بقلم: الدكتور علي ع. فضل الله
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 08-01-2024 - 360 في الثاني من تشرين الثاني 1917م، أرسل وزير خارجيّة المملكة المتّحدة (بريطانيا) آرثر جيمس بلفور رسالة موجّهةً إلى منزل المصرفيّ والسياسيّ اليهوديّ ليونيل وولتر دي روتشيلد في لندن، في 148 بيكاديللي، ذكر فيها ما يأتي: “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليّاً أنّه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنيّة والدينيّة التي تتمتّع بها الطوائف غير اليهوديّة المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسيّ الذي يتمتّع به اليهود في أيّ بلد آخر”. وأُطلق على هذه الرسالة اسم «إعلان بلفور» (Balfour Declaration). - بين رفض وتأييد في هذه الأثناء، كان الناشط الصهيونيّ حاييم وايزمان ينتظر خارج القاعة، مترقّباً قرار الإمبراطوريّة التي لا تغيب عنها الشمس. من الواضح أنّ وجود وايزمان، الذي أصبح فيما بعد أوّل رئيس للكيان، في أروقة رئاسة الحكومة، دليل على النفوذ الكبير الذي تمتّعت به المنظّمة الصهيونيّة في ذلك الوقت. بعدها، خرج المستشار السياسيّ مارك سايكس ليهنّئه بالقول: “دكتور وايزمان.. المولود ذكر”. - «وطن قوميّ» - أسباب إقرار وعد بلفور 1. انتهت الحرب العالميّة الأولى بانتصار محور الحلفاء. وكان من نتائج هذه الحرب تقاسم تركة الإمبراطوريّة العثمانيّة، التي كانت فلسطين تحت سيطرتها. ومن اللافت، عام 1921م، أنّ صكّ الانتداب الذي منحته عصبة الأمم لبريطانيا، تضمّن الإشارة إلى “مشورة يهوديّة” تمهّد لإنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين. هذه فضيحة كبيرة لأوّل منظّمة دوليّة، بسماحها، في النصّ، بالبحث في سرقة أرض لشعبٍ موجود، دون أيّ مسوّغ. 3. معاناة بريطانيا من التراجع الجيو-استراتيجيّ على مستوى العالم، وحاجة الإمبراطوريّة إلى المدد العسكريّ الأميركيّ لتتمكّن من الانتصار في الحرب. لذلك، سعت إلى تثبيت قواعد نفوذ لها في العالم، ومنها في فلسطين، من خلال النظر إلى التواجد اليهوديّ هناك، باعتباره خطّ دفاع أوّل لها وللغرب، في قلب العالم العربيّ والإسلاميّ، خوفاً من قيامه من جديد يوماً ما. وقد استثمرت الصهيونيّة في هذه المخاوف، وفي الوقت نفسه، هدف الأوروبيّون إلى التخلّص من عبء اليهود في بلادهم، ومن ميلهم الدائم نحو الربا والاحتكار والمهن غير الأخلاقيّة والفتن والخيانة، كما كانوا يعتبرون. 4. الجهد الذي قامت به الحركة الصهيونيّة التي دعت في أوّل مؤتمراتها عام 1897م، إلى تأسيس “وطن للشعب اليهوديّ في فلسطين تحت حماية القانون العام”. ولذلك، وُضعت خطط مبكرة من أجل تكثيف هجرة اليهود إلى فلسطين والترويج للسرديّة الصهيونيّة وزيادة الضغط السياسيّ من أجل الاستحصال على دعم الدول الكبرى لتحقيق هذا الهدف. 5. تقاسم النفوذ في غرب آسيا، فبحسب تقسيم مناطق النفوذ في منطقتنا، قدّم الفرنسيّ نفسه حامياً للطوائف الكاثوليكيّة، وقدّم الروسيّ نفسه حامياً للطائفة الأرثوذوكسيّة. فاحتاج البريطانيون إلى تبنّي طائفة متنامية العدد في فلسطين، وهي اليهوديّة، خصوصاً مع ضعف التواجد الإنجيليّ في الشرق الأدنى. 6. الحصول على دعم المنظّمات اليهوديّة في الولايات المتّحدة، خصوصاً في أجواء الحرب العالميّة الأولى. فقد قدّر البريطانيّون أن اللوبي اليهوديّ في مركز القرار الأميركيّ مفيد في التأثير على واشنطن، التي تمهّلت في الدخول في الحرب إلى جانبها. الجدير ذكره هنا، أنّه من عام 1902م، أصبح الاقتصاد الأميركيّ هو الأوّل في العالم، في دلالة إلى تعاظم قوّة الولايات المتّحدة، وجهوزيّتها لسيادة العالم في العقود اللاحقة. 7. تمتّع أسرة روتشيلد بنفوذ واسع في بريطانيا، وقدرة مجموعة من قادة اليهود في جمع الدعم لسياسات المملكة المتّحدة في الغرب. ولا بأس من لفت النظر إلى أنّ وايزمان نفسه، كان كيميائيّاً، وهو قدّم تركيبة خاصة بالمتفجّرات، ساعدت بريطانيا في الحرب، وكان من الجيّد مكافأته على ذلك. 8. رغبة بريطانيا في مدّ نفوذها “الاستعماريّ” إلى الشرق، وموقفها من المسلمين عامّة، وهو ما لوحظ في كلام قائد جيوشها الجنرال ألنبي عندما وصل إلى القدس، ومعايرته صلاح الدين الأيوبيّ بأنّ الأوروبيّين عادوا كما قال. 9. وجود مشروع مسيحيّ يتبنّى فكرة أنّ العهد القديم يدعو إلى تجميع اليهود في فلسطين كي يأتي المخلّص. وهذا النوع من التفكير شائع اليوم، ويوجد في الولايات المتّحدة الأميركيّة نحو 75 مليون أميركيّ يتّبعون هذا النهج من التفكير التوراتيّ. وهنا، من المفيد الإشارة إلى معركة جرت قبل يومين فقط من إعلان وعد بلفور، وهي معركة بئر السبع في فلسطين في 31 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917م. في هذه المعركة، انتصر البريطانيّون على الجيش العثمانيّ وسيطروا على بئر السبع. حينها، اعتبر بعض الإنجيليّين أنّ الجنود “يحقّقون نبوءة توراتيّة من خلال المساعدة في إعادة إسرائيل إلى اليهود”. 10. حاجة الحركة الصهيونيّة إلى دعم دولة كبرى لمخطّطاتهم من أجل إقناع باقي اليهود بفعاليّة مشروعهم وربحيّة الاستثمار فيه، وقد نجحوا في ذلك. يجدر الذكر أنّه قبل وعد بلفور، كان يوجد في بريطانيا نحو 300 ألف يهوديّ، فقط ثمانية آلاف منهم كانوا يؤيّدون الفكرة الصهيونيّة. أمّا عام 1913م، فكان 1% فقط من يهود العالم ينتمون إلى الحركة الصهيونيّة. -أيّ سلام؟ ومن المفارقة، تخليداً لذكرى بلفور، وضع أقاربه في اسكتلندا لوحاً تذكاريّاً داخل إحدى الكنائس، كُتب عليه: «في ذكرى آرثر بلفور، الذي تمكّن عبر قدراته العقليّة والروحيّة كرجل دولة وفيلسوف، من إثراء مملكة العقل ودعم الحقيقة والنزاهة والسلام في العالم»!
لا يوجد صور مرفقة
|