في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتبدل التحالفات، يبدو أن الحروب التقليدية لم تعد الوسيلة الوحيدة لتحقيق الهيمنة. فبدلاً من المعارك الشاملة التي تتسبب في دمار شامل ومباشر، تتبع القوى الكبرى اليوم استراتيجيات أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً تهدف إلى تفكيك المجتمعات وإضعاف الدول تدريجياً. هذه الحروب، التي باتت تعرف بحروب الجيل الرابع، تُدار بذكاء وتُنفذ بأسلوب ناعم، ولكنها تُحدث تأثيراً عميقاً ودائماً .أولى مراحل هذه الاستراتيجيات تبدأ بالتفكيك الأخلاقي للمجتمعات. يتم استهداف منظومة القيم والأخلاق، بهدف خلق حالة من الاضطراب الداخلي تجعل المجتمع ينهار من الداخل دون الحاجة إلى تدخل خارجي مباشر. هذا التفكيك لا يحدث فجأة، بل يُنفذ على مراحل، وبأسلوب يضمن استمرار النزيف الأخلاقي والاجتماعي لفترات طويلة . الحروب الحديثة لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالاقتصاد، والسياسة، والإعلام، وحتى الثقافة. هذه الحروب يتم تنفيذها بواسطة دول كبرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، بمساعدة عملاء إقليميين. الهدف واضح: تحويل الدول المستهدفة إلى دول فاشلة، تجعلها عاجزة عن توفير أبسط احتياجات مواطنيها، مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي . على عكس الحروب التقليدية التي تسعى إلى حسم سريع، تتبع القوى الكبرى استراتيجية القتل التدريجي والبطيء. يتم استنزاف موارد الدولة واستغلال أزماتها عبر فتح جبهات متعددة في آنٍ واحد. قد تهدأ جبهة هنا ، لكن سرعان ما تفتح جبهة جديدة في مكان آخر. هذه الاستراتيجية تضمن إبقاء الدولة في حالة من الركض خلف الأزمات دون الوصول إلى حلول حقيقية . عادة ما يتم توجيه الضربات الكبرى إلى الجبهة الاجتماعية. التلاعب بالاقتصاد، زعزعة الاستقرار السياسي، وإشغال الناس بالأزمات اليومية مثل الكهرباء والرواتب، كلها أدوات تهدف إلى إنهاك الشعوب وتحويلها إلى مجرد أرقام في معادلة الفشل . جزء أساسي من هذه الحروب يتمثل في الإعلام والبروباغندا. يتم تضخيم الأحداث التافهة، وتحريك الجيوش الإلكترونية لتوجيه الرأي العام، ثم فرض الصمت في اللحظة المناسبة. الهدف هو التحكم الكامل بالمزاج الشعبي وخلق حالة من الإرباك واللايقين . بحسب تعريف البروفسور ماكس مانوارينج، خبير الاستراتيجيات العسكرية، فإن حروب الجيل الرابع تشمل : اولاً_ صراعات معقدة وطويلة الأمد . ثانياً _ استخدام الإرهاب كأداة . ثالثاً_الهجوم على ثقافة العدو وتفكيكها. رابعاً_ استهداف المدنيين بأساليب نفسية وإعلامية. خامساً_استنزاف الموارد الاقتصادية والسياسية . هذه الحروب لا تتطلب جيوشاً ضخمة أو معدات عسكرية متطورة، بل تعتمد على فرق صغيرة، مدعومة بتمويل غير محدود وشبكات اتصالات متطورة . الهدف الأساسي لهذه الحروب ليس الانتصار العسكري، بل تحقيق أهداف سياسية واجتماعية عميقة، مثل تغيير الأنظمة، تفكيك المجتمعات، وإضعاف الدول إلى حد العجز الكامل. هذه الاستراتيجيات تخلق وهم الصراع الداخلي، حيث يبدو وكأن الدول تسقط من تلقاء نفسها، في حين أن الحقيقة هي نتيجة لتخطيط خارجي محكم. الحروب الناعمة التي نواجهها اليوم تمثل أخطر أنواع الصراعات. إنها حروب تُدار بعقل بارد وبأساليب دقيقة، تستهدفنا في جوهر وجودنا وهويتنا. فهم هذه الاستراتيجيات والتصدي لها يتطلب وعياً مجتمعياً شاملاً، وإدراكاً عميقاً بأننا لسنا ضحايا للصراعات المحلية فحسب، بل لسياسات عالمية تهدف إلى إبقائنا في دائرة الضعف والانهيار .