مفهوم التبعية
التبعية Vassalage هي ظرف موضوعي تشكّل تاريخياً، ينطوي على مجموعة علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية، تعبر عن شكل معين من أشكال تقسيم العمل على الصعيد الدولي، توظّف بموجبها موارد مجتمع معين لخدمة مصالح مجتمع آخر أو مجتمعات أخرى، تمثّل مركز النظام الرأسمالي العالمي، والهدف البعيد لهذه الشبكة من العلاقات التي تنشأ بين مركز النظام الرأسمالي العالمي والمجتمعات المتخلفة (الأطراف، المحيط، التخوم)، هو المحافظة على النظام القائم، وبسط نفوذه على أوسع رقعة ممكنة من الأرض، مع الاحتفاظ للدول التابعة بدورٍ متدنٍّ في تقسيم العمل الدولي، على الرغم من تغير هذا الدور من مرحلة لأخرى، تفرضها مقتضيات النمو في دول المركز من جهة، أو استجابة للضغوط والمقاومة التي تبديها حركة التحرر الوطني في البلدان التابعة من جهة أخرى.
وتمارس الهيمنة على الدول التابعة من خلال حكوماتها بسياساتها الاقتصادية والعسكرية والثقافية، وكذلك من خلال عدد من المؤسسات المالية ذات النفوذ الدولي (مثل البنك الدولي، صندوق النقد الدولي) أو من خلال الشركات الاحتكارية الكبرى (متعددة الجنسية). يتمثل الخطر الكبير الذي تشكله أوضاع التبعية في تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التابعة وفقدانها السيطرة على شروط إعادة تكوين ذاتها أو تجددها، لأن رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، لا يتم انطلاقاً من الحاجات الفعلية للدول التابعة، وإنما انطلاقاً من حاجات النمو الرأسمالي في دول المركز، وليس من خلال الاعتماد على الموارد المحلية وتعبئتها إلى أقصى طاقة ممكنة، وإنما من خلال تكريس الاعتماد على المعونات والتقنيات الأجنبية، ليس من أجل بناء قدرة اقتصادية ذاتية تضمن الانطلاق على طريق التقنية المستقلة، وإنما بهدف المحافظة على الدور المتدني للدولة التابعة في تقسيم العمل الدولي، واستمرار الطبيعة «الذيلية» لاقتصاديات تلك الدول في إطار الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وهكذا تبقى البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية للدول التابعة بنية متخلفة، أي إنها بنية فاقدة للتكامل الذاتي، تتسع فيها الهوة بين هيكل الإنتاج وهيكل الاستهلاك، ومفتقرة إلى عناصر التجدد الذاتي.
وتتصف التبعية، إضافة إلى أنها قيد على الإرادة الوطنية، بأنها تنطوي على علاقة استغلالية تتمثل في:
1ـ تسخير موارد البلد التابع لخدمة دول المركز الرأسمالي.
2ـ إعادة إنتاج النظام الرأسمالي العالمي على نحو موسع.
3ـ حرمان البلد التابع من بلورة نظام اجتماعي يلبي الحاجات الفعلية لمواطنيه.
4ـ الحيلولة دون قيام هيكل إنتاج متكامل داخلياً من ناحية، ومتوافق مع هيكل الاستهلاك المحلي من ناحية أخرى.
5ـ استنزاف موارد البلد التابع (البترول، الغاز، الثروات المعدنية غير القابلة للتجدد)، أو لا يمكن تجدده إلا في إطار توازنات بيئية صارمة (كالغابات مثلاً).
6ـ صورة أرباح محولة لصالح الشركات متعددة الجنسية.
7ـ أثمان السلاح والتكنولوجية الباهظة.
8ـ فوائد الديون الخارجية وخدمتها المرهقة.
9ـ تدهور ميزانها التجاري بارتفاع الواردات من دول المركز وتناقص الصادرات إلى تلك الدول.
10ـ استنزاف العنصر البشري أو ما يسمى نزيف الأدمغة أو هجرة العقول.
أشكال التبعية في الوطن العربي
ـ التبعية التجارية: تتصف اقتصاديات الدول العربية بأنها خارجية التوجه، وأن التجارة تشكل نسبة عالية من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى ضآلة إسهام تجارة الوطن العربي الخارجية النسبية في التجارة العالمية، فصادراته ووارداته منخفضة مقارنةً بإجمالي الصادرات والواردات العالمية. وهذا عائد إلى أمرين، الأول: ترابط قطاعات الاقتصاد العربي مع قطاعات الاقتصاد في البلدان الرأسمالية بدرجة أشد من تكاملها بعضها مع بعض، والثاني: تركز التصدير العربي على النفط الخام في الدرجة الأولى، مما يجعل تغطية الاستثمار رهناً بعائدات التصدير والاستيراد، خاصةً في حالات ركود الرأسمالية وانتعاشها.
ـ التبعية الغذائية: تتمثل في اعتماد الوطن العربي اعتماداً كبيراً على العالم الخارجي (ولاسيما الدول الرأسمالية المتقدمة) في الحصول على حاجته من السلع الغذائية الأساسية كالحبوب والقمح، مقابل تخصصه في المنتجات الزراعية وتصديرها. هذه التبعية تؤدي إلى تعاظم المخاطر التي يمكن أن تنتج عن الاعتماد المتزايد على الغرب الرأسمالي، والتي تتجلى في إمكان تعرض الوطن العربي لاستخدام سلاح التجويع ضده، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب حظر النفط العربي عام 1973.
ـ التبعية العسكرية: وتتمثل في المجالات الآتية:
1ـ المعونة العسكرية: وهي شبيهة بالمعونة الاقتصادية، تقدمها الدول الامبريالية في شكل قروض لشراء أسلحة من الدولة نفسها أو بالشروط التي تفرضها تلك الدولة من حيث التدريب وأهداف الاستخدام، وتكاد أمريكة تحتكر المعونات العسكرية لبلدان المنطقة. وتعد تلك المعونات عاملاً مهماً في تشكيل علاقات التبعية، فهي تتم بين حكومات مباشرة (عامل سياسي) ويرتبط بها تدريب أمريكي مستمر للضباط (عامل عسكري) وتقتضي رد فوائد القروض وأصوله التي تتزايد باستمرار (عامل اقتصادي)، ثم تفترض استمرار العلاقات الوطيدة مع الدول المصدرة للسلاح لضمان وصول قطع الغيار (عامل سياسي وعسكري).
2ـ زيادة الإنفاق على التسلح في البلدان العربية، إضافة إلى النفقات الأخرى مثل الإنفاق على إنشاء الطرق ووسائل الاتصال التي تقام لأسباب عسكرية وكذلك سداد الديون العسكرية، ثم قيمة الأراضي التي تنتزع لأسباب عسكرية.
3ـ فقدان كبير للإمكانات، ناشئ عن فقدان الطاقة البشرية المستهلكة في العمل العسكري خاصة الكوادر الفنية.
4ـ وتعد علاقات التبعية في مجال الصناعة الحربية أكثر تخندقاً من أي حقل صناعي آخر، لأن عمر الأسلحة الحديثة قصير للغاية بسبب التطور التكنولوجي السريع الذي يفرض على البلدان النامية الاعتماد بشكل كلي على تكنولوجية «المركبات الصناعية العسكرية» لإنتاج أنظمة أكثر تطوراً.
ـ الاستثمار عبر الشركات متعددة الجنسية: تعبّر هذه الشركات عن عملية تاريخية هي عملية التركز والتمركز والتدويل المطرد لرأس المال الاحتكاري، وتطبق هذه الشركات استراتيجية شاملة للسيطرة الاقتصادية على الدول النامية وخاصة في المنطقة العربية، وتعتمد هذه الاستراتيجية على دمج الدول العربية ضمن إطار السوق العالمية، وتعميق تبعيتها للبلدان الرأسمالية في إطار تقسيم العمل الدولي، في الوقت الذي تسعى فيه إلى فرض طريق التنمية الرأسمالية على البلدان العربية من خلال:
1ـ تعزيز علاقات التجارة الخارجية بتصدير الخامات واستيراد المنتجات المصنعة كوسيلة لفرض التبعية الخارجية.
2ـ سياسة توسيع دور الشركات متعددة الجنسية في تنفيذ مشروعات وخطط التنمية الوطنية في الصناعة والزراعة والنقل والمواصلات والطرق والتشييد.
3ـ سياسة التوسع في الاستثمار الأجنبي في القطاعات المهمة (كقطاع النفط).
4ـ سياسة احتواء القطاع العام وربطه بالاقتصاد الرأسمالي العالمي سواء من خلال المشاركة مع رأس المال الأجنبي أو المحلي أو من خلال زيادة ارتباطه بالإنجازات العلمية والتكنولوجية الرأسمالية.
5ـ سياسة التدخل لتعزيز مكانة العناصر الرأسمالية المحلية بالاستناد إلى الاستثمارات الأجنبية.
6ـ كذلك تعمل على تدمير الفوائض المالية التي حققتها الدول العربية النفطية، لأن التقديرات تشير إلى أن اقتصاد الدول النفطية لا يستوعب أكثر من ثلث عائداتها النفطية، أما الثلثان الباقيان فقد اتخذا طريقهما بالعودة إلى السوق الرأسمالية العالمية.
7ـ هناك أيضاً سياسة زرع التكنولوجية الأجنبية وترسيخها في محاولة فرض أشكال التبعية التكنولوجية الجديدة، من خلال الاعتماد على السوق الرأسمالية تقنياً واقتصادياً، وهذا يؤدي إلى سياسة استنزاف العقول ونقل التكنولوجية العكسي عن طريق اجتذاب الكوادر في ميادين العلم والتكنولوجية وتسهيل هجرتها من أوطانها.
والأشكال الرئيسية لأنشطة الشركات متعددة الجنسية في الوطن العربي هي: عقود الخدمات في مجال البترول والتعدين، الترخيصات والاستشارات الهندسية، عقود الإدارة، عقود تسليم المفتاح.
آليات التبعية في الوطن العربي
1ـ استخدام وسائل الإعلام والتسويق المعاصرة من أجل خلق نماذج استهلاك جديدة في دول العالم الثالث.
2ـ الاستثمار المباشر في قطاع إنتاج سلع التصدير الأولية، أو في قطاع السياحة وفي قطاعات الصناعات التحويلية، إما بهدف تلبية الطلب الداخلي وإمّا بهدف التصدير.
3ـ استخدام القروض والمساعدات الواسعة من أجل تحديث الهياكل الأساسية.
4ـ استخدام المؤسسات الاقتصادية الدولية أداة لتوجيه السياسات الاقتصادية.
5ـ توجيه العلم والتكنولوجية لتأكيد مركز الشركات متعددة الجنسية المتفوق، وإحكام السيطرة على أسواق الدول النامية وتحديد توجهاتها التنموية.
6ـ الاستفادة من السيطرة على المعلومات ومصادرها من قبل الشركات متعددة الجنسية، وفرض الخضوع لتوجهات السوق الرأسمالية العالمية.
7ـ استخدام السيطرة الإعلامية والسيطرة على مجالات الترفيه لإحداث تغيرات أساسية في القيم والاتجاهات والثقافات، وفرض سيطرة الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية.
8ـ استخدام المساعدات التدريبية الواسعة والتعاون في مجال تطوير البحوث ووسائل الإدارة والتخطيط والمحاسبة، وتطوير نظم المعلومات وتشغيلها، وتطوير نظم الأمن القومي وتطويعها.
9ـ استغلال الحاجة للتسلح ومبيعات السلاح والتدريب العسكري والمساعدات والمعونات العسكرية كأداة للهيمنة والسيطرة.