أتاحت اللغة العربية لذويها قدرة على الاندماج في هذا النسق المركّب من العلامات، التي تحيل إلى مزيج من الواقعي والافتراضي. إنّها تتخطّى مجرّد الوظيفة التعبيرية أو لنقل التمثيلية التي تعكس صورة عن الأشياء الخارجية، بل هي نفسها تؤثث عالما من الصور من خلال، هذا الحدس الأنطو-لساني الممتد امتداد الوجود.
أضاع العرب حدسهم الذي يمكنهم من التقاط الحقيقة قبل التوافق عليها برهانيا. كما أضاعوا جمالية التعبير عن الحقائق، فباتت لهم رطانة ملتبسة، كما أضاعوا القدرة على التأريخ، لردّتهم إلى خُرافة الجاهلي. إنّهم بالفعل مستأنسون بظُلمة واقعهم، حيث لم يعد في جعبت كثير من سماسرتهم سوى الكيد والحقد والغباء. ومثل هذا الوضع لا يرضي أحرار العرب وأذكيائهم.
فضيلة السماع غائبة، إنهم لا يسمعون، ولا يصححون أخطاءهم، هم في استعراض أحمق، ملؤوا الدنيا تكرارا وبؤسا وتآمرا.
وسنذكر أوباش العرب بمروءة أحرار العرب وأسوياءهم، إنّ العربي الحرّ لا يحتاج إلى التآمر ، لأنه يدعس متى رأى ما رأى. وهو لا يكيد لأنّ الكيد طبع في سفهاء العرب والأمم، وهو لا يحقد لأنّ ذلك شيمة الضعفاء. البحث عن القيم العربية هو بحث عن قيم الفرسان والأحرار العرب، وهم في حالة تآكل اليوم، بل هم مستهدفون من قبل بُغاث العرب وذُهانييهم.
لماذا العرب ظاهرة صوتية؟
وجب أخذ العبارة تغليبا، لأنّ سطوة بعض العرب على المنابر وسلطة الكلام ودكاكينه لا يعني أنّهم كلهم ظاهرة صوتية. وكونهم كذلك هو عرض لمرض.
ربما حتى من قالها أوّل مرّة- عبد الله القصيمي- لم يدرك أسبابها التحليل- نفسية، وها قد آن الأوان لكي نبيّن الأسباب السيكولوجيا للعويل الأعرابي الفارغ هذه الأيّام:
صنّف العرب منذ زمان كل فعل لا يرقى إلى المروءة العربية معرفة وأخلاقا، فعلا أعرابيا. والزعيق شيمة الأعراب لا العرب، والعناد والعصبية وغير من الآفات ليست من كمال عروبتهم بل هي نقائص الأعراب. وهي نقائص عادت اليوم إلى المشهد العربي في سياق الردّة الكبرى.
سأعود للتحليل النفسي، سأعود للطفولة، وربما لدى فرويد بعضا مما لا مشاحة في استثماره. لا يعنيني تفصيل المراحل التي يقطعها الطفل ناشئا، وهي ما يفسر أشكال الثّباتيات الطّفالية، وهي ثباتيات طفالية سرعان ما تتحول إلى طفيليات نفسية، قد تجلب على صاحبها أشكالا من الذهان (psychose) لا محيد عنها. فالزعيق الأجوف الذي يضيف قيمة للوعي، هو تجلي لذهان عربي، يستعيض باللغة على واحدة من المراحل الحيوية في نشأة الكائن، أو ما يسميه فرويد بالمرحلة الفموية(Oral stage)، هي المرحلة الأولى في نشأة الطفل، والتي يكون فيها التعبير الفموي هو الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم وفعل الاشتهاء. وهذه من البديهيات، فالطفل يستقبل العالم ومشاعر الاستمتاع أكلا وتعبيرا وانتشاء عبر الفم. ويحدث عن تتأخّر هذه المرحلة، وليس غريبا أن تجد الأطفال في أوقات متأخرة لا يكفون عن الزعيق المزعج. أي اختلال وحرمان في المرحلة الفموية، تنشأ عنه عقدة مزمنة تظل مع صاحبها حتى أرذل العمر. وفي هذا الإطار، يبدو أنّ الكثير من العرب - عرب الظاهرة الصوتية- يعانون من خلل في المرحلة الفموية، وبأنّ الظاهرة الصوتية ليست مجرد توصيف ثقافي واجتماعي، بل هي اختلال سيكولوجي جماعي.
هل يا ترى، سنستمرّ في تدبير أزمتنا بمزيد من المرض، أم أنّ واحدة من مهام العرب اليوم هو تحليل الذات النفسية العربية قبل أن نجعل منها مجرد معضلة سياسية أو حتى معرفية؟
إنك تجد جذور المعضلة في التنشئة، فمرضى الزعيق، لم يأخذوا حظّهم من الكلام، ربما عاشوا حرمان النطق والكلام، وإذا أطللنا على عالم أدلر، فقد يكون ذلك ناشئا من عقدة حقارة.
إنّ التنشئة والاستبداد والقمع الذي عانته الطفولة العربية أفرادا وجماعات، من شأنها أن تنتج أجيالا من اللاّ-أسوياء، الذين يخلطون بين غريزة الكلام والحقائق الموضوعية. فالأطفال الذين يعانون من اختلال في المرحلة الفموية، يطلبون الحقيقة بالزعيق، وكذلك اليافعين يحتجون بالزعيق بدل الحقائق، تماما كالطفل حين يصرخ أكثر لتحقيق طلباته.
الثورة التربوية في المجال العربي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار توفير بيئة صالحة لإنجاح كل مراحل التنشئة والتربية النفسية، وأن يتعلم الطفل أن الكلام هو لغاية ومقصد وإلاّ فقد الإنسان خاصية الناطقية لصالح الزعيق الذي يشاركه فيه ما دون الإنسان.
إنّ استفحال الظاهرة الصوتية ليس فقط مرضا سيكولوجيا جماعيا قد يصيب أمّة اختلت منظومتها القيمية والتربوية، بل مع تراكم الأحوال، قد يتحوّل إلى حالة إرهابية، لأنّ الذّهاني بدل أن يعالج ناطقيته، يحاول اكتساب مزيد من المغالطات لإسناد ذُهانه، بل يرتّب على وضعيته تلك آثارا مادية ضد الآخرين. إنّ عدوّ الذهاني الفاقد للناطقية السّوية، هو المنطق والمنطقي، يحتاج الذُّهاني إلى سُفهاء يبادلونه الوهم، إلى ضُعفاء وأهل طمع ودجل، وذُهانيين يتكاملون معه في رطانته وخنفشارياته..