ان الدهشة من البدهية هي نوع من الإقرار بتدني الادراك الذهني وانحطاط الذكاء .. وهي حالة تستوجب تحويل المندهش الى الفحص العقلي .. فليس من المنطق ان نفغر الافواه ونجحظ بالعيون ونحبس الانفاس اذا مارأينا بدهية من مثل ان التفاحة ستسقط دوما على رأس إسحاق نيوتن ولم يصعد رأس نيوتن اليها ليسقط عليها !! .. ولكن من يحدثنا بالأخبار هذه الايام يريد منا أن نندهش مما يحدث في عالم اليوم من مفاجآت سياسية .. ويريد منا أن نفغر الأفواه وهو يخبرنا ان الثورة السورية هي مشروع إسرائيلي امريكي .. وليست مشروعا تحرريا .. فالبدهية هنا ان كل ماحدث كان عملية استخبارية ضخمة للغاية ومعقدة .. وطبعا لايجب ان نندهش وبدي الذهول اذا ماقيل بأن ما حدث في سورية بدأ في العراق ويستمر الآن في السودان .. فالمشروع واحد والأدوات هي ذاتها ومحركات السحق والطحن في الغرب التي تشغل المطاحن العسكرية بالريموت كونترول هي ذاتها .. والتوقيت يكاد لايخالف الدقة ..
عندما وقعت أحداث السودان بدا الناس مستغربين ومندهشين .. وكأن السودان كان في حالة من المناعة والحصانة لأنه تم تسليمه الى إسرائيل والاميريكيين في مشهد يشبه تسليم الافريقي الأسود كونتا كينتي في رواية أليكس هيلي الشهيرة (الجذور) لتجار الرقيق والعبيد .. ولكن العبودية في النظام العالمي الجديد لم تعد مجرد انهاء للحرية بل صارت عملية سرقة لأعضاء البشر من العبيد .. فالسودان الذي تم تسليم جثته للمشرحة الامريكية الإسرائيلية يتم الان توزيع لحمه وأعضائه لبيعها في سوق الأعضاء الدولية وصناعة كيانات جديدة .. وكان هذا المصير متوقعا وكان علينا توقعه منذ أن عرفنا تجربة الراحل العقيد القذافي الذي سلم سلاح ليبيا واسرارها للغرب مقابل ان يتجنب مواجهة مع هذا الغرب الشرير الشرس المنافق .. وتودد الى القادة الغربيين وقدم لهم المال علهم يتركون ليبيا في سلام دون أن يعضوها بأنيابهم .. ولكن هيهات .. فقد كان القرار الغربي قد اتخذ منذ سنوات .. وكان السياسيون الغربيون يجلسون في خيمته ويتشاورون معه ويشربون الشاي ويتناولون المشاوي من اللحوم البرية وهم يعرفون ان أيامه معدودات .. وأنهم وفيما هم يثرثرون ويأكلون اللحم في خيمة العقيد كانوا قد تركوا زملاءهم في المخابرات الغربية في العواصم الغربية يعدون العدة والمخططات للإطاحة به .. بل وقتله بطريقة بشعة اريد بها الانتقام منه وتلقين غيره درسا في كيفية تحدي الغرب والطمزح للعب دور قاري وعالمي ..
حتى الرئيس الراحل صدام حسين ظن انه باعلانه الحرب على ايران الثورة الخمينية ستجعله من القوى الدولية التي يحتفظ لها الغرب بالجميل والعرفان .. وانه اذا دخل الكويت فانه سيلقى تفهما وتغاضيا وأنه يقايض حربه القادسية بالحاق الكويت بالعراق واستعادتها كما كانت محافظة عراقية .. ولكنه لم يدرك ان الغرب لايسمح له الا بإدارة معارك الغرب ضد أعداء الغرب .. وعندما عرض على الاميريكيين امتيارزات نفطية مقابل انهاء العداء والحصار مع العراق لم يقبل الاميريكون بالعرض حتى ولو نقل نفط العراق الى اميريكا كاملا لأن العراق كان قد تم اتخاذ القرار بانهائه وتحطيمه كقوة كامنة مشرقية ..
ولكن بعد أن رأينا مسلسل تحطيم الشرق حجرا حجرا .. وذبحه ثورا ثورا .. لماذا نستغرب مايحدث في السودان وكلنا راينا في وثيقة اميريكية بعد احداث 11 أيلول ان الجنرال الاميريكي ويسلي كلارك يقر ان الخطة الامريكية الاصلية والثابتة هي ان هناك سبع دول يجب احتلالها وهي العراق لبنان سوريا ليبيا الصومال والسودان ثم ننتهي في ايران .. واذا ماراجعنا هذه السلسة من الدول فاننا نجد انه لم يتم احتلالها باستثناء العراق بل تحطيمها وسحقها بالحروب الداخلية كما لو أنها احتلت فعلا .. وافشالها وتخريب الاستقرار فيها وافقار شعوبها .. وتجزئتها بالاحتلال والإرهاب والفصائل المسلحة حيث يتم تفريغها من النخب العلمية والثقافية وتسليمها للفوضى والفوضويين .. فالوضع في العراق هو نفسه الوضع في السودان .. دولة ضعيفة مجزأة والقرار فيها مبعثر وبيد الفصائل المتناحرة والفساد .. والشعب العراقي تائه بين دينه ومذاهبه وفاسديه ودستوره الهلامي الذي ينفث السم في أنفاس المواليد الجدد .. الذين سيفتحون عيونهم على دستور مذهبي خسيس ومخجل يصلح لادارة حظائر البهائم .. حظيرة للأغنام وحظيرة للأبقار .. وحظيرة للحمير … أي انه نوع جديد من الاحتلال الدائم ..
ولبنان ليس افضل حالا من العراق بعد ان تم تسليمه بحجة دم الحريري وتخليصه مما سمي (الاحتلال السوري) الى جنرالات (الحئيئة والاستئلال) وسمير جعجع وجنبلاط وآل الحريري .. وهؤلاء تم تسليمهم عراقا آخر و باتوا مكلفين بادارة مجموعة من الحظائر للمواشي المذهبية التي لاحصر لها وبلد فقير مسروق منهوب وطوائف لاتحصى وعائلات سياسية هي سفارات للدول .. أي ان لبنان الجديد بعد الخروج السوري خضع لنوع جديد من الاحتلال ..
وفي سورية تم تدمير البلاد بإدارة الحرب الإرهابية عليها ثم سرقة خزانها النفطي والغذائي والمائي .. وتشتيت شبابها وقوتها العالمة ونخبها في أصقاع العالم .. وصارت سورية التي كانت تطعم وتعلم الشرق وتقود قاطرة الثقافة العربية والقومية بلا نخب .. وبلا تعليم وبلا وقود وبلا قمح وبلا مدخرات .. وعلى أرضها فصائل وانفصاليون وارهابيون .. أي انها تصارع نوعا جديدا من الاحتلال غير المباشر ..
والسودان هو المحطة التالية في المشروع الأمريكي .. ورغم انني أعترف أنني لاأعرف عن السودان الحالي كثيرا ولااعرف عن المتقاتلين فيه ولكنني أعرف انه سيتم سحقه وتحويله الى بقايا دولة فقيرة وبلا سيادة وتحت حكم الجنرالات والفصائل التي ستتنافس في بيع كل قطعة في السودان وفق مزاد علني الى الغرب كما فعل المعارضون السوريون من الاخوان المسلمين الاشاوس .. الذين باعوا لواء اسكندرون لتركيا والجولان لإسرائيل وحاولوا نحر الجيش السوري وتحويله الى فرق لعزف الموسيقا والمهرجانات والاستعراضات .. وباعوا الاستقلال الوطني لقطر والسعودية .. وباعوا فلسطين والقدس والاقصى .. بل وذهب ممثلو المعارضة الى إسرائيل وشارك العميل كمال اللبواني في مؤتمر هرتزيليا للأمن الإسرائيلي علنا وبكل وقاحة .. كل ذلك من أجل الوصول الى السلطة ..
أنا أعرف انه لايوجد في كل الحكم الحالي في السودان أي شعار جذاب او محترم .. لاعروبة ولاقومية ولاوطنية .. ولافلسطين ولا يوجد أي من لاءات العرب و لاءات عبد الناصر في الخرطوم الشهيرة (لا صلح لاتفاوض لااعتراف) .. بل فيها ثلاث موافقات (نعم للتطبيع نعم للاستسلام نعم لبيع فلسطين) .. ولاأعرف ان هناك أي شعار جذاب يحمله أي من الفريقين … وكلنا نشهد ان فلسطين غائبة عن كلا الفريقين وان السودان يطبع مع إسرائيل وان الصراع ليس له علاقة بأي حرية او استقلال او عملية تحرر .. ولكن السودان حتى ولو انضم الى حلف الناتو او صار كله قاعدة إسرائيلية فان هناك قرارا بتحطيمه وفق منظور امبريالي معاد للشرق العربي ووفق المخطط الذي كشفه ويسلي كلارك .. ولذلك كان الجنرال البرهان أغبى مما نتخيل عندما ظن ان مصافحة نتنياهو واسقاط اللاءات ستنجيه من المخطط المقرر لتحويله الى جنرال تافه يدير عملية سحق السودان هو وحميدتي .. ولم يتعلم هذا الغبي من درس القذافي وصدتم حسين أي شيء .. اي ان حسن الظن بوعود الغرب هو هلاك حتمي ..
السودان التحق بليبيا والصومال والتحق بالعراق ولبنان وسورية .. وسورية نجت من عملية اعدام وخرجت بمعجزة قادها شعبها .. ولكنها خرجت جريحة .. وستتعافى وهي تمكنت من النجاة لأن هناك قراءة شعبية ونخبا وطنية وقيادة واعية عميقة الجذور في مشروعها القومي والوطني .. ولذلك فانها تتعافي بسرعة .. أما السودان فليس هناك تلك القيادة الفذة الحصيفة .. بل قيادة مراهقة ضعيفة الثقافة والخبرة تبيع المواقف .. وتبيع القضايا .. ومجموعة من الجنرالات السماسرة .. وسيستمر الطحن والسحق في السودان حتى انهائه تماما لسبب أهم من السودان ألا وهو مصر .. التي ستكون محاطة ببلدين فاشلين مقسمين هما ليبيا والسودان .. وستنتقل عدوى الفشل اليها او على الأقل ستزداد مشاكلها وهي لاتقدر على إيقاف انسداد مجرى نهر النيل الان .. وستكون على كتفيها بلدان وفوضى وفصائل وتجار سياسة وتجار سلاح وتجار حرب ..
ومما نرى نجد ان المخطط الشرير لتدمير البلدان السبعة لم يتوقف بل يسير .. ولم يبق سوى ايران .. التي نجت منذ أشهر من عملية تحطيم .. ولكن المحاولات لن تتوقف .. ولاشك ان نجاة سورية سيجعل نجاة ايران أكثر سهولة .. وربما يمكن ان نتنبأ ان اطلاق هجوم معاكس على هذا المخطط لتحطيم الشرق سيكون في نجاة سورية وايران .. لأن نجاة هذين البلدين سيعني ان تحرير العراق ولبنان سيكون أسهل .. واذا نجح هذا المحور المقاوم في كسر قرون المشروع الأمريكي فان ليبيا ستتعافى وستصل اللاعافية الىالسودان يوما ما .. ولكن الى ذلك اليوم فاننا سنرى السودان مقطعا مذبوحا مدمر المدن .. مشتت الشعب .. مهجر الشباب .. وفقيرا بلا أمل ..
لاأمل للشرق الا بهجوم معاكس على هذا الشر .. الذي سيصيب الجميع .. الجميع يعني الجميع .. مصر والسعودية والخليج والجزائر والمغرب .. وأعيد .. الجميع يعني الجميع .. وقد يضحك بعض من هذا الجميع كما ضحكنا جميعا من نبوءة القذافي في آخر مؤتمر عربي في دمشق عندما قال للزعماء العرب .. الدور قادم على الجميع .. ذهب القذافي وبقيت نبوءته .. والدور قادم على من بقي .. الجميع