كانت مفردة "الغوغاء" تعني الأشخاص الهامشيين، الثائرين على الظلم الاجتماعي، دون أن تكون لهم ثقافة من يشخّص سببه. وتعني الأميين التائهين، الحاقدين على المجتمع، القادرين على تدمير ما أنتجته المؤسسة الاجتماعية. بإيجاز: القوة الشاردة التي تبدّد نفسها خارج مشروعٍ يلغي فقرها.
كانت الأحزاب، في أيام نفوذها تحمي الشوارع من الغوغاء. كانت تنشر ثقافة عامة، وتقود حركات سياسية يتداخل فيها الدفاع عن السيادة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس. كانت ذات مشاريع للتنمية والإنتاج والتصنيع والسكك الحديدية الضرورية للنقل والتواصل. وكانت تكسب الثقة العامة بنزاهة رجالها، وتطابق فكرهم وسلوكهم. وأثمر ذلك التماسك الاجتماعي.
ربما لذلك اجتهد المخطط الغربي في تفكيك الأحزاب، بالقمع والإغراء، بالقهر في السجون والاسترخاء في المناصب والمكتسبات. خلال ذلك مات السياسيون "التاريخيون" الذين مارسوا مقاومة الاستعمار. ففقدت الجماهير قادتها ومنقذيها. وأباح الفقر والفساد غياب أفق النجاة، فبزغت الغوغاء. كان العقل الشرير يراقب نتائج انحسار الثقة بالأحزاب، ونتائج الإفساد، وثمار الفقر والحصار، وتدمير الطبقة الوسطى أمّ الفكر السياسي والثقافة. فوضع برنامج تنظيم الغوغاء. فلم تعد أفراداً تائهين، بل أصبحت قوة منظّمة تستولي على الشوارع التي كانت تصدح فيها مظاهرات الأحزاب وتنشر التصميم والأمل بتحقيق السيادة والعدالة الاجتماعية.
وهكذا خبرنا في منطقتنا أنواع تنظيم الغوغاء. فبعضها كان عصابات مسلحة وظّفت في مشروع تفكيك الدولة. وبعضها استولى على الشوارع في المواقع الجغرافية التي يعجز الغرب عن الانتصار فيها. وكان لكل من اللّونين، الممولون المكلفون بالإنفاق عليه، والشعارات اللازمة في اللحظة المرغوبة.
حملت تلك الغوغاء المنظّمة التغيرات الكبرى التي عاصرناها. أطلقت رصاصة البدء بالمنعطفات التاريخية، وقلب الأنظمة، وتدمير النصب والمثُل. من يستعد تقسيم يوغوسلافيا، مثلاً، يكتشف أن منظمة "أتبور"، وتعليمات جين شارب في كتاب: "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية"، نفّذت مخطط العمل بإحراق المؤسسات والوثائق. وازدهرت تحت خيمتها التجارة بالأعضاء البشرية، والمهربون والسماسرة. ويتبيّن أن "الثورة الملوّنة" في أوكرانيا، سنة 2014، التي احتفت بها نولاند والسفارة الأمريكية، كانت ثمرة عمل الغوغاء المنظّمة التي رمت من نوافذ بناء النقابات أربعين إنساناً وأحرقت بعضهم مع البناء.
هل كنا ذات يوم متفرجين واهمين بأننا سننجو من مشروع توظيف الغوغاء في شكليه، الثورة البرتقالية والعصابات المسلحة؟ لنترك غرفة الموك والعصابات المسلحة التي كُشف أداؤها ومموّلوها وفكرها! ولنتذكّر حرق الوثائق في وزارة الاقتصاد في بيروت! والفتيات اللواتي ركبن الأكتاف صارخات "كلون يعني كلون"، والقبضة المرفوعة، شعار "أتبور" اليوغوسلافية، التي بقيت منصوبة في ساحة في بيروت زمنا طويلاً! والهجوم على وزارة الخارجية اللبنانية! واقتحام الغوغاء المنظّمة شوارع بغداد والبصرة وحرق المؤسسات والسيارات لإسقاط حكومة عبد المهدي لأنها وقّعت اتفاقية مع الصين تنجز مشروع الكهرباء وتثبّت استقلال العراق! قال سوروس في اجتماع دافوس الأخير: "انخرطتُ في مجال أطلق عليه العمل الخيري السياسي، في ثمانينيات القرن المنصرم.. أردت مساعدة الناس الذين كانوا غاضبين وقاتلوا ضد القمع. وقمت بتأسيس المؤسسة تلو الأخرى بوتيرة متسارعة".
الغوغاء المنظّمة دائماً تحت الطلب! انتقل إحراق المؤسسات أمس إلى إيران، لأن ايران قوة إقليمية ودولية من منظومة دولٍ تقلب النظام العالمي وحيد القطب. يظهر الفيديو فتياناً يركضون وراء رجل على رأسه عمامة ويرمونها على الأرض. ونساء عاريات تماماً، استُخدمت مثيلاتهن في اعتراض قادة سياسيين غير مرغوبين، منهم الرئيس بوتين، يمولهن جورج سوروس. الهدف من الاحتجاجات في ايران الالتزام بالحجاب؟ عظيم! مع أن الحجاب الإيراني في المدن مثل حجاب أمهاتنا المتنورات في خمسينيات القرن الماضي، لا يقبل لا السفور بالقوة، ولا الحجاب بالقوة! ولكن لماذا لم يثوروا هناك غضباً على من قتل العلماء الايرانيين؟ أو على من انتهك حدود إيران من قواعد أجنبية؟ لماذا تجاهلوا طلب إيران إخلاء المنطقة من القواعد الأمريكية؟ في الصين احتج بعض الشباب على الإغلاق بسبب كورونا؟ لأن الصين قوة دولية تستهدفها الولايات المتحدة! هكذا يحرك المايسترو الغوغاء المنظّمة في مساحاتٍ متنوعة، فيؤكد هو نفسه أن الأحداث مترابطة من منطقتنا إلى بحر الصين.
تقع أحداث السويداء في هذا السياق. لتمنع الاتجاه إلى الشمال، حيث ينهب الأمريكيون وقسد النفط والقمح، ويهددنا احتلال تركي. وكأن من يتمنى فصل السويداء العزيزة عن الجسم السوري يضع يده في يد المرتزقة الذين يتمنون الاستقلال بالشمال السوري!
في أزمنة سابقة، كان يتهم بالخيانة من يفتعل حدثاً في لحظة الخطر على الوطن. غيّرت الغوغاء المنظّمة المعايير! وما أعجب أن يتغطى من يحرق المؤسسات السورية بالاعتراض على أدائها!
ما أكثر من يتمنى سقوط هذه الحكومة العاجزة حتى عن صياغة تصريحاتها! ما أكثر من يلوم الأحزاب على تقصيرها عن احتواء الشوارع! ما أكثر من يشعر بالمسافة الشاسعة بين بطولات الجيش السوري، وأناقة السياسة السورية، وبين المؤسسات المدنية التي يفترض أن تخدم الشعب السوري! ذلك لأننا نقدس العلَم السوري، ويطربنا النشيد السوري، ونؤمن بوحدة الأراضي السورية والسيادة السورية! لأن حرق المؤسسات وقتل شرطي سوري ليس تعبيراً عن نقمتنا على الفساد والأداء الحكومي، بل لستر مشروع العدو الذي تنفذه الغوغاء المنظّمة.
تفترض النجاة، الحزم في تحييد القوى التي تحرك الغوغاء المنظّمة. والتسديد على من يزيد صعوبة حياة السوريين بنهبه الشّره، وتعاليه على الناس، وجرائم الحصار على سورية. أما الحل لاستعادة الثقة العامة، فأوله أن يصبح المسؤول إنساناً عادياً. يعاني كالناس من المواصلات، ومن الغلاء. يترك مكتبه المدفأ وسيارته ذات الزجاج المعتم، إلى برد الشارع. يمشي مثلنا على الأرصفة المهترئة، دون مرافقين. يعيش بيننا دون حراسة وخدم على بابه. يقف مثلنا في مؤسسة الخضار وتذهله الأسعار. يعذبه مثلنا أن يقول له موظف: "ماإجت الشبكة"، أو يقول له: تعال غداً. يفتش مراحيض المدارس ليطمئن على النظافة، والمدارس النائية ليعرف كم يمشي الطلاب ليصلوا إليها، وهل فيها ما يلبي حاجاتهم؟
والحل: عودة الأحزاب إلى حراسة المؤسسات وكشف الفساد، لا السعي إلى اقتسام المناصب. دون أن تعود الأحزاب إلى الشوارع، لن ترتد عنها الغوغاء المنظّمة التي تُستخدم في مشروع سياسي.