بعد أسبوع من هدنة مقسّطة على دفعات ثلاث استأنف العدو الإسرائيلي عدوانه البري ضدّ قطاع غزة وأطلق المرحلة الثانية التي أرادها استكمالاً للمرحلة الأولى أو تعويضاً للفشل في المرحلة تلك، ولذلك يلاحظ أنّ هذه المرحلة التي ينفذها العدو تحت تسمية المناورة البرية في الجنوب يلاحظ أنها تتمايز عن الأولى في عدة عناصر خاصة من حيث الأهداف والتوقيت ونوع المناورة وإنْ كانت تشبهها في وجوه أخرى.
فمن حيث مساحة بقعة العمليات يبدو أنها تكاد تساوي بقعة عمليات المرحلة الأولى، حيث إنها تلامس الـ 90 كلم2 (الأولى كانت نيّفاً و100 كلم2) أما محاور العمل فيبدو أنّها محوران رئيسيان باتجاه خانيونس ومحور ثالث باتجاه دير البلح لفصلها عن الجنوب (المرحلة الأولى كانت 4 محاور)، وأخيراً القوى المستخدمة، نصفها كان في الإسناد أو الاحتياط في جبهة الشمال.
أما أهداف هذه المرحلة فيبدو أنّ العدو ودون أن يعلن ذلك بشكل صريح وقاطع، أجرى مراجعة لأهداف المرحلة الأولى وهي الأهداف التي عجز أو فشل في تحقيق أيّ منها، مراجعة أفضت إلى اعتماد أهداف مطوّرة يراها قابلة للتحقيق فحدّد الأهداف الجديدة للعملية البرية بثلاثة أولها «قتل» الأشخاص الذين يشغلون مواقع القيادة السياسية والعملانية لحركة حماس في القطاع أيّ هدم منظومة القيادة والسيطرة التي يقودها كلّ من يحيى السنوار، محمد ضيف، مروان عيسى…،
والهدف الثاني يتمثل بحمل حماس على إطلاق الأسرى لديها وفقاً لشروط «إسرائيل» وذلك عبر الضغط الناري الثقيل وتكثيف المجازر التي ترتكب بحق المدنيين الفلسطينيين وبشكل خاص الأطفال والنساء، أما الهدف الثالث فيتمثل بمزيد من عمليات الأرض المحروقة التي تحوّل القطاع الى أرض غير قابلة للعيش ما يحمل السكان على الفرار منها باتجاه مصر وإحداث التغيير الديمغرافيّ في القطاع عبر التهجير وإفراغه من سكانه.
وأخيراً من حيث المُهل المتاحة فيبدو أنّ هناك تفاهماً او توافقاً أميركياً إسرائيلياً على مهلة الأسابيع الثلاثة، ويمكن إضافة أسبوع رابع لها لتنتهي الحرب قبل عيدي الميلاد ورأس السنة وقبل دخول أميركا في العام 2024 عام الانتخابات الرئاسية، وكما انّ هذه المهلة (مهلة الأسابيع الثلاثة) تتوافق مع العقيدة القتالية الإسرائيلية الحالية التي حدّدت حروب إسرائيل بـ 10 أسابيع (وهذا ما لفتنا إليه منذ اليوم الأول للعدوان) لأنّ «إسرائيل» بطبيعة تركيبها لا تقوى على الحروب الطويلة، لذلك تضمّنت عقيدتها القتالية في صيغتها الأولى مقولة الحرب الخاطفة التي تنتهي بـ 3 أسابيع، ثم طوّرتها بعد العام 1973 الى 6 أسابيع، وأخيراً عدّلت بعد العام 2006 وأضحت اليوم 10 أسابيع، أما خارج ذلك فقد اعتمدت «إسرائيل» مقولة الأيام القتالية او مقولة المعركة بين الحروب، وطالما أنّ «إسرائيل» وصفت ما يجري إثر 7 تشرين الأول بأنه حرب، فإنها حضّرت نفسها لمواجهة قد تصل إلى 10 أسابيع،
لقد راجعت «إسرائيل» أهداف حربها وحدّدت مهلة لتنفيذها في مرحلتها الثانية بالتوافق والدعم التامّ من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي تتظاهر نفاقاً بحرصها على المدنيين ثم تسلّح «إسرائيل» بأشدّ الأسلحة والذخائر فتكاً وتدميراً والتي كان من أنواعها الأخيرة قنابل الـ 2000 رطل والتي استعملت واحدة منها على المدنيين في جباليا فقتلت 100 شخص استشهدوا بلحظة واحدة بالقنبلة الأميركية الثقيلة الحديثة. فأميركا و»إسرائيل» متفقتان على أساس العدوان وتفاصيل تنفيذه لتحقيق أهدافه فهل ستتمكنان؟
بداية نلفت إلى سعي أميركي دؤوب وحثيث من أجل الاستفراد بقطاع غزة وجعل القضية صراعاً إسرائيلياً مع حركة حماس، سعي تقوم به أميركا عبر مقولة منع توسّع الصراع، ولذلك تعمل أميركا جاهدة لوقف العمليات الحربيّة على الجبهات المساندة التي باتت تؤلم «إسرائيل» خاصة في جبهتي لبنان واليمن، وتؤرق أميركا في جبهة سورية والعراق، وتحاول أميركا وقف تحرّك المقاومة على هذه الجبهات لإراحة «إسرائيل» وجعلها تتفرّغ لعمليّتها العدوانيّة على قطاع غزة.
بيد أنّ مكونات محور المقاومة على هذه الجبهات لا تعير السعي الأميركي اهتماماً وتمضي كلّ جبهة وفقاً لطبيعتها وللدور الذي انتدبت نفسها له، تمضي قدماً للضغط على «إسرائيل» وأميركا لوقف هذا العدوان، ويبدو أنّ هذا السلوك يعطي نتائج هامة، فعلى الاتجاه اللبنانيّ تمّت مشاغلة بقعة عمليّات بمساحة 600 كلم2 ألزمت «إسرائيل» بتخصيص أكثر من ثلث قدراتها العسكريّة العملانيّة لمواجهة أخطار الجبهة الشماليّة، وعلى الاتجاه اليمنيّ أحدث التدخل العسكريّ ضدّ السفن التجارية الإسرائيلية نوعاً من حصار يحاصر حصار «إسرائيل» للقطاع ما يرفع من كلفة نقل البضائع الى «إسرائيل»، ومنها ويتسبّب بتراجع دور مرفأ إيلات ويجبر «إسرائيل» على التخطيط لإرسال قوة بحرية الى البحر الأحمر لحماية سفنها، أما الاتجاه العراقي فإنّه يتسبّب بقلق أميركي على أمن جنود الاحتلال في سورية والوجود العسكري في العراق في توقيت حرج على أبواب سنة الانتخابات.
لكن تبقى المواجهة الأساسيّة للخطة التي تنفذها «إسرائيل» في المرحلة الثانية من عدوانها، تبقى على أرض غزة، مواجهة نرى كما ذكرنا أنّ مدتها مبدئياً لن تتجاوز بعد الأسابيع الثلاثة الى الأربعة فهل ستتمكن المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الحاضن لها في القطاع من الصمود خلال تلك الفترة لإفشال المرحلة الثانية من العدوان؟
نبدأ مع الهدف الأول وهو تدمير منظومة القيادة والسيطرة لحركة المقاومة وتحديداً حركة حماس في القطاع عبر النيل من مسؤوليها الثلاثة، ونرى أنّ هذا الهدف ليس من السهل تحقيقه ولا نقول إنّ تنفيذه مستحيل مطلقاً، خاصة أنّ العدو الإسرائيلي يعتمد استراتيجية الأرض المحروقة والتدمير الشامل ونهج الإبادة الجماعيّة، إلا أنّ الأحداث أظهرت انّ المقاومة نظمت نفسها ووزعت قياداتها بشكل يؤمّن الحماية المناسبة والاستمرار بالعمل في أقسى الظروف صعوبة.
أما الهدف الثاني المتمثل بإطلاق الأسرى، فإنّ سعي «إسرائيل» لإطلاقهم بالقوة فيه من المخاطر ما يجعل السعي اليه ضرباً من الحمق والغباء، لأنّ اقتحام مواقع أسرهم بالقوة قد يؤدّي الى تعريضهم للخطر حتى المسّ بحياتهم، ولذلك بدأت تتعالى أصوات في الداخل الإسرائيليّ تدعو للإقلاع عن فكرة تحرير الأسرى بالقوة، وتدعو إلى التفاوض سبيلاً وحيداً من أجل ذلك، وفي الإجمال نقول إنّ تحرير الأسرى ليشكل إنجازاً عسكرياً كما تشتهي القيادة الإسرائيلية أمر مستبعَد أو هو غير قابل للتحقق الآمن.
يبقى الهدف الثالث المتعلق بإحداث التغيير الديمغرافي في القطاع عبر تهجير سكانه منه إلى سيناء وغيرها، هدف تسعى اليه «إسرائيل» متوسلة في ذلك المجازر والجرائم التي ترتكبها وهي استأنفتها مع إطلاق المرحلة الثانية من عدوانها. وفي هذا نرى ورغم البسالة والشجاعة والثبات والتشبّث الأسطوري الذي يبديه الشعب الفلسطيني بأرضه ما من شأنه إفشال «إسرائيل» في الأمر، نقول رغم ذلك، فإنّ الموضوع بحاجة لإطلاق أوسع حملة مساندة للفلسطينيين للضغط على أميركا و»إسرائيل» لوقف هذا الإجرام ووقف الإبادة الجماعيّة اذ ليس أمراً هيناً ان تقتل «إسرائيل» في 36 ساعة 720 فلسطينياً أيّ تقتل 20 شخصاً كلّ ساعة؛ إنه أمر مرعب يجب أن يتوقف.
وفي الخلاصة نرى أنّ المقاومة الفلسطينية قادرة على التعامل بكفاءة واقتدار مع تحديات المرحلة وانّ الشعب الفلسطيني شعب قويّ الشكيمة متمسك بأرضه، ومع ذلك نقول بأنّ مخاطر المرحلة الثانية من العدوان، وأحلام «إسرائيل» بتحقيق انتصار أو إنجاز عسكريّ لعدوانها يكاد ينحصر في مسألة التغيير الديمغرافي عبر التهجير لإفراغ القطاع من سكانه وتحقيق حلم رابين الذي قال إنه يتمنى أن يصحو ذات يوم ويرى البحر قد ابتلع قطاع غزة، فجاء نتنياهو يسعى لتحقيق حلمه ليس بالغرق بل بالحريق. فـ «إسرائيل» تنفذ اليوم محرقة في قطاع غزة بذريعة الانتقام وتحقيق الأمن لسكانها، وهنا مسؤولية الجميع عرباً ومسلمين وقوى إقليمية ودولية للتدخل لمنع هذه الجريمة الفظيعة ضدّ الإنسانية…