يأتي التصعيد الإسرائيلي المتدرّج في جنوب لبنان على خلفية فشل إستراتيجية «الردع الفعال» التي أعلنها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، والتي أرادها لكبح حزب الله عن إسناد المقاومة في غزة، كما لفرض معادلة جديدة على حدود لبنان. وهو استعان لذلك بالولايات المتحدة علّها تجد له علاجاً سياسياً. لكنّ قادة العدو يجاهرون الآن، بأن فرص هذا المسار السياسي ضئيلة، إن لم تكن معدومة، ولذلك يعمدون إلى رفدها برسائل نارية، والتهديد بتصاعد المواجهة العسكرية في الجنوب وصولاً إلى الحرب.في المقابل، تواجه المقاومة هذه الإستراتيجية بمواقف حازمة تُجهض الطرح الذي يدعو إلى إخراج حزب الله من جنوب الليطاني، وبردود عملياتية تناسبية على الضغوط الميدانية، وهو ما عبّر عنه رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء تامير هايمن، بالقول: «نحن نرفع المستوى قليلاً وحزب الله يقوم بذلك، وكأن الطرفين يرقصان رقصة تانغو خطيرة جداً».
ومن الواضح أن الهدف من ارتقاء ردود حزب الله هو فرض معادلة بأنّ المسار التصاعدي الذي يُلوِّح به العدو سيُقابل بما يماثله. والموقف الأبرز في هذا الإطار، أعلنه رئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين، بأن «المقاومة ستدمّر غالبية المستوطنات بالكامل إذا ما تمادوا في اعتداءاتهم»، ما ينطوي على التزام بأن تصاعد اعتداءات العدو ستواجهه المقاومة بما يناسبه في المدى والمفاعيل وطبيعة الأهداف والوسائل القتالية.
يراهن الإسرائيليون والأميركيون على أن جنوح العدو إلى الحرب لاستعادة صورة ردعه الإقليمي بعد عملية «طوفان الأقصى»، بدعم مفتوح من واشنطن، سيضع حزب الله بين خيارين: إما مواجهة عسكرية أكثر اتساعاً وخطورة، أو الاتفاق على ترتيب يعيد الهدوء إلى جانبي الحدود عبر إلغاء وجود المقاومة في جنوب الليطاني. ومن الواضح أنهم يستندون في ذلك، إلى أن إسرائيل، بعد 7 أكتوبر، باتت أكثر استعداداً لتحمل الخسائر البشرية والمادية، وإلى تقدير لدى المؤسسة الإسرائيلية بأن حزب الله غير معني بمواجهة عسكرية واسعة وصولاً إلى حرب واسعة، متجاهلين أن هذا التقدير مشروط بارتداع إسرائيل عن العدوان. كما يراهن العدو على تأثير الوضع الاقتصادي في لبنان على الحزب، ولكن موقف المقاومة الحاسم برفض أي حديث قبل إنهاء الحرب على غزة شكّل سداً أمام هذه الأوهام. علماً أن العدو، يحاول الإيحاء بأنه مستعد للمخاطرة بأمن المستوطنات الأكثر عمقاً والمدن المنتشرة في شمال فلسطين المحتلة، من أجل إعادة الشعور بالأمن إلى سكان المستوطنات الحدودية... ولكن، هل قيادة العدو مستعدة فعلاً لخوض خيار عملياتي يرتّب أثماناً باهظة من أجل طمأنة مستوطني الحدود اللبنانية؟
تجيب عن هذا السؤال أصوات وازنة داخل كيان العدو، أبرزها نائب رئيس الأركان السابق اللواء يائير غولان، الذي أكّد أن إسرائيل «لن تبعد قوّة الرضوان إلى ما بعد الليطاني، لأننا لن نفتح حرباً، ولأن حزب الله نجح في ردعنا، ولن نخوض في أي وقت حرباً مع حزب الله بمبادرة منا. هذا الأمر صعب جداً».
ينبع رفض حزب الله من أنّ وجود المقاومة في منطقة جنوب الليطاني هو حقّ وواجب، وهو من أهم عناصر القوة الردعية والدفاعية للمقاومة في مواجهة العدو، كونه يمنح المقاومة فرصاً عملياتية واستخباراتية. ولأن العدو هو أكثر من يدرك ذلك، يحاول مع الولايات المتحدة أن يسلب المقاومة ولبنان هذه الميزة.
وفي إطار الحرب النفسية، عمد العدو أخيراً إلى إعادة تعويم الحديث عن خيار الضربة الاستباقية الذي طرحه وزير الأمن يوآف غالانت والمؤسسة العسكرية في الأيام الأولى التي تلت «طوفان الأقصى»، بهدف الإيحاء بأن قيادة العدو كما لو أنها على وشك تبنّي مثل هذا الخيار. لكن، وبعيداً عن الأسباب التي يوردها العدو لسقوط هذا الخيار، فإن العامل الجوهري الرادع كان في تقدير كلفة هذا الخيار ونتائجه على المنطقة بأكملها، لأنّ رد حزب الله سيطال العمق الإستراتيجي في كيان العدو، ولأن مفاعيل «طوفان الأقصى» لن تحول دون قراره بالرد التناسبي.
صحيح أن العدو يتحرك عملياتياً في اتجاه تصاعدي مدروس، استناداً إلى تقديرات ورهانات. لكن، في لحظة الحسم، ستحضر على طاولة القرار تداعيات«طوفان الأقصى»، وحرب الاستنزاف التي تواجهه في غزة. كما ستحضر أيضاً ما ستتحمله الجبهة الداخلية. لذلك لن يطول الوقت حتى يكتشف العدو أن ما يستند إليه من تقديرات ورهانات ليس إلّا أوهاماً، وسيجد نفسه فعلاً أمام اختبار الواقع. لكن السؤال - التحدّي: هل سيكون الخيار العقلاني حاضراً ذلك قبل التورّط «المدروس»، أم بعد أن يتلقّى ما يناسبه؟