يُمثل الدولار منذ عشرات السنين رمز قوة الولايات المتحدة الأميركية، وأحد أسبابها. يأتي ذلك من عوامل عدة، تعزز عناصر القوة الأميركية، والكلّ يعلم مدى ارتباط الدولار بالسلع الأكثر تداولاً في العالم، لا سيما النفط، بالإضافة الى استدامة الطلب على الدولار وشرائه مقابل عملات أخرى.
والمعلوم أيضاً أنّ أكثر من ستين دولة في العالم تربط عملاتها المحلية بالدولار الأميركي. كذلك من عوامل القوة السياسية والجيوسياسية مدى كفاءة الإدارة الأميركية والمجتمع الداخلي سابقاً، وقدرتها على الهيمنة وفرض أجندات سياستها الخارجية على العالم.
طبعاً عدا عن القوة العسكرية والهيمنة الجيوسياسية فإنّ أميركا تنتهج سياسة العقوبات منذ سنوات بعيدة، خاصة منذ إنشاء النظام العالمي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن العشرين، حين توغّلت أميركا أكثر فأكثر في فرض العقوبات على كلّ من يواجه أو يعارض سياستها أو مَن يتحدّى قوّتها العسكرية.
أما في أيامنا هذه فقد بدأت الولايات المتحدة تشعر وتلمس أنها لن تستطيع الاستمرار بهذه السياسة لأنّ دولاً كثيرة بدأت تبتعد عن الدولار وتستغني عنه شيئاً فشيئاً...
وقد تبيّن أنّ استعمال الولايات المتحدة للدولار كسلاح ما هو إلا سياسة خاطئة بهدف محاربة الدولة التي تعارض سياستها الخارجية، من هنا فإنّ الدولار يتجه لأن يصبح في عزلة، والدليل على ذلك ما تفعله الصين التي قطعت أشواطاً كبيرة على طريق الاستغناء عن الدولار في معاملاتها التجارية الدولية، وقد نجحت أولاً بالتعاون مع روسيا بتحويل 95 بالمئة من تعاملاتهما الاقتصادية والتجارية الى العملتين المحليّتين للبلدين (الروبل واليوان) وهذه التعاملات قيمتها مئات مليارات الدولارات. كما استطاعت الصين الاتفاق مع السعودية على تعزيز المبادلات التجارية بعملتيهما المحليتين (اليوان والريال)، خاصة أنّ صادرات النفط من السعودية إلى الصين تصل الى حوالي 80 مليار دولار سنوياً، وتسير الخطوات بنجاح نحو الاستغناء عن التعامل بالدولار الأميركي.
ويعزز هذا التوجه قيام مصارف صينية كبيرة بافتتاح فروع لها في الرياض لتسهيل تعامل الشركات السعودية باليوان الصيني، بمعنى انه من المرتقب ان يتمّ تعميم مثل هذه التعاملات بالعملات المحلية لكلّ الدول المنضوية في منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس والتي تضمّ في تعداد سكانها أكثر من نصف سكان العالم.
هذا كله يضع الدولار في موقع صعب جداً خاصة أنّ الاقتصاد الأميركي تراجع موقعه الى المرتبة الثانية عالمياً بعدما صعدت الصين بقوة الى المركز الأول. ويبقى أن تنجح هذه الدول في مساعيها لخلق نظام تحويلات مالية عالمية من دون الحاجة الى المرور عبر الولايات المتحدة الأميركية، وهذا الأمر ليس ببعيد وعندها لن يبقى أيّ قيمة تُذكر للدولار إلا في التاريخ...
إنّ سقوط الدولار بشكل دراماتيكي لن يحصل في الوقت القريب، لأنّ الأمر هنا يتوقف على مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي لإيجاد بديل للدولار، ذلك أنّ العالم أجمع يحتاج وبشكل ملحّ الى إيجاد بديل للدولار كي نخرج منه، والصين وروسيا نجحتا في تحقيق الكثير من الخطوات باتجاه حلّ هذه المشكلة.
وتُعدّ روسيا من أكثر البلدان المهتمّة بهذا الأمر للتخلص من الهيمنة الغربية، ولم يكن من المستغرب ان يتقدّم الخبراء الماليون والاقتصاديون في روسيا بدراسات معمّقة في مناقشة هذه القضية، ولا شكّ أنّ الإجماع على العملة الموحدة للدول في مجموعة بريكس يتطلب من هذه الدول التخلي نوعاً ما عن بعض السيادة، فالكلّ يعلم انّ الدول التي تتكوّن منها هذه المجموعة هي دول متفقة في ما بينها إلى حدّ ما، لكنها تحتاج الى اتخاذ خطوات ملموسة ولو بشكل تدريجي باتجاه تكامل سياسي واقتصادي، لكي تستطيع فعلاً أن تذهب بشكل موحد، وربما لاحقاً بعملة موحدة.
وعندما نتحدث عن أعضاء بريكس ومنظمة شنغهاي فنحن نتحدث عن دول كبرى مثل الصين وروسيا اللتين تمثلان رأس الحربة في هذه المواجهة، وحين تذهب هذه الدول الى علاقات ثنائية وتجارية مع دول العالم، وهذا ما تفعله إيران أيضاً، فإنّ كلّ العوائق في التبادل التجاري تبدأ بالزوال، وقد وصل الأمر بالمرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب ليقول إنّ الدولار في خطر وانّ سياسة العقوبات خاطئة، والكلّ يعلم أنه على مستوى الشعوب باتت الثقة مفقودة بالدولار الأميركي، وهناك الكثير من المتموّلين الكبار في العالم يذهبون إلى شراء العقارات أو الذهب أو غير ذلك من أصول ثابتة بعيداً عن تأثير الدولار.
انّ حجم التبادل التجاري بين روسيا والعالم كبير، وهي المُصدّر الرئيسي للغاز، والجميع يعلم مدى تأثير هذا الأمر على العالم، وروسيا اليوم أعطت نموذجاً ممتازاً في علاقاتها الدولية، وهذا ما فعلته الصين أيضاً، مما يضع الولايات المتحدة على أبواب عزلة اقتصادية تجعلها تتراجع إلى المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، فيما تقدّمت الصين إلى المركز الأول والهند إلى المركز الثالث وروسيا إلى المركز الرابع، مع تراجع كلّ من اليابان وألمانيا إلى المركزين الخامس والسادس، مما يجعل سياسة العقوبات الأميركية كمن يفرض العقوبات على نفسه...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ