أغلبكم صفق للعولمة و فرح بتكنولوجيا انترنت و الموبايل دون أن يتعقل أو ينقد أو يفهم ما ينتظره…دخول عصر العولمة من دون استعدادات، ومن دون أجندة جماعية أو وطنية للتعامل مع التحديات والمخاطر الجديدة كشفت المستور. جاءت عولمة العالم العربي من الخارج، على شكل ضغوط متزايدة ومتعددة الاشكال والأهداف، قلصت من هامش الاستقلالية والمبادرة العربية الإقليمية، وعملت على تصدع
الكتلة العربية وتفاقم أزمة النظم السياسية و تفتت المجتمعات.
وقد تجلى هذا التصدع في تراجع مشاريع التكتل العربي الخاصة التي عملت عليها خلال نصف قرن في إطار الجامعة العربية، لصالح مشاريع التكتل المقترحة من الخارج، وأخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقته الإدارة الأمريكية. و الذي يعني توسع دائرة الحروب الإقليمية والوطنية والأهلية وانتشار العنف والإرهاب على أوسع نطاق. و هذا أدى إلى تدويل السياسات الأمنية العربية، القومية والقطرية، والعودة بالمنطقة إلى ما قبل الحقبة الوطنية، مع إعادة نشر القواعد العسكرية وتوقيع اتفاقيات الحماية والوصاية الخارجية، وفي النهاية حرمان العالم العربي
أي إرادة ذاتية أو قرار مستقل.
وبالمثل، قادت الضغوط السياسية إلى تفريغ النظم الوطنية من محتواها الاجتماعي والسياسي والثقافي. وعمل التفاهم بين النخب الحاكمة العربية، والدول الكبرى الغربية صاحبة النفوذ منذ السبعينات، على ولادة نظم تسلطية وأنماط حكم وإدارة تعمل خارج قواعد السياسة والقانون ومعايير العقلانية الحديثة، وتتعامل مع الموارد الوطنية كما لو كانت ملكا خاصا بها. مما نشر الفساد وأشاع الفوضى الاقتصادية والسياسية والإدارية وزاد من انتشار ظواهر الفقر والبطالة والتفكك الاجتماعي و تفسخ في نظام العلاقات المدنية، فتخلت المجتمعات عن الرابطة الوطنية لحساب العلاقة الطائفية
والعشائرية والعائلية، فالجميع اليوم يعيش أزمة الهوية، و الكثير من حكام العالم و خصوصاً العربي و الأفريقي، المستقرة أمورهم و الغير مستقرة منشغلون بالدفاع عن عضويتهم في نادي الأثرياء الذين يحكمون العالم، و منهمكون بإرضائهم كي يضمنوا بقائهم بالسلطة…نحن نعلم بأن تحديات الأمن السيبيراني كثيرة و مستمرة و متشعبة، فهل نستطيع أن نواجه هذه التحديات إن لم نهزم التفتت و عدم الأمن الإقتصادي و المعيشي، الإجتماعي، السياسي، الثقافي و التعليمي الذي تعيشه الكثير من دول المنطقة العربية و الأفريقية؟ في ظل هذا الواقع المهمّش فأن هذه الدول في عرضة مستمرة للإختراق و لحملات التضليل رغم تقدم بعضها في منظومة الأمن السيبيراني. للحديث عن الأمن السيبيراني، لابد من الحديث أولاً عن هذا العالم العملاق للإنترنت، فهو ظاهرة أمريكيه تخضع للمصالح الجيوسياسية للقوة العظمى. تم تطوير الإنترنت من قِبل أفراد، لكنه ولد عام ١٩٦٩ في البنتاغون، أي في القلب العسكري للولايات المتحدة الاميركية ، و لا يزال يعمل لخدمة الإحتياجات الإستراتيجية للبلاد. عمالقة الإنترنت مثل غوغل، ياهو، فيسبوك، توتير وغيرهم، هم فقط مصنّعين للتكنولوجيا و ليسوا بمالكيها، فشهادات البراءة ليست ملكهم بل هي ملك الدولة الأمريكية. حتى البرامج التي تسمح بتشغيل الشبكة عن بعد هي برامج أمريكيه، أيضاً وادي السيلكون هو جزء لا يتجزأ من الدولة الفيدرالية و يزود آمريكا بالمخططات الذكية و بكميات هائلة من البيانات: ٨٩٪ من البشر تدخل إلى عالم التواصل الإجتماعي من خلال منصات أمريكية لتروي تفاصيل حياتها، هواياتها، أفكارها و مزاجها…كل ما يعرضونه على هذه المنصات عن أنفسهم يتم جمعه عن طريق المعالجة الدقيقة لبرمجة الإنترنت، بعد ذلك وكالة المخابرات الأمريكية تحصل على هذه البيانات ثم يتم غربلتها، و الغاية من ذلك هو فهم الإتجاهات العالمية و إتجاهات الدول من خلال مشاعر مواطنيها، ثم تقوم الدولة الأمريكية بتوظيف جميع التفاصيل لتسهيل تحركاتها و إستغلال من تشاء لصالح مخططاتها. في عمليات التجسس ، لا يتم جمع البيانات مباشرة عن طريق الأمن القوم، و لكن يتم من قِبل مكتب التحقيقات الفيدرالي الموجود في القاعدة العسكرية كوانتيكو، في ولاية فيرجينيا، هذا المكتب يعترض البيانات من خلال وحدة تكنولوجيا على أساس قانون مراقبة الإستخبارات الأجنبية ، ثم تُنقل عبر ألياف بصرية عالي السرعة إلى مقر وكالة الأمن القومي في فورت ميد بولاية ماريلاند. إعتراض حركة البيانات المنقولة من خادم إلى آخر من قِبل وكالة الأمن القومي أدى إلى الإنتقال من التجسس إلى التخريب عن طريق المخابرات. هذه الوكالة تجسست على المواطنين الأمريكيين أنفسهم و على الأجانب المقيمين، و ذلك من ٢٠٠١ إلى ٢٠١١، كذا في فترة ٢٠٠٦ إلى ٢٠١٢ تجسسوا على الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، جاك شيراك و فرانسوا آولاند. يُخطئ من يعتقد بأن عمالقة الإنترنت لهم حرية القرار، فحريتهم تخضع للبرلمان الأمريكي الذي يقيدهم بقوانين الإحتكار و الخصوصية (anti trust and privacy)
من يتحكم اليوم في الكابلات و الأقمار الصناعية في العالم، هو سيد القرار، و دور الحكومات في هذا صار هامشياً. غوغل، فيسبوك و مايكروسوفت في توسع في قارة إفريقيا، و هذا يعني توسيع النفوذ الأمريكي من خلال الكبلات و توفير الوصول إلى خدمات الإنترنت لملايين الأفارقة، حتماً سيزيد من سيطرة واشنطن الغير مباشرة على البيانات و البنية التحتية للإنترنت. هل أصبحنا نحن البشر وسيلة دفق للبيانات؟ هل حقاً يستطيع العرب أن يحموا أنفسهم من هذا الإختراق التكنولوجي ما دام من يصنع الأمن السيبيراني هم أول القادرين على إختراقها؟
جميع الدول العربية تم إختراقها من عشرات الثغرات في خلال مواطنيها أو مؤسساتها الفاسدة، إذاً إن لم يستطيعوا حماية أنفسهم على الأرض حيث توجد القوانين و الجيوش و المخابرات، كيف يحمون أنفسهم في الفضاء الذي ليس لديهم أية سيطرة عليه؟ الدول العربية تواجه اليوم أزمات عدة سببها نقص الماء و الكهرباء، أليس من الأجدر حل هذه الأزمات أولاً؟ أليس من الغريب أن نتحدث عن انترنت بغياب الكهرباء؟ أليس من السخرية أن ندافع عن أنفسنا في الفضاء الذي لا حدود تحكمه، و ما زالت الحدود الجغرافية التي رسمها الإستعمار سابقاً تحكمنا و تضعفنا؟ الإرهاب الكيمائي، البيولوجي، الإشعاعي و النووي، أليسوا أفظع خطراً من الإرهاب السيبيراني؟ هل يمكن ألعرب أن تصنع شبكة خاصة بهم، و هم لم يبدؤوا بعد لرقمنة اللغة العربية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالهوية؟ ماذا تختلف الثورة الصناعية الرابعة عن ما سبقها من ثورات صناعية بالنسبة العرب، ألم يكونوا فقط سوق إستهلاكية لكل ما أنتجته هذه الثورات الصناعية؟ عندما تجيب الدول العربية على هذه الأسئلة ستبدأ نمو قوتها، فمن لا يتحكم بأراضيه، كيف له أن يتجنب خطر الفضاء. القدرات كثيرة، و لكن لماذا لا يطبقوا ما علمّونا إياه في المدارس، ألا و هو الوحدة قوة؟!