات النفسية يبدو شبيهاً بالانتقال الجيني أو انتقال الميمات حيث ترينا الدراسات أن ظاهرة ممارسة العنف تجاه الأطفال بعد تعرض الوالدين له هو أمر شائع[1]. هل كلهم أرادوا لأطفالهم أن يكونوا الأفضل أو أن يكونوا رجالاً؟ كثير من الأطفال لا ينجون من تلك القسوة المفرطة وحاتم بن عبد الله واحد منهم. ليس كل سلوك حاتم بن عبد الله بالضرورة نابع من تجربة العنف الأسري أو محاولة الاغتصاب أو المجتمع الذي لا يعطي الإحساس بالأمان (عاش حاتم في قرية فقيرة بجنوب غرب المملكة العربية السعودية). مما قام به مثلاً، هو القيام بألعاب تتضمن تمثيله لأدوار تاريخية مثل المعارك والاحداث الإسلامية الأولى. انتهى ذلك بجلسة تعذيب لحاتم من والده (سأختار مصطلحات السجون هنا ليطلع عليها كل والد ووالدة ويعرفوا المسمى الأصح لما يقومون به). هل يستحق لعب الأدوار والكلام مع النفس ذلك؟ كتب رمزي قبل سنوات مقالاً عن الكلام مع النفس أزال فيه الغموض والوصمة من ذلك الفعل الطبيعي جداً. لعب الأدوار هو الآخر أمر طبيعي جداً في حياة الطفل[2]. غير أن الإبلاغات من المعارف التي تصل للوالد والسلوك الوحشي الذي يعكسه يمثلان مؤسسة عربية تقليدية كما يبدو تجعلنا نتسائل لماذا نلوم الأجهزة الأمنية. اختيار الجنون تضع اللوم على الممارسة الأكبر والأكثر اتساعاً. كم شخصاً يقرأ هذه الأسطر قد عانى من تلك البلاغات الأمنية من الجيران والأقارب الى والديه؟ حياة حاتم تشخص بخطاياه، وبأحداث السحق النفسي التي تعرض لها مثلما حدث بعد تمثيله لمعركة أحد وهو يلعب مع نفسه في ارجاء القرية. الخطايا ليست مواضع ذنب عابرة بل هي عار عميق في الذات. لحاتم وللكثيرين عار أزلي. العار من الجنس والاستمناء والعار بشكل عام من أمور عادية. الرحلة النفسية يتعرض رمزي الحكمي الى سيناريوهات متكررة في حياة من يعانون من أزمات نفسية مثل تلقيهم نصائح دينية أو وعظاً دينياً أو دعوات الى الالتزام بالصلاة والدين بشكل عام بدلاً من المساعدة الحقيقية. دخول بعض الشباب الى التجربة الدينية بعمق في العالم العربي أمر من الصعب شرح روابطه مع الحياة ولا يزعم الحكمي في الرواية أنه مرتبط بظرف من ظروف التنشئة لكن حاتم يدخل تلك التجربة الدينية ويصبح “مطوع” بالاصطلاح السعودي لفترة ما. هناك بعض الأبحاث عن التأقلم مع الصدمة النفسية والتدين مثلاً زيادة التوجه الى الصلاة اثر تجربة صادمة.[3] مع ذلك فإن العلاقة بين التدين وصدمات الطفولة أو الصدمات بشكل عام غير محسومة في البحث العلمي. الرقية الشرعية كانت مما وضعه المجتمع والعائلة بوجه حاتم علاجاً “لجنونه” والذي لم يكن سوى ثورة غضب تجاه والده المتغطرس: “شمر الشيخ عن ساعديه، وراح يلمسني ويرتل آيات من القرآن، غير أنني لم أنبس بكلمة ولم يرف جفني لما سمعت، وكان أغرب ما رأيت من السخرية وسوء العاقبة أن أبي كان الوحيد الذي انفعل لما قرأ الشيخ من آيات السحر والجن فخر على الأرض كأنه مصروع”. يتطرق الحكمي الى أمور قد يجهل الكثيرون علاقتها بأزمات القلق مثل صرير الأسنان اثناء النوم. ينتهي الحال ببعض من عاشوا مع حاتم بتركه بسبب الازعاج الذي يصدره بأسنانه ليلاً. يتحدث أيضاً عن الخوف الكامن الذي لا يحتمله الجسد والذي يتجسد أثناء النوم؛ الشعور الدائم بالتعب وآلام العضلات؛ جفاف الحلق وشرب الماء في الليل. ألا يبدو كل ذلك مألوفاً لك في أشخاص من عالمك؟ يسلك حاتم سلوكاً متطرفاً أيضاً في قضايا كالعلم والدراسة فيرمي قلمه على الأستاذ على اثر نقاش في الصف. كم نرى من ذلك في حياتنا وفي قضايا أكثر خطورة مثل النقاشات السياسية والطائفية في بلدان غير مستقرة ومتنوعة طائفياً. هل لذلك السلوك ربط مع تجارب الطفولة الصادمة أم مع البناء النفسي الناتج منها والمتكون من مزيج نفسي قد لا يمكن اختزاله بعبارات “الاكتئاب” و”القلق” فحسب. يقدم الكتاب صورة ايجابية للطبيب النفسي ويعطي أيضاً صورة للتدخلات النفسية السليمة التي تنتمي الى ثقافة العلاج النفسي فضلاً عما يقدمه الطب النفسي من أدوية. سيبراليكس للقلق وبروزاك للاكتئاب هما الدواءان اللذان تم وصفهما لحاتم وشعر حاتم بتحسن كبير اثر ذلك. لم أجد وصفاً يجمع الآثار الجانبية، الآثار الإيجابية، تطور مفعول الدواء مثلما قدمه رمزي الحكمي في هذا الكتاب بلغة أدبية رصينة فضلاً عن علمية الوصف. تقديم الحالة طيلة الحياة بكل ما مر به الشخص هو أمر متقدم يعرض تعقيد القضايا النفسية لا اختزالها ويضع الأدوية النفسية والتداخلات النفسية الصحيحة في السياق الصحيح كما يشرح كيف أن الطب النفسي يمكن أن يساعد لكن عملية “الشفاء” لا تبدو مثل وصف مسكن ألم لوجع الرأس وليس كأي مجال آخر من الطب. نرى كيف أن حاتم ذاته لم يتخذ مساراً ايجابياً لكن نفهم كيف أن الطبيب النفسي كان تقريباً الشخص الإيجابي الأبرز في حياته. يقول حاتم لطبيبه الدكتور يزيد: “أدركت أن من حقي أن أسمع وأرى بدلاً من قضاء ما بقي من عمري محاولاً إعادة تمثيل كل ضربة سوط أوقعها أبي في ظهري. وفي تلك الساعة، عرفت أن ما كنت أعيشه من رعب – تمثل في ضربات قلبي، وضيق أنفاسي، وتنميل أطرافي، وىلام ظهري من دون إصابة أو مرض – كان يعني أنني لم أزل، إلى ذلك اليوم، عالقاً في مشهد حاتم الطفل، وهو يتدرع بيدين صغيرتين من هجوم أب لم يجد طريقة أمثل للتعامل مع عقده النفسية وتشوه تكوينه الإنساني من أن يلتهم أحد أبنائه كخنزير خائف”. قد لا نحتاج أمام نص كهذا أن نبحث عن أدلة في البحث العلمي إثر كل ما نعرفه بل أن نتوقف أمام التجربة الإنسانية. استشهد بهذا المقطع من كتابنا “العلاج النفسي: كيف نواجه المعاناة النفسية عبر العلم”[4]: ترتفع نسبة الإصابة بالأمراض المزمنة إلى الضعف لدى من عانوا من تجارب الطفولة السلبية، بحسب دراسة أُجريت في ويلز وأشارت إليها بولير وبلير. أولئك الذين عانوا من 4 حوادث صادمة مختلفة في طفولتهم لديهم نسبة تزيد بأربعة أضعاف للإصابة بالسكري من النوع الثاني مقارنة بالآخرين، وثلاثة أضعاف النسبة لتطوير مرض في الجهاز الدوري. أما أولئك الذين مروا بـ 6 تجارب في الولايات المتحدة، فهم معرضون للوفاة في سن مبكرة تصل إلى 20 سنة مقارنة بغيرهم. كما أنهم أكثر احتمالًا بثلاثة أضعاف لعدم اختبار شعور الاسترخاء مطلقًا، وستة أضعاف أكثر احتمالًا لعدم الشعور بالتفاؤل على الإطلاق. فضلاً عن تضاعف نسب التعرض للإدمان على الكوكايين والهيرويين بأضعاف كبيرة مقارنة بالأشخاص غير المتعرضين للمحن القاسية في الطفولة. بالحديث عن فالإدمان كان المرحلة التالية من الكتاب. لكن من الجدير بالذكر أيضاً حول التجربة النفسية أن الكتاب يتجاوز الطب النفسي العصري الى تاريخ العلم ويقدم معلومات عرفتها شخصياً لأول مرة مثل وصف ابن سينا للاكتئاب وتعريفه بالميلانخوليا وتقديم بعض النصائح القائمة على العناية بالذات لعلاجه. كما وصف ابن سينا الهوس الجنوني (المانيا كما عرفه ابن سينا). يتعرض الكتاب أيضاً، سواء في حاتم أو في آخرين، لحالات أخرى كالفصام أو الهوس والهلوسات وغيرها. الإدمان: مأزق العصر يتعرض الكتاب أثناء ذلك لعالم آخر يرافق الإدمان حيث يتخلى حاتم عن مراجعة طبيبه ويشهد بيع الادوية في السوق السوداء وانفتاح الأمر على تجارب أخرى للمؤثرات النفسية. أروع الحوارات الفلسفية في الكتاب أو مجرد الحوارات الفكاهية التي يستمتع بها من يفهم السياق كلها كانت حوارات في جلسات القات، لكن هذا هو جزء من التجربة التي ينقلها الكتاب. كيف سترى كل تلك النشوة وأنت ترى ما حدث لاحقاً؟ شخصياً أثار الكتاب اشمئزازي من تجارب مؤثرات نفسية كالقات بعد الانتهاء من الكتاب. جانب مما يحدث أيضاً هو نمط الاتصال مع الناس والصلة بهم والتعامل مع الحالات الصعبة كالفقد والأزمات المالية في ظل الإدمان. الإدمان بذاته فضلاً عما يوصف من الآثار النفسية والصحية السيئة قد لا يمثل النهاية لشخص مثل حاتم لكن أمور أخرى ستكون حتماً جزءاً من تجربة الادمان. الجنون في البداية ما هو الجنون؟ يذكر الكتاب تجربة روزينهان (Rosenhan) حيث يدخل سبعة أشخاص للمصحات العقلية متظاهرين بأعراض معينة ويصدق الأطباء كونهم مجانين. ينتصر الكتاب للطب النفسي هنا وللمجنون البريء من جنونه حيث يخوض حاتم حواراً مع أطباء متدربين يصمونه بمختلف التسميات ومنها الفصام أو الهوس، لكن الطبيب الأقدم المرافق للمتدربين يوضح لهم أن المجنون ليس كما يتصورون وهو لا يعاني من أي مشكلة. وكأن الأطباء المتدربين لم يكونوا بمنأى عن الصاق التسميات والأنماط فهم أسرى لتسمية “الجنون” وهم يسخرون علمهم لخدمة الانطباع البدائي، لكن وجود الطبيب الأقدم العارف وضح الزلل. هل سنجد هذا الطبيب في المؤسسات النفسية والمستشفيات في العالم العربي؟ آمل ذلك. يتعرض الكتاب أيضاً للواقع القانوني والاجتماعي تجاه “الجنون”. كيف يصبح الأشخاص أكثر تسامحاً أو أكثر قسوة أو أكثر اهمالاً تجاه شخص ما فقط لأنه يبدو بمظهر معين كالمجنون. وكيف يتغاضى القانون عن أمور أو يسقط قضايا معينة فقط أمام سلسلة من السلوكيات والأقوال. اللغة الحوارات لا تدور حول اللغة بشكل مجرد فحسب بل في اللغة العربية وتفاصيلها ودخول ذلك في النكت والغزل والتفريغ النفسي والحوارات النفسية وحوارات القات. تقدم اللغة في الكتاب ككائن حي آخر وهو تشبيه وارد في الأوساط العلمية فضلاً عن الفلسفية فيتحدث الكاتب مثلاً عمن جعلوا اللغة “صحراء لا روح فيها” وعن “قتل اللغة”. ومن ثم يتحدث عن اللغة ككيان فمثلا ” أدمنت قراءة الفلسفة حين لم يعد لدى اللغة ما تقوله لي” ويبدأ تمرده على اللغة “ما حزني فهمجي وحشي يسبق اللغة بملايين السنين”. يعبر الكاتب عن ذلك الطيف من التجارب الذهنية التي لا تطالها اللغة. أمر كهذا عبر عنه دانييل دينيت وآخرون حين قال أنه لا يشترط بجميع العملاء في العقل أن يمتلكوا محتوى لغوي[5]. أقتبس من الكتاب: “إلا أن محدودية اللغة في تصوير الواقع تشكل عقبة لدى صاحب الكلام إذا أراد وصف نحر الرجل نفسه بفعل مباشر لا يحتمل صيغة المطاوعة على وزن افتعل. ولعل قائلا يقول: إن الفعل في الجملة مطاوع وفاعله نحوي بمعنى (نحر الرجل جسمه أو حلقه فانتحر” ومثله استماتَ (استموت؟؟) إلا أن هذا لا يعكس حقيقة ما حدث من قتل الرجل نفسه ويدعو إلى اختلاق فعل ينقل الحقيقة بكليتها كما هي دون التوسل بالمجاز اللغوي لجعل الجملة تتمسك بتركيبها وحمايتها من تفكك منطقها اللغوي. أن يبحث عن لغة من لغات العالم تملك فعلا خاصا بالانتحار لا يحتمل المطاوعة كما في العربية أو “قتل النفس” كما في الإنجليزية، عن اللاتينية التي تشارك العربية في وصف الفعل بقتل (cide) النفس (sui)، فعجب من سؤالي وعاد بعد عدة جلسات بخفي حنين، لم يجد لغة في العالم بحسب اطلاعه تملك فعلا مباشرا للانتحار. وأعني بالفعل المباشر ألا يتضمن قتل النفس، نحو (jisatsu suru) في اليابانية، و(zisha) في الصينية، و(sich umbringen) في الألمانية. ذلك لأن المنطق لا يقبل تعبير “قتل النفس” لما يشتمل عليه من مغالطة، فالنفس بمعناها الحرفي ليست موضوعا للقتل” وأتوقف هنا تاركاً نقاش اللغة لمقال آخر، لكن رسالة الكاتب حول اللغة تمثل أمراً محورياً في الكتاب. خلاصة المصادر : [1] Greene, Carolyn A., et al. “Intergenerational effects of childhood maltreatment: A systematic review of the parenting practices of adult survivors of childhood abuse, neglect, and violence.” Clinical psychology review 80 (2020): 101891. [2] Tekinbas, Katie Salen, and Eric Zimmerman. Rules of play: Game design fundamentals. MIT press, 2003. [3] Trevino, Kelly M., and Kenneth L. Pargament. “Religious coping with terrorism and natural disaster.” Southern medical journal 100.9 (2007): 946-947. [4] عمر المريواني، العلاج النفسي: كيف نواجه المعاناة النفسية عبر العلم، العلوم الحقيقية، لندن، المملكة المتحدة [5] كتاب شرح الوعي لدانييل دينيت: قراءة في الفصول الست الأولى من الكتاب، العلوم الحقيقية
لا يوجد صور مرفقة
|