في ظلّ ترويج ما يزعم اليهود أنهم تعرّضوا له في القرن العشرين مما يسمّونه «الهولوكوست» او المحرقة على يد النازي هتلر، استرسلت الحركة الصهيونية العالمية في ابتزاز الأوروبيين والعالم برمّته ودفعوا في اتجاه اعتبار الحادث المزعوم أمراً من المقدّسات التي يحرم المسّ أو التشكيك أو حتى مناقشتها وفرضوا على العالم التسليم بانّ «الهولوكوست» حقيقة ثابتة قتل فيها أكثر من 5 ملايين يهودي. وهو طبعاً زعم لا دليل قاطع على صحته، كما أنّ وقائع وظروفاً تاريخية تنفي إمكانية حدوثه بشكل منطقيّ، ومع ذلك يُصرّ اليهود عليه وتدعمهم في ذلك أنظمة أوروبية تعيش عقدة الجريمة المدعاة.
وتسلّح اليهود بهذا الزعم مدعومين ومحتضنين من الغرب الأوروبي أولا ثم الأميركي بعد ذلك، توجّهوا الى فلسطين لاتخاذها «وطناً قومياً» لهم حتى ولو كانت الطريق الى ذلك إبادة شعبها! وقد برّروا جريمتهم مسبقاً برفع شعار كاذب مزوّر يتضمّن القول: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهي مقولة او شعار كاذب أطلقوه وأرادوا منه إنكار وجود شعب في فلسطين وإنكار حتى كلمة فلسطين والتعامل مع الواقع كما لو أنّ الشعب الفلسطيني غير موجود مطلقاً، ولما أصدرت الأمم المتحدة القرار 181 الذي قسّم فلسطين الى دولتين يهودية على 55% من فلسطين التاريخية وفلسطينية عربية على 45% منها سارعت الصهيونية الى إقامة «إسرائيل» على القسم الأول ومارس الصهاينة شتى صنوف الإرهاب على سكان الأرض قتلاً وتهجيراً وتشريداً حتى منعوهم من إقامة «الدولة الفلسطينية» التي جرى تشتيت أرضها، فاحتلت «إسرائيل» نصفها (أيّ 23% من أصل الأرض) وألحق الباقي أيّ 22% من أرض فلسطين التاريخية بالأردن (ألحقت به الضفة الغربية) ومصر (ألحق بها قطاع غزة). وفي المحصلة تشتت الفلسطينيون بين لاجئ يحلم بالعودة تطبيقاً للقرار 194 ومواطن من الدرجة الثانية منتقص الحقوق استمرّ على أرض فلسطين تحت حكم «دولة إسرائيل» وملحق بالأردن او مصر الى أجل غير مسمّى.
في مواجهة هذا الواقع للشعب الفلسطيني المشتت اعتمدت «إسرائيل» استراتيجية إنكار الوجود كلياً، إنكار يبرّر احتلالها لأرض فلسطين التي كانت وفقاً لزعمهم «بدون شعب»، وعملاً بهذا الاعتقاد والزعم الإنكاري رفضت «إسرائيل» كلّ مساعي الحلول التي تفضي الى تثبيت هوية فلسطينية فعلية تقود الى دولة فلسطينية حقيقية، ضاربة بعرض الحائط كلّ المواقف والقرارات الدولية ذات الصلة بدءاً بالقرار 181 والقرار 194 وصولاً الى القرارين 242 و 338.
وفي المقابل تمسك الفلسطينيون بهويتهم وأصرّوا على حقهم في أرضهم وأطلقوا المواقف السياسية والميدانية التي تقاوم استراتيجية الإنكار والتصفية للحقوق الفلسطينية التي تعتمدها «إسرائيل» وتعمّقت المواجهة بين الإنكار الإسرائيلي للحقّ الفلسطيني والتشبّث الفلسطيني بهذا الحق. وفي ظلّ هذه المواجهة كانت الصدامات والحروب التي كانت في البدء عربية – صهيونية (عندما كان كلّ العرب أقله ظاهرياً مع فلسطين ضدّ «إسرائيل») ثم تفككت الجبهة العربية بخروج مصر والأردن علانية وسواهما سراً، واستمرت بعد التفكك إسرائيلية – ضدّ بعض العرب (خاصة سورية والمقاومة الفلسطينية والمقاومة في لبنان) في مشهد ظنّت «إسرائيل» معه أنها حققت مبتغاها في تفكيك الجبهة العربية ما يمكنها لاحقاً من فرض واقع إنكار وجود الشعب الفلسطيني وجوداً وحقوقاً. ورأت انّ تصفية هذه القضية باتت ممكنة عبر إسقاط صفة لاجئ عن الفلسطينيين في الشتات وتوطينهم حيث هم، والبحث في التخلص من فلسطينيّي الداخل بطريقة تناسب «إسرائيل».
بيد انّ «إسرائيل» واجهت صعوبات كبيرة في إنفاذ مخططها، واصطدمت برفض عارم لسياسة التوطين وتصدّر لبنان هذا الرفض الى حدّ أنه أدرجه في دستوره، أما التخلص من فلسطينيّي الداخل فقد وضعت له «إسرائيل» خططاً شيطانية تبدأ بالترحيل والتهجير وهو ما اصطلح على تسميته بـ «الترانسفير» مسبوقاً بالتضييق وقضم الأرض عبر ما تمارسه من «الاستيطان»، وهو عمل يقضي بوضع اليد على أرض فلسطينية ومنحها لليهود لإقامة المستوطنات عليها، وهي سياسة اتبعتها «إسرائيل» وأصرّت عليها رغم رفضها من قبل المنظمات والهيئات الدولية لمعارضتها لأحكام القانون الدولي.
لم تعبأ «إسرائيل» بالموقف الدولي المعلن ضد سياسة الإنكار وتصفية الشعب الفلسطيني بل ذهبت في ممارستها الى أبعد وأخطر من كلّ ما ذكر، واستغلت عملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها المقاومة الفلسطينية من أجل حماية المسجد الأقصى من التهويد ومن أجل إطلاق ما يناهز 6000 أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، استغلت ذلك وأطلقت أوسع عملية قتل وتدمير في قطاع غزة لإفراغه من أهله ثم أحالته أرضاً غير قابلة للعيش، مبتدئة بطرح تهجير السكان خارج القطاع ولما فشلت في فرض ذلك قامت بتنفيذ القتل المتعمّد وفقاً لعقيدة «اقتل لا ترحم صغيراً أم كبيراً»، ونفذت بشكل منهجي مخطط الأعمال الإجرامية التي تعتبر وجهاً من وجوه الإبادة الجماعيّة وفقاً لاتفاقية منع الإبادة الجماعية المعتمدة من قبل الأمم المتحدة منذ العام 1948 والتي نصت في المادة الثانية منها على انّ «الإبادة الجماعية تعني أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه «
1: قتل أعضاء من الجماعة.
2: إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
3: إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً».
و»إسرائيل» قامت بكلّ ذلك وفقاً لما يلي:
ـ من حيث «قتل أعضاء من الجماعة»: قامت «إسرائيل» بتنفيذ العشرات من المجازر بشكل عمدي مقصود دون ان يكون في الأمر أيّ موجب عسكري او ميداني بل إنها كانت ولا تزال تمارس القتل من أجل القتل فقط حتى أنها في فترة 150 يوماً قتلت أكثر من 30 ألف فلسطيني وجرحت أكثر من 70 ألف فلسطيني، وكلّ ذلك موثق ومثبت بكلّ وسائل وتقنيات التوثيق الحديث ولا مجال لإنكارها أو التملّص منها وهي تستمرّ في سياسة القتل وترفض وقف إطلاق النار وتدعمها أميركا في ذلك من أجل استمرار الإبادة.
ـ ومن حيث «إلحاق أذى جسديّ أو روحيّ خطير بأعضاء من الجماعة»، فقد ألحقت «إسرائيل» بحربها الوحشية الإجرامية كبير الأذى المادي والمعنوي، الجسدي والروحي بالجماعة واجتثت الكثير من العائلات وشطبتها من سجلات القيد المدنية في عملية إفناء شامل.
ـ أما من حيث «إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً». هنا حدّث ولا حرج حيث ارتكبت «إسرائيل» كلّ أنواع السلوكيات التي تحيل الحياة في القطاع مستحيلة، ويكفي أن نذكر حصارها للقطاع ومنع الغذاء والدواء والماء عن سكان القطاع وإنتاج بيئة تسبّبت في تفشي المجاعة في القطاع على مسمع ومرأى من العالم الذي تحرّك بعضه رياء ونفاقاً وقام بإسقاط بعض المواد الغذائية بالطائرات من الجوّ.
«إسرائيل» تحكم حصار القطاع وتمنع عنه أيّ مادة تتصل بمعيشة السكان، ومن أجل متابعة أعمال الإبادة الجماعية للتخلص من فلسطينيّي القطاع في مرحلة أولى تتبعها مرحلتان ثانية لاقتلاع فلسطينيّي الضفة الغربية وثالثة لطرد فلسطينيّي الأرض المحتلة في العام 1948، من أجل ذلك ترفض «إسرائيل» وقف إطلاق النار وتتمسك بالسعي لتحقيق أهداف أثبت الميدان استحالة تحققها، كما أنها وخلال فترة الأشهر الخمسة السابقة قامت بالقتل ولم تمارس القتال فعلياً ولم يلاحظ أنها وضعت الخطط العسكرية القتالية التي يمكن أن تفضي الى تحقيق الإنجاز العسكري المطلوب، بل إنها كما وصف أحد الجنرالات الصهاينة «تعمل من غير خطط عسكرية» لأنها تريد القتل وليس القتال.
انّ “إسرائيل” في حربها ضد قطاع غزة تعمل وفقاً لاستراتيجية الإبادة والاجتثاث ولا صلة بين ما تقوم به وقواعد قانون الحروب والقتال أو قواعد القانون الدولي الإنساني وهنا تكمن أهمية صمود المقاومة الفلسطينية وأهمية تدخّل المقاومات في جبهات الإسناد، من أجل إحباط المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً والمتمثل بالاجتثاث والإبادة الجماعية من أجل تصفية القضية الفلسطينية وتثبيت مقولة “أرض بلا شعب” وان ما تحقق حتى الآن في إطار المواجهة يؤكد عقم المسعى الإسرائيلي الإجرامي واستحالة تحققه في ظلّ مقاومة عقائدية عرفت الطريق والتزمت بها سعياً الى القدس المحررة.