قديمًا كانت النظرة الغالبة لمفهوم الأمن القومي لأي دولة أو أمة على أنه يرتبط كلياً بقوتها العسكرية القادرة على صون أمنها من كل خطر، لكن سرعان ما تغيرت تلك النظرة، وأدرك الجميع أن الأمن القومي يتعدى القدرات العسكرية للدولة إلى القدرات السياسية والاقتصادية والعلمية، وأصبح هناك إيمانًا بأن الاهتمام بالبعد العسكري وحده يؤدي إلى تهديد الأمن وليس حمايته، فليس في مقدور دولة تحقيق أمنها إذا كانت عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من استقرارها الداخلي القائم على الحد الأدنى من العدالة والمساواة والتنمية.
إن انتهاك الحقوق والحريات وغياب المبادئ الديمقراطية وتفاقم الظلم الاجتماعي، والاستئثار بالحكم، تؤدي في كثير من الأحيان إلى تعريض أمن الدولة للخطر، الأمر الذي يؤكد على العلاقة الجدلية بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي، فقد يُسفر عدم الاستقرار الداخلي أحيانًا عن حدوث تدخل خارجي من شأنه الإساءة إلى استقلال الدولة، ولقد شهد عام 1947 بداية ظهور مفهوم الأمن القومي على الساحة السياسية من خلال “قانون الأمن القومي لعام 1947” عن الكونجرس الأمريكي، والذي أسس لمجلس الأمن القومي.
ولكن القانون لم يعرف الأمن القومي، وإنما ترك الباب مفتوحًا لأي تعريف من خلال النص على أن مهمة مجلس الأمن القومي تقديم المشورة والنصيحة للرئيس في أي قضية سياسية كانت أو اقتصادية أو عسكرية.[1]
وبمرور الوقت، ونظرًا للأحداث العالمية المتلاحقة بدءاً بالحرب العالمية الثانية، ومن ورائها حركات الاستقلال الوطني والحرب الباردة وغيرها، انتشر مفهوم الأمن القومي على نطاق واسع بين الدول، وبدأت كل دولة تعمل على صياغة مفهومها الخاص بالأمن القومي الذي تحمي به مصالحها المتعددة في عالم أصبح التغير فيه سمة لا تتغير.
تطور مفهوم الأمن القومي:
تطور مفهوم الأمن القومي في تعريفاته ليخرج من النطاق الضيق للمخاطر الخارجية، ليضم ويشمل المخاطر الداخلية التي قد تكون مهددًا للأمن القومي، ففي 1968 عرفت موسوعة العلوم الاجتماعية الأمن القومي على أنه: “قدرة الأمة على حماية قيمها الداخلية من الأخطار الخارجية”.
وفي 1990 عرف تشارلز مائير الأمن القومي على أنه: “القدرة على التحكم في تلك الظروف المحلية والأجنبية التي يرى الرأي العام لمجتمع ما، أنها ضرورية ليتمتع باستقلاليته ورخائه”.[2]
ويمكن القول، بأن السمة الغالبة على الأمن القومي هو تراجع التهديدات العسكرية للأمن القومي إلى مراتب أدنى، لصالح تهديدات أخرى بعضها داخلي، مثل: الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية، التي أدت في الكثير من الأحوال إلى تفتت دول بأسرها واختفائها وظهور دول أخرى محلها، كحالة دولة السودان التي تفتت إلى دولتين.
ويرى الدكتور عبد المنعم المشاط أن الأمن القومي هو: “قدرة الدولة ليس فقط على حماية الوطن من التهديدات التي تواجهه، وإنما يتصل كذلك بقدرة الدولة على حماية مواطنيها، وتحسين كل من نوعية الحياة وجودتها ومستواها”.[3]
وإجرائياً يمكن القول إن مفهوم الأمن القومي، يتضمن: سلامة أراضي الدولة، ووجود سلام وانسجام اجتماعي بين الطوائف والعرقيات في الدولة، وجود قوة عسكرية رادعة لدى الدولة، الاقتصاد قوي وتنمية، وتوفر استقرار سياسي لدى الدولة.
أبعاد الأمن القومي:
إن تطور مفهوم الأمن القومي ارتبط بشكل وثيق بتطور أبعاده، فإضافة بعد جديد للأمن مثل: البعد الاقتصادي أو القيمي، يتماشى مع تطور النظام العالمي والتهديدات الجديدة التي قد تنتج من جراء ذلك التطور، إلا أنه يمكن القول بوجود ستة أبعاد رئيسية للأمن القومي تحافظ عليها الدول جميعا كالتالي:
أولاً: البعد السياسي:
تعرف الدولة على أنه كيان يتكون من ثلاثة جوانب؛ أرض وشعب وحكومة، من هنا، فإن البعد السياسي للأمن القومي يسعى إلى حماية النظام السياسي في الدولة وحماية الأمن والنظام العام وأجهزة الدولة التي تساهم في عملية الربط بين المواطن والدولة، وتساهم في تسيير الأعمال اليومية داخل الدولة. ويهتم البعد السياسي بخلق عملية الاستقرار الداخلي من خلال خلق نظام ديمقراطي يساهم فيه المواطنون جميعهم في العملية السياسية بحيث يكون المسلك الديمقراطي في الحكم هو الأساس الذي تسير عليه مجريات الأمور في علاقة المواطن بالدولة.
ثانياً: البعد الاقتصادي:
يتمثل في حماية موارد الدولة واقتصادها وتطويره من أجل توفير متطلبات المعيشة للمواطنين، ويعد البعد الاقتصادي للأمن القومي ذو أهمية كبيرة، وذلك لارتباطه بتوفير احتياجات الدولة الاقتصادية، أو بقدرتها تجاه الدول الأخرى. وقد تتمثل هذه الإمكانيات فيما تملكه الدولة من رؤوس أموال، أو خبرة، أو منتجات مصنعة، أو مواد أولية، أو أسواق لشراء المعروض من المنتجات وتسيير التجارة ورؤوس الأموال، وبالتالي تسعى الدولة لزيادة قدرتها الصناعية، كما تعمل على توفير المواد الخام، أو المواد الغذائية اللازمة، ورفع كفاءة العاملين في المجالات الصناعية، بالإضافة إلى دعم قدرتها المالية للوفاء بالتزاماتها الخارجية والداخلية دون المساس باحتياجات المواطنين الأساسية.[4]
ثالثاً: البعد العسكري:
يتمثل في حماية الدولة من الاعتداء الخارجي عليها، ويركز على حماية استقلال الدولة وسلامة أراضيها ضد أي عدوان قد يقع عليها حتى لو تم بالعدوان على الدول التي من المحتمل أن تهاجم إسرائيل من خلال نقل المعركة إلى أراضي تلك الدول، عن طريق تدريب إسرائيل وتسليحها بالأسلحة الحديثة، والاهتمام بخطط الدفاع سواء في أوقات النزاع، أو في وقت السلم وإعداد الخطط الدفاعية والدراسات اللازمة لمواجهة الأخطار المحتملة أو المتوقعة، بالإضافة إلى ارتباطها بمجموعة من مواثيق الدفاع القادرة على ردع أي عدوان قد تتعرض له.
ويركز هذا البعد على دور ومهام القوات المسلحة للدولة في حمايتها ضد أي تهديد مسلح خارجي يهدد حدودها وسلامة أراضيها، أما دورها الخارجي فهي أن تكون قوة يدركها العالم الخارجي ويقتنع بأنها قادرة على الحفاظ على مصالحها، وتحقيقها في حالة الاضطرار لاستخدام القوة، أو العمل كقوة رادعة للقوى المعادية دون أن تقوم بالفعل باستخدام القوة، الأمر الذي يلقي بمسئولية تحقيق الأمن القومي على عاتق الجيوش وأجهزة المخابرات التابعة للدولة.
رابعاً: البعد الاجتماعي:
يتمثل البعد الاجتماعي في توفير الأمن والرفاهية ومستوى جيد من الحياة للمواطنين من أجل زيادة الشعور بالانتماء والولاء للدولة، ويهدف ذلك الجانب إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين من خلال التوزيع المتساوي للفرص بين الأفراد، والتوزيع العادل للدخل بالشكل الذي يضمن الرفاهية للجميع وتقديم الخدمات التعليمية والصحية للجميع. وفي نفس الوقت، يسعى البعد الاجتماعي للأمن القومي إلى تحسين جودة الحياة في الدولة بالشكل الذي يجعل الأفراد مقبلين على الحياة، وغير ناقمين على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي داخل الدولة.[5]
خامساً: البعد القيمي:
يتمثل في الحفاظ على ثقافة الدولة وهويتها الوطنية، وحماية معتقداتها وعاداتها وتقاليدها. ولقد ظهرت أهمية هذا البعد حديثاً بالتوازي مع التطور في وسائل الاتصالات والمواصلات المرتبطة بظاهرة العولمة التي ساهمت في جعل العالم قرية صغيرة، يتواصل أفردها بوسائل شتى. ومع ظهور تلك الثورة في وسائل الاتصال ظهرت أنماط جديدة للحروب والصراعات، لا تعتمد في أدواتها على الافراد والأسلحة، بل على شاشات الكمبيوتر والتلفاز التي يمكن من خلالها غزو مجتمع ما ثقافياً، وذلك عبر اجتذابه إلى أنماط حياة مغايرة ومناهج تفكير مختلفة.[6] ومن هنا، أضحى الاهتمام بحماية العادات والتقاليد المجتمعية التي يتعايش معها المجتمع وتحافظ له على كينونته واستمراريته جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي لأي دولة.
سادساً: البعد البيئي:
يتمثل في التعامل مع المخاطر البيئية التي قد تهدد الدولة، مثل: مشاكل التصحر والجفاف وحرائق الغابات أو غيرها من الكوارث الطبيعية، التي يجب على الدولة أن تعد لها العدة بحيث تسيطر عليها، وتقلل من مخاطرها وتأثيرها على البشر المحيطين بها. وفي نفس الوقت يتضمن ذلك التخطيط مع الدول الأخرى من أجل مناقشة القضايا البيئية العالمية كما في قمة يوم الأرض، نظراً لأن العديد من المشاكل البيئية تشترك فيها دول العالم سواء بالسبب او بتحمل الآثار، ولا تتوقف أبعاد الأمن القومي عند ذلك الحد، بل تزداد حسب طبيعة كل دولة، وطبيعة المخاطر التي تتعرض لها، فبعض الدول قد تجد أن للأمن القومي بعداً تكنولوجيا، ً يتمثل في حماية أنظمتها التكنولوجية من مخاطر الاختراق أو القرصنة كما في الدول المتقدمة، في حين أن ذلك لا ينطبق بالضرورة على دول العالم الثالث. وفي بعض الدول تعتبر الموارد المائية وحمايتها أولوية كبرى للأمن القومي لما تمثله تلك الموارد المائية من حياه لتلك الدول.