تعيد القوات الأمريكية غير الشرعية تموضعها في المناطق الحدودية بين سورية والعراق، وهو سيناريو جديد قديم، ابتدأ قبل أسابيع عبر دمج التنظيمات الإرهابية على شكل حزام متصل من منطقة التنف وصولاً إلى غرب الفرات، وتحديداً الحقول النفطية في شرق الفرات "حقلي كونيكو والعمر" بريف دير الزور.
هذا التوجّه الأمريكي يدلل على نوايا الولايات المتحدة لعرقلة المسارات السياسية الخاصة في حلّ الأزمة السورية، وقطع الطريق أمام المباحثات السورية العربية، أو بهدف انتقال الصراع الأمريكي الروسي إلى الجغرافية السورية.
وللإيهام بأن قواتها متواجدة لمحاربة الإرهاب، تستثمر القوات الأمريكية هذا التواجد إعلامياً وسياسياً عبر قتل زعماء "داعش" الموالين لها كـ"أبو أسامة المهاجر" بعملية شرق الفرات، أي أن الهدف هو السعي الأمريكي لتكريس وجود القوات الاحتلالية داخل الأراضي السورية، في ظل الحراك السياسي الإقليمي تجاه سورية، وتزايد المؤشرات على اندماج مسار آستانا مع المبادرة العربية، لذلك تسعى واشنطن لتوفير المبررات، بما في ذلك ما تدّعيه بمحاربة الإرهاب وانتظار الحل السياسي لإبقاء قواتها في سورية.
كما أن هذا السيناريو يوظف على صعيد الدعاية الانتخابية للرئيس جو بايدن خلال المرحلة القادمة، ولاسيما أن بوادر البرنامج الانتخابي القادم لبايدن أو غيره من المرشحين الديمقراطيين قد يتضمن ما يُسمّى التزام واشنطن بدورها في محاربة الإرهاب في العالم، وذلك لمواجهة مبادرات عدد من أعضاء الحزب الجمهوري في مجلس النواب الأمريكي الذين يستغلون أي مناسبة لعزل الرئيس جو بايدن عبر اتهامه بإساءة استخدام السلطة والتقصير في أداء واجبه كرئيس للولايات المتحدة، وجرّه إلى التحقيق بمخالفاته هو وعائلته، وإحالة تلك الاتهامات إلى لجنتي الأمن الداخلي والقضاء التابعتين لمجلس النواب.
قبل أيام أرسل الجيش الأمريكي المحتل تعزيزات عسكرية إلى قواعده المنتشرة في محافظة الحسكة شمال شرقي سورية، وهذه التعزيزات هي عبارة عن رتل عسكري ولوجستي مؤلف من 40 آلية دخلت من بوابة الوليد غير الشرعية، كما دفع جيش الاحتلال الأمريكي بتعزيزات عسكرية إلى مناطق تواجده في "رميلان" وتل بيدر والشدادي بمحافظة الحسكة.
من الواضح أن السيناريو الأمريكي يرتكز على إغلاق المعابر بين سورية والعراق، خاصةً أن هناك معلومات موثقة تؤكد أن هناك تهديدات من الجانب الأميركي من أن أي محاولة لإعادة فتح المعابر بين سورية والعراق ستواجه بردّ أميركي قاسٍ.
هذه الأبعاد المتعدّدة هي التي دفعت الإدارة الأميركية للمسارعة في تعزيز تواجدها العسكري، وفي إحداث تغيير ديموغرافي وهيكلي داخل بنى التنظيمات الإرهابية في مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية، أي ربط هذه القوات من منطقة التنف، وصولاً إلى مناطق مختلفة من إدلب، مروراً بمناطق سيطرة ميليشيات "قسد"، وهو ما كانت قد كشفته موسكو وفي مناسبات عدة عن خطورة ما تنتهجه واشنطن من خلال تشكيل قوات جديدة أو إعادة هيكلة التنظيمات القديمة وتطعيمها بقوات من العشائر العربية وتشكيل غرفة عمليات موحدة تحت الإشراف الأميركي.
كلّ المعطيات تشير إلى أن القوات الأمريكية المحتلة قد تكون عرضت، أو اتفقت مع ميليشيا "قسد" على التحضير لحملة عسكرية للسيطرة على مدينة البوكمال وقطع طريق دمشق– بغداد، وهو أمر غير مستبعد ما دامت منظومات الصواريخ الأمريكية "هيمارس" باتت في يد هذه الميليشيات الانفصالية، وجرى التدريب على استخدامها من قبل مدرّبين أمريكيين. ما يعني أن هدف العملية هو قطع طريق دمشق– بغداد، وتوسيع طوق الأمان حول محيط القواعد الأميركية غير الشرعية في شمال شرق سورية، وصولاً إلى ربط قاعدة التنف بمناطق شرقي الفرات.
إن الإصرار الأمريكي على البقاء العسكري الاحتلالي في سورية، والإبقاء على العقوبات والحصار على الشعب السوري- إجراءات لا شرعية دولية لها، ولا شرعية إنسانية ولا حتى شرعية أمريكية- تخفي أهدافاً خفية، فلماذا هذا الإصرار؟.
تؤكد الأحداث الجارية وإعادة التموضع العسكري للقوات الأمريكية غير الشرعية، بأن "الدولة العميقة" هي التي تضع الأهداف العسكرية منها والاقتصادية، والتي جميعها مبنية على عقلية "الكاوبوي" الأمريكي، والدليل هو تراجع الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن أي موقف تتخذه، لتعود الى المسار الأول وهو البقاء العسكري الاحتلالي، وتشديد الحصار الاقتصادي.
ولعلّ إقرار "لجنة العلاقات الخارجية" في مجلس النواب الأمريكي، بأغلبية ساحقة مشروع قانون "مكافحة التطبيع مع الدولة السورية 2023"، ليس إلا حلقة أخرى في مسلسل التراجع الأمريكي، بل الضغط على الدولة السورية، لأن القانون يفرض شروطاً على الدول العربية للانفتاح على دمشق، وإعاقة التطبيع الدبلوماسي بوضع قيود على الحكومة السورية، ووضع العوائق أمام التطبيع الاقتصادي بوضع معوقات أمام إعادة الإعمار وعودة الاستثمارات والنشاط التجاري إلى سورية.
كما أن قانون "مناهضة التطبيع" الأمريكي يمثل جهداً أمريكياً لمحاصرة روسيا وإيران في سورية، خاصةً بعد أن بات وضع الوجود الأمريكي غير الشرعي في سورية محلّ تساؤل وشك، خصوصاً بعد انتفاء مبررات الوجود الأمريكي شمال شرقي سورية، بانتهاء مهام التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، واقتصار دوره على دعم ميليشيا "قسد" الانفصالية الموالية للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي تسعى واشنطن لتجنّبه عبر العقوبات على الدولة السورية، وتعزيز تواجدها العسكري، وأخيراً محاولة قطع الطرقات البرية بين سورية والعراق، والتي بلا شك أنها ورقة تدافع بها أمريكا عن نفوذها في موازاة حلفاء سورية إيران وروسيا، فهل يقود إعادة تموضع القوات الأمريكية العسكرية غير الشرعية على الحدود السورية- العراقية إلى صدام مع تلك القوات الأمريكية في سورية، أم ستنتهي بتعزيز الانقسام العربي والعودة إلى الاصطفافات الإقليمية بين موسكو وبكين وواشنطن وبروكسل؟.