بقلم: توفيق شومان
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 14-11-2023 - 353 يستحضر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، نصوصاً تحفل بها أسفار التوراة الداعية إلى إبادة الكنعانيين والفينيقيين وتهجيرهم من أراضيهم ومحاربة عقائدهم وعاداتهم بما فيها انظمتهم الغذائية، ومن يقرأ تلك الأسفار، لا يأخذه العجب مما فعله ويفعله الإحتلال الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن. تبدأ قصة التوراة مع أرض كنعان وأهلها، منذ لحظة الإستعداد للخروج من مصر وبعد تيه مديد، ففي “سفر الخروج” يقول الرب “ها أنا سأرسل أمامكم ملاكا يحفظكم في الطريق، ويدخلكم أرض الأموريين والحثيين والكنعانيين واليبوسيين بعد أن أزيلهم، وأرسل الذعر أمامكم فتطردون الحويين والكنعانيين والحثيين من وجوهكم، لا أطردهم من وجوهكم في سنة واحدة لئلا تصير الأرض قفرا، ولكن أطردهم قليلا قليلا من أمامكم إلى أن يكثر عددكم وتملكون الأرض”. وفي السفر نفسه “قال الرب لموسى: قم من هنا واصعد، أنت والشعب الذي أخرجتهم من أرض مصر إلى الأرض التي أقسمتُ أن أعطيها لنسل ابراهيم وإسحق ويعقوب، وأنا أرسل أمامك ملاكا وأطرد الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين واليبوسيين من تلك الأرض التي تفيض لبنا وعسلا”. إن “أرض اللبن والعسل”، ستأتي أسفار التوراة على ذكرها مرارا، وخصوصا أرض الكنعانيين، والفينيقيون هم الفرع الساحلي منهم، وسيلاحظ في هذه الأسفار شدة الحقد المسبق على الكنعانيين قبل وبعد أن يحل “قوم موسى” في أرض كنعان بحسب الرواية التوراتية، وأما المدن الفينيقية، وبالأخص مدينتا صور وصيدا، وكذلك لبنان وأرزه، فينالون النصيب الأكبر والأشد عنفا من حروب التوراة وعقيدة الكراهية، ومن النصوص ـ الأمثلة ما يفيض: أول ما يُلفت في التوراة إخراجها للكنعانيين من الجذر السامي، ففي “سفر التكوين” كان نوح “رجلا صالحا، وولد ثلاثة بنين سام وحام ويافث، وكان نوح أول فلاح غرس كرمة، وشرب نوح من الخمر فسكر وتعرى في خيمته، فرأى حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه، فأخذ سام ويافث ثوبا ومشيا إلى الوراء ليسترا عورة أبيهما، فلما أفاق نوح من سكره وعلم بما فعل إبنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، يكون عبدا ذليلا لأخوته، تبارك الرب إله سام ويكون كنعان عبدا لسام، ويزيد الله يافث فيسكن في خيام سام ويكون كنعان عبدا له”. يعتبر العلامة الألماني كارل بروكلمان في كتابه الشهير “فقه اللغات السامية” أن إخراج التوراة للكنعانيين من الدائرة السامية يعود لأسباب سياسية فقد “قسّم الجدول المعروف بجدول الشعوب في الإصحاح العاشر من سفر التكوين، الشعوب والقبائل الموجودة في صدر آسيا إلى ثلاث مجموعات كبرى وأرجعها إلى سام وحام ويافث، ويدل بوضوح إلى أن العلاقات السياسية والثقافية لدى مؤلف هذا الجدول لا يجد بينها فرقا على الإطلاق ـ ولذلك ـ يعد الفينيقيين من أبناء حام بسبب صلاتهم السياسية والثقافية بمصر”. تلك حرب إبادة ترويها التوراة وتقصها كفعل وتاريخ “جليلين”، وعن هذه الحرب يتحدث المؤرخ المصري محمد بيومي مهران في كتابه “المدن الفينيقية” فيقول لما “أتى الإسرائيليون إلى فلسطين، كان الكنعانيون مستقرين فيها منذ أجيال، وبقي الكنعانيون في بلادهم رغم المحاولات الإسرائيلية العنيفة أحيانا، والهمجية أحيانا أخرى، بل وعمليات الإبادة في أغلب الأحايين” وفي الإتجاه نفسه، يذهب كبير المؤرخين العراقيين جواد علي (1907 ـ1987) في الجزء الأول من “المفصل في تاريخ العرب” إذ يرى أن التقسيم البشري الوارد في التوراة “لا يستند إلى أسس علمية، بل بُنيت تلك القرابة على اعتبارات سياسية وعاطفية، فحشرت التوراة شعوبا في السامية لا يمكن عدها من الشعوب السامية وأقصت منها جماعة من الواجب عدها من الساميين مثل الفينيقيين والكنعانيين لأسباب سياسية ودينية”. ماذا تقول التوراة بالكنعانيين؟ في “سفر العدد” أن الرب كلّم موسى فقال: قل لبني إسرائيل إنكم داخلون أرض كنعان وهي الأرض التي أورثتكم إياها، وكلّم الرب موسى فقال: هذه أسماء الرجال الذين يقسمون لكم الأرض، العازر الكاهن ويشوع بن نون ورئيس من كل سبط يساعدهما في ذلك، أولئك الذين أمرهم الرب أن يقسموا لبني اسرائيل أرض كنعان” وفي “سفر التكوين” جاء “كانت ارض الكنعانيين من صيدون إلى غزة”. لم تكتف نصوص التوراة بتسويغ السلب الجغرافي لأرض كنعان بذرائع دينية، بل إن النصوص نفسها راحت تحط من القيمة الإنسانية والأخلاقية للكنعانيين، وصولا إلى الطعن بحقهم في الوجود، ومن أمثلة ذلك: ـ “سفر التكوين”: “شاخ ابراهيم وتقدم في السن، وقال إبراهيم لكبير خدم بيته: أستحلفك بالرب إله السماء والأرض ألا تأخذ زوجة لإبني من بنات الكنعانيين الذين أنا مقيم بينهم” وفي “سفر التكوين” أيضا “دعا اسحق إبنه يعقوب وباركه وأوصاه فقال لا تأخذ إمرأة من بنات كنعان”. ـ “سفر اللاويين”: “كلم الرب موسى فقال: أنا الرب إلهكم، كما عمل أهل مصر لا تعملوا، وكما يعمل أهل أرض كنعان لا تعملوا.. إذا دخلتم ارض كنعان وغرستم أي شجر يؤكل، فيلكن أكله محرم عليكم ثلاث سنين، تقطعون فيها ثمره كما لو كنتم تختنونه”. ـ “سفر التثنية”: “إذا أدخلكم الرب إلهكم الأرض التي أنتم مزمعون أن تمتلكوها وطرد أمما كثيرا من أمامكم، كالحثيين والكنعانيين و… وأسلمهم إلى أياديكم وضربتموهم، فاجعلوهم محرمين عليكم، فلا تقطعوا معهم عهدا، ولا تتحننوا عليهم، ولا تصاهروهم”. ـ في “التثنية” أيضا: “مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها لكم الرب إلهكم مُلكا، فلا تبقوا أحدا منها حيا، بل تحللون إبادتهم، وهم الحثيون والكنعانيون و… لئلا يعلموكم أن تفعلوا الرجاسات التي يفعلونها في عبادة آلهتهم”. حول العبادة والله، تدخل التوارة في إشكالية كبيرة مع النبي سليمان، فبعدما غدا ملكا بمباركة والده النبي داوود كما يقص “سفر الملوك” الأول، إلا أنه “أخطأ بحق الرب” ففي شيخوخته “أزاغت نساؤه قلبه، ومالت زوجاته إلى آلهة غريبة، فلم يكن قلبه مخلصا للرب إلهه، وتبع سليمان عشتروت آلهة الصيدونيين، وفعل الشر أمام عيني الرب، وبنى معابد لجميع نسائه الغريبات حتى يحرقن البخور ويقدمن الذبائح لها”. إقرأ على موقع 180 إيران و“طالبان“.. "ربيع مؤقت" أم صيف حار؟ قد يذهب الظن إلى أن الإدانة التوراتية لسليمان النبي جاءت من خلفية زواجه من إمراة صيدونية كنعانية فينيقية “وثنية”، ومن منطلقات تحكم بحرمة الزواج من الفينيقيين “الوثنيين”، وهو الزاوج الذي كانت نهت عنه أسفار التوارة السابقة على “سفر الملوك”، لكن قراءات متجددة ورصينة لعقائد الفينيقيين والكنعانيين تخرجهم من عقيدة عبادة الأوثان وتدخلهم في عقيدة التوحيد (وهذا سيكون له مقال خاص) ولذلك يستقر الإستنتاج حيال “تخطئة” التوارة لسليمان لكونه ناقض ما كانت نصت عليه الأسفار قبل “سفر الملوك” فنادت بإقصاء الكنعانيين والإستيلاء على أرضهم أو إخراجهم منها. في النصوص التوراتية فائض في الحديث عن علاقة داوود وسليمان بالفينيقيين الكنعانيين، فداوود كان على علاقة وثيقة بحيرام ملك صور، كما في “سفر الملوك”، وهي علاقة ورثها سليمان من بعده، وقد منح لحيرام أراض في منطقة الجليل، وهذا بحد ذاته كاف لإتهامه بالردة وتقديم الصلوات لعشتروت، فأرض كنعان التي “أورثها الرب” لـ”بني إسرائيل”، سيعيد النبي داوود بعضا منها لحيرام ملك صور، فكيف لا تذهب التوراة إلى اتهام سليمان بأنه انزاح إلى هواه وأخطأ بحق الرب مولاه بعدما أزاغت نساؤه قلبه ودينه؟ في “تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين”، يشير المؤرخ اللبناني فيليب حتي إلى أن نصوص التوراة معادية للكنعانيين فـ”مواد العهد القديم في التوراة تتصف بروح العداء التي كتب بها المؤلفون العبرانيون، وكان للكنعانيين أماكن مقدسة معظمها مزارات، تلك كانت الأماكن المرتفعة التي كان يهاجمها كتاب العهد القديم بصورة متكررة”. وهؤلاء العبرانيون جاؤوا إلى بلاد كنعان كما يقول فيليب حتي “متجولين ومغامرين ومرتزقة وجنود لا ارتباط لهم، ثم استقروا بالتدريج بين السكان.. وما يُسمى بالفتح العبراني، كان من جهة فتحا عسكريا ومن جهة تغلغلا سلميا بطيئا إلى أرض اللبن والعسل، وبعد أن حصل القادمون الجدد على موطئ قدم في الأرض المزروعة، أصبحوا يسودون البلاد، ويمكن القول بالإجمال إن العملية حصلت بطريق المعاهدة أو الفتح أو الإمتصاص التدريجي”. يرسم “سفر يشوع” مشهدا لإحتلال بني إسرائيل مدينة أريحا الكنعانية، فبعدما “نفخ الكهنة في الأبواق هتف الشعب عند سماع صوتها هتافا شديدا فوقع السور في مكانه، فاقتحم الشعب المدينة لا يلوي على شيء واستولوا عليها، وقتلوا بحد السيف إكراما للرب جميع من في المدينة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، حتى البقر والغنم والحمير” وبعد إفناء المدينة بمن وما فيها “وجّه يشوع تحذيرا فقال: ملعون لدى الرب من يبني هذه المدينة أريحا”. تلك حرب إبادة ترويها التوراة وتقصها كفعل وتاريخ “جليلين”، وعن هذه الحرب يتحدث عضو مجلس إدارة هيئة الآثار المصرية المؤرخ محمد بيومي مهران في “المدن الفينيقية” فيقول لما “أتى الإسرائيليون إلى فلسطين، كان الكنعانيون مستقرين فيها منذ أجيال، وبقي الكنعانيون في بلادهم رغم المحاولات الإسرائيلية العنيفة أحيانا، والهمجية أحيانا أخرى، بل وعمليات الإبادة في أغلب الأحايين”. بحسب ما يخلص فيليب حتي، كان العبرانيون قوما من الأخلاط المتخلفين، أخذوا من الكنعانيين والفينيقيين كل شيء، منهم تعلموا الزراعة، وعنهم أخذوا الكتابة والحروف الأبجدية، وكتبوا أدبهم الأول بالأبجدية الفينيقية، كما أن الفن المسمى عبريا هو فن كنعاني ـ فينيقي تتجلى أهم صوره وأعماله في “هيكل سليمان” كما تقر التوراة نفسها، حيث كان المعماريون والمهندسون من مدينتي صور وصيدا، ويُسهب المؤرخ وعالم الأنتروبولوجيا الألماني، جورج كونتينو، في “الحضارة الفينيقية” في التطرق إلى تفاصيل النفوذ الفينيقي في الحياة اليومية لـ”بني إسرائيل” وخصوصا تلك المتعلقة بالثقافات والأعراف، حيث عملت إيزابيل إبنة ملك صور إيتبعل بعد زواجها من آخاب أحد “الملوك” العبرانيين، إلى ترويج ثقافتها في “المجتمع العبراني”، وكذلك الحال مع إبنتها عتليا بعدما تزوجت يورام وهو “ملك” عبراني آخر “وعلى هذا النحو ظل نفوذ فينيقيا سائدا زمنا ما في كل فلسطين”. يتضح من خلال هذه النصوص، أن الصراع العبراني مع الكنعانيين والفينيقيين لم يكن صراعا عقائديا بقدر ما كان صراع نفوذ وسيادة واحتلال، ولو كان صراعا ذا منحى عقائدي ما كان تزوج آخاب ويورام من نساء فينيقيات وسمحا لهن بنشر ثقافتهن، وما ارتبط النبي سليمان بعلاقة عميقة مع ملوك مدينة صور “الوثنيين” الفينيقيين، وما أوصى داوود إبنه النبي سليمان بالحفاظ على العلاقة العميقة مع حيرام الصوري، وبالأصل ما كان يمكن أن يقدم سليمان النبي على الزواج من إمراة فينيقية صيداوية ومن ثم يترك لها حرية بناء وتشييد المعابد الوثنية. وعلى ذلك تتبدى آليات الصراع العبراني ـ الكنعاني بصورة مختلفة عما تقصها التوراة، فتُلبسها أبعادا دينية ـ عقائدية، فيما هي في حقيقتها صورة عن قوم جاؤوا من خارج أرض كنعان وسعوا للإستيلاء عليها، وعملوا بما أوتوا من قوة لتهجير وإفناء السكان الأصليين وإلغاء ثقافتهم وحضارتهم. يرد في “سفر صفنيا” التالي: “ستكون غزة مهجورة، وأشقلون خرابا، ويُطرد سكان أشدود عند الظهيرة، وتُقلع عقرون من مكانها”. هو الماضي بلغة اليوم وأفعاله، لكن غزة بقيت وعاشت وها هي حية تقاوم من بغى تهجيرها وصرفها من الوجود.
لا يوجد صور مرفقة
|