عبد الناصر :
"أم كلثوم ...دي بنت جدعة "
غير معروف عن أم كلثوم تصديها لكتابة مقالات صحفية ..فعلت هذا مرة واحدة في اكتوبر عام 1971 وخصت به مجلة ثقافية هامة هي مجلة الهلال .. كان المقال بمناسبة مرور عام على رحيل عبد الناصر واحتوى على تعبيرات مثل " معلمي ، أستاذي ... تعلمت منه " غير أنه يكشف عن أول مرة التقت فيها بعبد الناصر ، تقول : لا أزال أذكر أجمل الذكر ...المرة الأولى التي رأيت فيها جمال عبد الناصر .
كان ذلك في عام المأساة الكبرى في تاريخ الأمة العربية ، مأساة فلسطين سنة 1948 حيث هبت مصر للذود عن الأرض السليبة ، وذهب الجيش إلى هناك وكان على أبواب النصر ، لولا أن دبرت له الدول الكبرى المؤامرة التي انتهت بخدعة الهدنة الأولى ثم الثانية فانقلب النصر إلى هزيمة وحوصر أبناؤنا في الفالوجة حصارا قاسيا مريرا أبدوا خلاله ألوانا أسطورية من البطولات في الصمود في وجه العدو ، كانت مثار اعجاب العالم " .
تابعت أم كلثوم ككل المصريين أخبار ما يحدث في فلسطين وخاصة حصار الفالوجا وما فعلته الكتيبة المصرية فيه من بطولات بقيادة الضابط السيد طه الذي اشتهر باسم " الضبع الأسود "..تضيف أم كلثوم في مقالها بالهلال :
"كنت أتتبع أنباء اخوتي وأبنائي أبطال الفالوجا يوم بيوم وساعة بساعة ، وقلبي معهم يخفق لهم في كل لحظة ، ويضرع إلى الله أن يؤيدهم في صمودهم العظيم إلى أن يردهم إلينا سالمين ، واستجاب الله الدعاء ، وعاد أبطال الفالوجة إلى القاهرة ، وعلى رأسهم قائدهم البطل ، المرحوم السيد طه ، دعوتهم جميعا ، جنودا وضباطا إلى حفل شاي في بيتي ، ووجهت الدعوة كذلك إلى وزير الحربية ( حيدر باشا ) في ذلك الحين الذي اتصل بي معتذرا عن عدم استطاعته تلبية الدعوة ، وأضاف أنه لا يرى ضرورة لدعوة الجنود والضباط أيضا .
واستغربت منطقه وقلت له :
لقد وجهت إليهم الدعوة وانتهيت وسأكون سعيدة بهذا اللقاء ، فإذا شرفتنا بالحضور فأهلا وسهلا ، وإذا لم تستطع فهذا شأنك".
وتضيف أم كلثوم :
جاء الأبطال إلى بيتي ، واستقبلتهم بدموع المصرية الفخورة بأبناء مصر ، وجلست بينهم وأنا أشعر أنهم أسرتي ..صميم أسرتي .. أخوتي وأبنائي .
وأذكر يومئذ أنني أقمت لهم في حديقة البيت محطة إذاعة صغيرة تذيع عليهم ما يطلبون من أغنياتي ، وقدم لي "الضبع الأسود " ضابطا وجنودا واحدا واحدا ... وحدثني عن أصحاب هذه البطولات ، وكان من بينهم الضابط الشاب جمال عبد الناصر ، وشددت على يده وأنا أصافحه ، وأتأمل في عينيه من بيريق الوطنية ... وحدة العزم ... وعمق الايمان وكان هذا هو أول لقاء لي بالبطل قبل أن يلعب دوره التاريخي في حياة مصر بأربع سنوات .
قصة هذا اللقاء الذي أوردته أم كلثوم في مقالها سبقته مقدمات أدت إليه ، يرويها سعد الدين وهبه قائلا :
كانت أم كلثوم مهتمة جدا بحرب 1948 وتتابع أخبارها من الصحف التي تعودت على شرائها في هذه الفترة ساعة الفجر ، وتسبب هذا ـ كما روت لي ـ في مرضها الأول .. وكان لمشاركة ابن أختها كضابط في الجيش في هذه الحرب سبب إضافيا لاهتمامها .. وأثناء حصار الفالوجا ، غلب اليأس ضباط الحصار نتيجة عدم استجابة المسؤولين في مصر لأي مطلب من مطالبهم الخاصة بالقتال ، فقرروا كتابة رسالة إلى أم كلثوم يطالبونها بتقديم أغنية " غلبت أصالح في روحي " وكان عبد الناصر هو صاحب الاقتراح .. ولما تشكك الضباط في تلبيتها لهذا المطلب ، رد عليهم : لا " هتغني أصلها بنت جدعة " تلقى حيدر باشا الرسالة بدهشة بالغة من هذا المطلب غير المتوقع ، ولعجزه عن تلبية مطالبهم العسكرية ، لم يكن أمامه سوى توصيل رسالة الضباط إلى أم كلثوم ... التف الضباط والجنود المحاصرون حول الراديو وضبطوا الموجة الإذاعية التي تبث حفلها الشهري المعتاد وترقبوا ما إذا كانت الرسالة وصلتها أم لا ؟ وهل ستستجيب لمطلبهم أم لا ؟ وكانت المفاجأة في أغنية " غلبت أصالح " بالإضافة إلى أغنية " أنا في انتظارك " .. فرح المحاصرون وشعروا في هذا الوقت أن في مصر من يستمع إليهم ويحس بنبضهم ويلبي مطلبهم ويخصهم بشيئ ما .
بعد الخطاب .. ثم اللقاء .. مضى كل منهما إلى طريقه .. عاد جمال عبد الناصر من الفالوجا إلى مصر بقناعة أن تحرير فلسطين يبدأ من تحرير القاهرة ، وبحث في الأرض وهو في الظل عن بذور التغيير فكان تنظيم الضباط الأحرار .. ومضت أم كلثوم إلى فنها .. ينتظرها الجمهور كعادته الخميس الأول من كل شهر .ز انتظارا وصفه الشاعر كامل الشناوي : " أصبح لدينا تقويما جديدا اسمه تقويم السنة الغنائية أو الشهر الغنائي يبدأ ليلة حفل أم كلثوم ".
كان الغليان الشعبي ضد الأوضاع السائدة يقترب من نقطة الانفجار .. والكفر بالأحزاب الموجودة بلغ محله . ويصف المؤرخ طارق البشري الفترة التي عانت فيها الحياة المصرية من إلغاء معاهدة 1936 في يناير 1952 : " لم تستطيع التيارات السياسية الشعبية وتنظيماتها أن تتجمع سريعا في شكل من أشكال الجبهات التي يمكنها تجميع الرأي العام السياسي وراء الأهداف المتفق عليها ، ويوم حريق القاهرة نفسه كادت مصر أن تكون بغير سلطة ، وانفلت زمام الأمور ورغم ذلك لم تستطع التنظيمات القائمة مجتمعة أو متعددة أن تلتقط أيا من أطراف السلطة الملقاة طريحة ، وقد لوحظ في تلك السنوات الأخيرة أن مابين العناصر غير الحزبية من الوطنيين تيار يفتش عن " الرجل " و " القائد " " الزعيم " بل ينادي جهرا بحثا عن " الديكتاتور " الذي تحتاجه مصر ، وزاد هذا الاتجاه نموا بعد انكسار التنظيمات الشعبية الذي أعقب الحريق وحتى 23 يوليو 1952 "
كانت الأغنية تعيش آنذاك محنتها ، شأنها في ذلك شأن الوطن ، وبدأت ذروة المحنة مع الحرب العالمية الثانية .
يقول الموسيقار محمود الشريف في مذكراته :
ترددت قبل الحرب على بعض المسارح في " روض الفرج " ومسرح على الكسار والتي تحولت بعدها كلها إلى كبارها للترفيه عن جنود الحلفاء وتغير كل شيئ ..الأفاقون والسماسرة والعربجية الذين يتعاملون مع جيوش الحلفاء تحولوا إلى أثرياء حرب وتحول الفن إلى سوق رخيص وتحولت معه ، جامعات السبارس إلى راقصات ومطربات ومنولوجست ولم يبق سوى عبد الوهاب الذي لزم الصمت وتوقف عن العمل إلا فيما ندر .. صار الفن ملهاة للجنود في الكباريهات واشتقت كل الأغنيات من صلب " أحب ياجوني " ، وانتقل أثرياء الحرب من باب اللوق والشعرية إلى الزمالك وجاردن سيتي ، لتصبح القاهرة كباريه كبيرا " .
يضيف الشريف : " تأكد لي سخف الأغاني التي كانت تردد اسم فاروق الملك بالحب والاجلال والتكريم ، بينما الجماهير تهتف بسقوطه في شوارع القاهرة وال‘سكندرية وتكشف لي أن الجماهير كانت في طريق والقادة والمغنيين في طريق آخر بعيدا عن الناس وعما يعتمل في نفوسهم " .
ويقول الموسيقار كمال الطويل :
شهدت مصر في الأربعينات من القرن العشرين مجموعة أصوات عظيمة ... عبد الغني السيد ، كارم محمود وغيرهما من الأصوات الجميلة ورغم جمال هذه الأصوات ، إلا أن أصحابها تأثروا في المناخ الاجتماعي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية ففي زمن الحرب ينقلب الهرم بحيث يصعد البعض فوق التل مثل تجار بضاعة " القرنص " أو مخلفات الحرب ... ومع الثراء المتولد من هذه التجارة ، يحتاج الأثرياء الجدد إلى ما يناسبهم من الفن ، كنمط أغاني " ياشبشب الهنا " هذا النوع من الأغاني كان يحتاج إلى راقصة مع تقديمها لزوم الذوق الجديد هناك أسماء لم تنخرط في هذه الموجة لكن تظل السمة العامة لهذا الجيل في هذه المرحلة هي التأثر بجو الملاهي الليلية .
يتداخل في هذه اللوحة السياسي بالفني .. يتحدد فيها موقع جمال عبد الناصر بتصديه لتأسيس تنظيم الضباط الأحرار لكن السؤال ، أين كانت أم كلثوم من هذه اللوحة ؟
لا نستطيع القول أن أم كلثوم في وسط هذه الأمواج أخذت بأغنيتها نهجا ثوريا ... مقاوما بالمعنى المباشر للثورية والمقاومة .. لكنها وكما يقول محمد حسنين هيكل :" كانت واحدة من مجمل الأسماء التي تحولت القاهرة بفضلها من أواخر القرن (19) إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين إلى عاصمة عربية من غير جهد سياسي من عمل الشعراء ، من جبران لغاية شوقي إلى مطران .. أي مرحلة النهضة .. أم كلثوم وعبد الوهاب والكتاب : توفيق الحكيم ، طه حسين ، العقاد وأضيف إليهم من الشام ومن لبنان ميخائيل نعيمة وبشارة الخوري " .
ويقول كمال النجمي :
" انتقلت أم كلثوم من غناء " ايه أسمي الحب " .. و" الأولة في الغرام والحب شبكوني " و" كل الأحبة اتنين " و" أنا في انتظارك " ...انتقلت من هذا الغناء الشعبي العربي على جماله وطلاوته وارتفاع مستواه إلى مرحلة القصائد الشوقية الباذخة ".
لم تكن أم كلثوم ثورية بالمعنى الدارج للكلمة ولا سياسة بنفس المعنى ، لكن معرفة البيئة التي ولدت فيها والمناخ الذي تربت فيه يلقي ضوءا كاشفا على اختيارها لمواقفها ومفسرا لإنتمائها ، فهي ولدت لأسرة فقيرة في قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية وهناك خلاف على تاريخ مولدها ويذكر الشاعر أحمد عنتر مصطفى مدير متحف أم كلثوم أنه خلال جمع المقتنيات الخاصة بالمتحف كانت لدى المرحوم محمد الدسوقي عميد أسرتها أربعة جوازات سفر كل منها تذكر تاريخا غير الآخر في خانة تاريخ الميلاد ويضيف : بالرغم من أنني قمت باستخراج مستخرج شهادة ميلاد من السنبلاوين محافظة الدقهلية يذكر أن تاريخ الميلاد 1904 (الرابع من مايو ) إلا أن الاجماع وكبار أفراد الأسرة يؤكدون مولدها قبل ذلك بست سنوات أي عام 1898وأرجع أحمد عنتر مصطفى هذا الاختلاف إلى أن مصر في ذلك الزمن البعيد لم تكن بها سجلات للمواليد ، وعندما حضرت أم كلثوم إلى القاهرة واقتضاها الأمر أن تستخرج أوراقا رسمية وكلما طلب منها ذلك كاستخراج جواز السفر مثلا ، يقوم أحد الأطباء بتسنينها أي وضع سن افتراضي لها ومن هنا جاء الاختلاف في تاريخ الميلاد ، وفي المتحف جوازات من الجوازات المستخرجة لها ، أحدهما يحمل تاريخ ميلاد عام 1903 ، وآخر يحمل عام 1908 .
كان والدها الشيخ ابراهيم السيد البلتاجي ( المتوفي عام 1932)إمام مسجد القرية ومؤذنها ، ووصفها الموسيقار الشيخ زكريا أحمد عندما التقاه لأول مرة في محافظة الدقهلية عام 1917 بأنه " رجل قوي الإيمان شديد التقوى " أما أمها السيدة فاطمة المليجي التي توفيت عام 1947 فتولت رعاية الأطفال ، أم كلثوم وأختها سيدة والتي كانت تكبرها بعشر سنوات ، وأخيها خالد والذي كان يكبرها بسنة واحدة ، ووصفت أم كلثوم والدتها بأنها كانت سيدة تعيش حياة بسيطة وتغرس في أطفالها الصدق والتواضع والإيمان بالله .
بدأت أم كلثوم طفولتها بالمعاناة والشقاء وظل هذا مفتاحا لفهم فنها ودورها ، كما أنها وضعت دائما كل جوانب معاناتها نصب أعينها والرجوع إلى فصول من مذكراتها المنشورة في صحيفة الجمهورية عام 1970 بقلم ابن شقيقتها محمد الدسوقي والكاتب الصحفي صلاح درويش .. يكشف كثيرا عنها كإنسانة وكفنانة بسيطة لم تغادر قريتها طماي الزهايرة رغم ماوصلت إليه من مجد .
الناس الفلاحين والغلابة .زاللي باشوات زمان وبهاوتها كانوا بيذلوهم ويستعبدوهم ومع كده كان الناس دول برضه صابرين .. زي ماكانوا عارفين إن الليل لازم يطلع له نهار .. وإن الظلم مش حيدوم أبدا .. كنت باشوف الناس الغلابة دول صابرين ، بيشتغلوا ويعرقوا ...و....البيه ... والباشا ..ياخد خير البلد وخير الأرض .. كنت دايما برفع إيديه للسما وأقول يارب لأنه ماكانش فيه غيره يقدر يقف جنب الغلابة الفلاحين في الأيام دي .. في الفترة دي برضه تعبت كتير .. وقاسيت كتير .. ياما غنيت في عز البرد .. " والمطرة" عماله ترخ على المكان اللي باغني فيه .. كانت الناس تجري تستخبى وأنا وأبويا قاعدين على الدكة لغاية مايجي صاحب الفرح أو الليلة يوقفنا ، وندخل أقرب بيت من البرد و "النطرة ".
وتتذكر أم كلثوم ماكان يحدث أيام الحرب العالمية الأولى وما فعلته السلطات المصرية والاحتلال الانكليزي من ممارسات وحشية ضد الشعب المصري وظلت هذه الممارسات عالقة في ذهنها لا تفارقها أبدا .. تقول :
" كان منظر الشبان اللي بتاخدهم " السلطة" بالعافية يقطع القلب ويحسره .. بعض العمد والمشايخ يسلموهم .. كان الانكليز يجروهم مربوطين في حبال من البلد لغاية محطة السكة الحديد ..كان بيركبوهم في عربيات (الحيوانات ) ماكانش في عناية بأكلهم ولا شربهم ولا صحتهم .. معاملة قاسية قوي ماكانش فيه يوم بيمر حتى يكون في كل شارع ( ميتم ) لواحد من اللي خدتهم السلطة!!"
" ماكانش ده هو كل ظلم الانكليز لكن كان لهم حاجات تانية متقلش في فظاعتها عن (السلطة ) ..الغلة بتاعة الناس والمواشي كانوا بياخدوها منهم بأقل من سعرها العادي .. فرضوا على كل مركز من المراكز مقدار من الغلة يتورد للجيش الانكليزي بتمن رخيص خالص وعلشان يوفي كل مأمور بالمطلوب منه كان العمد والمشايخ بيرغموا الأهالي على تقديم أكثر من (الغلة ) اللي عندهم .. كتير من الفلاحين الغلابة كانوا بيضطروا لشراء الباقي بسعر السوق ويقدموه للإنكليز بالتمن الرخيص .
وتصف أم كلثوم بلدتها وأهلها :
كل الناس اللي كنا عايشين معاهم في البلد (طماي الزهايرة )طيبين ...الحب مالي قلوبهم ..مافيش حد على حد الواحد من غيظه للجامع ، عمري ماشفت وأنا صغيرة دخلتها عربية " أوتوموبيل " كل ما بنشوفه من بعيد حنطور بتاع حضرة العمدة بحصان واحد .. ماكانش فيه في البلد غير شارع واحد يمشي فيه الحنطور وشوية حواري وأزقة تتسع يدوب لحمارشيخ الغفر وهم خارجين من الدوار ...."
لم تكن أم كلثوم تعي أي شيئ عن بلاد غير قريتها الضغيرة ، بل كانت تتخيل أنها كل العالم .
" كنت وأنا صغيرة فاكرة أن بلدنا هية كل الدنيا ، وإن مافيش بلد تانية أحسن من مركز السنبلاوين " ...أما " مصر " فدي ماكنتش أقدر أتخيل شكلها إيه ، كنت فاكرة إن البحر هوه الترعة إلي بيعوم فيها البط والوز عند أول البلد ، والساقية اللي بتطلع المية ، والمسقى اللي فيه الغيط .. كل دي هي الحاجات اللي عنيه اتفتحت عليها في " طماي الزهايرة ".
" عارفين إيه الحاجات إلي كانت تعجبني وأنا صغيرة في البلد ، منظر فيضان النيل في الترعة .. ساعتها بيبقى الحشيش طالع أخضر من وسط المية ، أهو ده المنظر اللي بيفرحني صحيح ، لغاية دلوقت باحن إليه .. فأركب عربيتي وأروح لغاية " القناطر الخيرية " خصوصا أيام المية بتاعة الفيضان اللي لونها بني ... موش رايقة ، تصوروا المنظر ده لو قعدت قدامه ساعات ما أزهقش لأنه بيذكرني بطفولتي التي أعتز وأفتخر بها حتى اليوم "
أما أكلتها المفضلة في الطفولة ، وظلت كذلك حتى آخر يوم في حياتها ، فكانت "السريس "وهو نبات يطلع في البرسيم " والجبنة القريش " وهي نفس الأكلة التي تعود الفلاح المصري على تناولها في الظهرة وتتكون من " السريس" والجبنة " والطماطم والمخللات ، وتكون بمثابة الوجبة السريعة له .
تقول أم كلثوم :
" لغاية النهاردة (1970 ) لما أروح البلد لازم يكون جنب الأكل مهما كان نوعه ، أكلة الطفولة المفضلة وهي السريس والجبنة القريش .. الأكلة التي الحمام أو أي نوع من الطيور وأكلها ... صحتي لغاية دلوقتي بتيجي عليها لدرجة أن أي واحد من البلد أعرف إنه جاي مصر أطلب منه يجيب معاه هذه الهدية اللي باعتز بيها حتى النهاردة وأحتفظ بالهدية لنفسي ولا يشاركني فيها أحد ، الأكلة دي بتفكرني النهاردة بأيام ماكنت في بداية الطريق ، بتذكرني بالأيام اللي مسحت فيا بقدمي الصغيرتين القطر المصري قرية قرية ... بل كفر كفر وعزبة عزبة ، مشيت في السكة الزراعية المليانة تراب .. حتى عرفت كل شي عن بلادنا وناسها الطيبين وطباعهم وعاداتهم وعلى فكرة كانت أيام العرق فيها حلو والتعب فيها كويس .. ماكانش يهمني المشي مهما كانت المسافة ماكانش فيه توصيلة في أغلب الموالد والأفراح غير " الركوبة " يعني " الحمار "
" وكان عندنا " ركوبة" واحدة كان " أبويا " الله يرحمه يركب قدام وأنا وراه وأخويا الشيخ خالد في الآخر وعندما يحس أبويا بتعب الركوبة أنزل وأمشي مع أخويا ، لأنني صغيرة أستحمل المشي ومش معقول أركب وأبويا يمشي ... ولم يطل بنا الوقت .. فاشترينا "ركوبة ثانية" ليه أنا والشيخ خالد ، ثم اشترينا "ثالثة" فأصبح لكل واحد فينا "ركوبة" .
" لما كنا نسافر في السكة الزراعية كان أبويا الأول في الأول وأنا في لوسط وأخويا في الآخر ومعانا أصحاب الفرح أو المولد .. كل سفرياتنا دايما في عز الظهر .
تضيف أم كلثوم :
" وقبل ماكنا نشتري " اركايب" كان أصحاب الفرح يبعتوا لنا " الحمير " علشان نروح بيها ، إذا كانت البلد قريبة وياما بعد ماكنا نخلص الفرح أو الليلة يسيبونا نرجع إلى " طماي " على رجلينا ، لكن برضه كان في ناس طيبين يوصلونا لغاية البلد كنت أغني لهم في السكة واحنا ماشيين علشان ما يندموش على توصيلنا ، وعلشان يرجعوا البلد يقولوا كده .. فيعمل الباقي زيهم " .
" ولما كان الفرح يبقى في بلد بعيدة كنا بنركب "القطر" في درجة ثالثة طبعا وأول مايتحرك آخد أبويا وأخويا ونروح على درجة ثانية ولما الكمساري بيجي ويشوف التذاكر أتحايل عليه يسيبنا من زحمة درجة ثالثة ولما يعرف إني البنت اللي بتغني في المولد والأفراح يسيب "القطر" وبيجي هو وزمايله يقعدوا في الديوان معانا وأغني لهم طول السكة ما كنتش أسكت إلا لما القطر يقف في المحطة " والحقيقة ماكانتش الزحمة السبب في "قعادنا" في "البريمو" وإنما علشان الناس اللي مستنيين في محطة البلد اللي أنا رايحاها يشوفونا نازلين من " البريمو" فاحترامهم لنا يزداد ونكبر في عينهم " .
وتتذكر أم كلثوم:
" في سنة 1919 لما أجري بقى 8 و10 جنيه كنت أقطع أنا واالي معايا تذاكر في البريمو وكنا نقابل صعوبة كتير في استعمال القطار .. ماكانش في قطارات كتير زي دي الوقت ، كان يدوب " قطارين" أو "ثلاثة" كل 24 ساعة ، ده خلانا نقعد على المحطة بالساعات في الصيف ماكنش يهمنا ...أما في الشتا كانت الدنيا برد وأمطار فكان أبويا يروح لناظر المحطة يتحايل عليه ويجيب منه مفتاح الاستراحة وساعات كنا ندخل مكتب "المعاون " أو "الناظر " ويولع لينا وأقعد أنا أغني لغاية "القطار" ماييجي وياما من الحكايات دي كتير " .
وتتتتذكر أم كلثوم بعضا من معاناتها الصعبة والقاسية وهي تغني في ليالي الأفراح القاسية في قرى ومراكز محافظات الوجه البحري :
" ياما منا بنروح ليالي وأفراح وأشوف الويل والغلب فيها ، مرة كنت هاموت قتيلة بحق وحقيقي وأنا واقفة بغني في دوار عمدة بلدة جنب مركز "أجا" ( محافظة الدقهلية) بصيت لقيت واحد سكران طينة وواقف بيشاور ليه ويقول ...
" يااختي انتي عايزين حاجة فرايحي عايزين شوية فرفشة ونعنشة .. عايزينك تقولي لنا كام موال وكام ياليل وكمان كام ياعين .. موش كده ياجماعة " مبصتش له وفضلت أغني زي ما أنا ماشية ، وبعد الناس ماقعدوا وقف تاني وقال نفس الكلام ، بصيت لأبويا وأخويا وللناس اللي قاعدين في الليلة ، في الحقيقة كنت باستنجد بيهم علشان يخلصوني من الشخص ده ، ولما هبوا فيه راح مطلع مسدس من جيبه وقال أنا هاموتكم كلكم ياأولاد ....ولو البنت دي مغنتش زي ما أنا عايز ، أغلب الناس جريت وسابوا الليلة وسمع العمدة "الزيطة" والصراخ في الدوار وسأل إيه الحكاية فأشاروا على ابنه اللي كان موجه المسدس ليه ، وأبويا عمال يتحايل عليه ويحلف له حاغني كل اللي هو عايزه ، وجرى العمدة ناحية ابنه فرمى المسدس من ايديه وحاول أن يزوغ ولكن أبوه نزل فيه ضرب وبعد كده برضه كملت الليلة والناس رجعت تاني ومنع العمده ابنه من النزول من البيت في الليلة دي " .
" حكاية تانية حصلت لي عند طنطا قبل ما تبدا الليلة .. سألت صاحبها " فرح ولا ليلة لله فقال لو جيتي للحقيقة لا دي ولا دي ، أنا بصراحة ربنا عاملها أجر رجلين أهل البلد اللي جانبينا ، أصلنا متخانقين معاهعم وعايزين نضربهم ، وكل اللي أنا عايزه منك إنتي والناس اللي معاك لما تشوفي الخناقة اشتغلت ادخلوا الأودة اللي أنا فاتح عليها باب من "الشادر" وخلوا بالكم من نفسكم وأنا خالي من ذنبكم بعد كده .. وغنيت شوية وبعد حوالي نص ساعة بدأت النبابيت والعصيان تعمل عمايلها وجريت أنا واللي معايا نستخبى وفي اليوم ده أهل البلد اللي كنا فيها أكلوا علقة سخنة لأن جيرانهم كانوا عارفين الحكاية ومستعدين لها .
قبل أن تغطي شهرة أم كلثوم مناطق الوجه البحري زادت المعاناة أيضا وكادت في مرحلة طفولتها أن تنسحب من الميدان لولا إيمان والدها الشيخ ابراهيم بموهبتها التي بدأت ملامحها في كتاب القرية وظهر نبوغها ومهارتها في تجويد القرآن بالطريقة الصحيحة ....تتذكر :
"كان سيدنا الشيخ ابراهيم بيحرص دائما وأنا بسمع قدامه بعض "السور : أن أقرأها بالترتيل وفي هدوء غير كل "الولاد" اللي معاي في الكتاب ".
وفي التاسعة من عمرها سمعتها صديقة الطفولة بنت شيخ قرية " طماي الزهايرة" وكانت تكبرها بحوالي ثلاثة أعوام ولم تكذب خبرا فأسرعت إلى بيتها في شرق البلد وأبلغت زالدها الذي تطوع بإذاعة الخبر بين أهل القرية وتطوعت زوجته بنشره بين "الحريم" وبعد يومين فوجئت السيدة "فاطمة المليجي" والدة أم كلثوم بعدد من نساء القرية ومن بينهم زوجة شيخ البلد وابنته يطلبن سماع صوت المحروسة ، وتكررت هذه الزيارة عصر كل يوم مع ازدياد العدد ، وتعتبر هذه الأيام في حياة أم كلثوم هي التجربة الأولى لها في مواجهة جمهور غير أفراد أسرتها .
وجاء الدور على رجال القرية فطلبوا من "العمدة" أن يتوسط لهم عند الشيخ ابراهيم لتحضر ابنته إلى "الدوار" ليسمعوا صوتها الذي لا حديث "للحريم غيره" وغير حلاوته ورغم رفض الوالد في البداية إلا أنه وافق تحت إصرار العمدة وإلحاحه ، ذهبت بنت التاسعة يرافقها أبوها إلى "الدوار" وفي غرفة "الحريم" قرأت القرآن ثم قدمت التواشيح ، بينما تجمع أهل القرية شبابا وشيوخا ونساء في الخارج حتى ملأوا الدوار والشارع المؤدي إليه والكل لا يصدق أن هذا الصوت هو صوت الطفلة "أم كلثوم":
" من اليوم ده أصبح بيتنا بيحبه كا أعيان البلد والناس الصالحين ، كل واحد يطلب أن أروح بيته زي ما رحت بيت "العمدة" وكان أبويا الله يرحمه مايحبش يكسف حد" .
أقنع أهالي طماي الزهايرة وخاصة أعيانها الشيخ ابراهيم البلتاجي أن يشرك ابنته معه في المولد ، وبعد تردد حسم أمره وبدأ في إشراكها في بطانته وكان مقرئا للقرآن ومؤديا للانشاد الديني في الموالد والحفلات وبعد إشراكه لها في بطانته بإحدى الليالي في إيتاي البارود (محافظة البحيرة ) طلب الأهالي من الشيخ ابراهيم أن يسمعوها في إحدى قصائده وأمام إلحاح الأهالي وقفت ومن خلفها والدها وشقيقها الشيخ خالد . ولم يصدق الجمهور الذي ملأ "جرن" البلدة أن كل هذا الجمال في الصوت ينطلق من هذه الطفلة ومن تلك الليلة لم يتمكن أخوها وأبوها من تقديم القصائد الدينية حيث أصبحت هي المطلوبة من المستمعين .
مع تكرار خروج أم كلثوم إلى الموالد ثارا شقيقا الشيخ ابراهيم وهدداه بالمقاطعة ، وفضل أن يضحي بمستقبل ابنته بدلا من خسارة اخوته وحاول اقناع أم كلثوم بالابتعاد عن هذا الطريق فقالت له :" زي ماإنت عايز يابا .. أنا عمري ما أزعلك أنا ماليش حد في الدنيا غيرك وكل واحد بياخد على قد نصيبه " .
هذا التخوف من الشيخ ابراهيم على ابنته وثورة شقيقاه عليه كان انعكاسا صادقا للمناخ الاجتماعي السائد حينئذ والذي " كان يضع المطربين والمطربات في مكانة متدنية ، فمعظم المصريين كانوا يقبلون على شكل أو آخر من أشكال الترويج الموسيقي في الأماكن العامة أو الخاصة وكان العاملون في هذا المجال يعيشون ويعملون في جميع أنحاء مصر تقريبا ومع ذلك فلم يكن الشباب يلقون أي تشجيع على امتهان عمل كهذا .، أو مخاطبة من يمتهنه وفضلا عن صعوبة كسب الرزق بالغناء وصعوبة الظروف التي تواجه المغني المبتدئ ، فقد بدا أن الموقف السائد من الغناء كان أساسه فكرة الناس عن احترام المرء لذاته ، فوقوف الفنان على خشبة المسرح ليتفرج عليه الآخرون وهو يمثل أو هو يغني أغاني عاطفية أو هو يرقص ... وهذا أسوء الأحوال ، كان في رأي الناس إهدارا للوقت في عمل تافه لا يتفق وسلوك الذي يحفظ للمرء كررامته ، ويتحول المشتغل بالفن إلى نجم يمكنه حينئذ أن يتخلص من الأحكام الظالمة التي يصدرها الناس عليه مسبقا"
وتحفظ السجلات التاريخية عشرات الوقائع التي تبين مدى المعارضة الشديدة لكبار المطربين من أهلهم بسبب اقدامهم على الغناء أبرزهم الشيخ سيد درويش الذي أقسم زوج أخته ألا يدخل الشيخ سيد بيته إذا لم يهجر الغناء ويعمل معه في محل نجارة الموبيليا الذي يملكه وقبل الفتى هذا إلى حين أما الموسيقار محمد عبد الوهاب فكان يردد دائما أن أخيه جره من فوق خشبة المسرح إلى الخارج وظل يجره في الشوارع حتى وصل به إلى المنزل أما الشيخ زكريا أحمد فلم ينسى تعنف أبيه قائلا له : " أنت من أسرة محترمة وتريد أن تكون واحدا ممن تدور حياتهم حول ياليل ياعين "
وما حدث لسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وزكريا أحمد كان امتدادا لما حدث قبل ذلك بسنوات للمطرب والملحن عبد الحمولي الذي فرمت وجه أبيه لأنه لم يكن راضيا عن اشتغاله بفن الغناء ويقول قسطندي رزق الذي عرف الحمولي وألف كتابا عنه " كان عبده صالحا يقيم الصلاة في مواقيتها ، وبارا بوالده وقد فر من وخهه لأنه لكونه غير راض عنه لاتشتغاله بفن الغناء الذي كان وقتئذ يعد في مصر مهنة محتقرة ومسقطة لمحترفيها من عيون الناس وحدث نقلا عن المقطم (صحيفة) بتاريخ 11/9/934 هجرية توقيع حضرة رزق الله شحاتة الموسيقار " أن الخديوي إسماعيل قصد زيارة مديرية الغربية فأراد سعادة المدير أن يجعل الاحتفال بقدومه في غاية الفخامة والأبهة ، ورأى أنه لا يكمل السرور في تلك الحفلة إلا بإحضار أعظم المطربين ، فدعا المرحوم عبده الحمولي ، ورأى أن هذه خير فرصة يسترضي فيها والده عنه فقال لسعادة المدير أريد أن أطلب منك شيئا واحدا وهو أن تجعل أبي يرضى عني ، فأرسل سعادة المدير تلغرافا في الحال فحضر الحفلة الليلية وكان عبده جالسا في حضرة الخديوي إسماعيل وحاشيته فدعاه المدير إلى جانبه وسأله ، هل أنت غاضب على ابنك وأنت تراه في حضرة أفندينا ، فكان جوابه " أنا وأولادي عبد لأفندينا وأقبل عليه وعانقه " .
الزمن الذي يفصل بين ماحدث للحمولي ثم لسيد درويش وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب لا يقل عن 40 عاما تقريبا فالحمولي بدأت شهرته في عصر الخديوي إسماعيل ورحل عام 1901 وزكريا وعبد الوهاب بدأت مسيرتهما مطلع العشرينات من القرن العشرين ورغم هذا التباعد ظلت النظرة واحدة فالمطرب أو المطربة في مكانة متدنية حتى يتحول إلى نجم وحينئذ تتغير النظرة ، ولم تكن أم كلثوم استثناء من هذا ، بل كان الأصعب بالنسبة لها أنها امرأة تدخل هذا العالم المرتبط في أجواء الريف وقتئذ في أشياء مرذولة كالخمر والمخدرات ولعب القمار ولولا شجاعة أبوها في التعامل مع مجمل هذه المعطيات ذات الإرث التاريخي ماكان هناك أم كلثوم الفنانة ، وبدأت شجاعة الشيخ ابراهيم بأحزان خيمت عليه حتى رأى أحلاما مزعجة ، أكد تفسيرها ضرورة عودة ابنته لقراءة القرآن وغناء القصائد والتواشيح وبعد تدخل عمدة طماي الزهايرة وأعيانها لدى أشقاء الشيخ ابراهيم ، عادت أم كلثوم للغناء ولكن بشروط هي ألا تتخلى عن " العقال والعمة " ولا يظهر منها أمام الجماهير غير الوجه وأصابع اليدين فقط .
عادت أم كلثوم من جديد إلى الغناء وتتذكر أول مواجهة للجمهور في حفل تعتبره أول بدايتها الفنية : " كانت أول مرة أغني فيها في فرح عند مأذون بلدنا كان ده شرف كبير لينا ، ماأخدتش ولا مليم غير كباية شربات ... وطبق مهلبية ، وفي آخر الليل .. وفي الليلة دي كل البلد سمعتني وقالوا رأيهم لتاني مرة بعد اليوم اللي غنيت فيه " أودة الحريم " في بيت العمدة وأنا فاكرة انني غنيت في الفرح بتاع المأذون أغنية ....
أقول لذات حسن ودعتني
بنار الوجد طول العمر آه
وفي تاني يوم دعوني لفرح "غفير نظامي " في عزبة الحوال القريبة من بلدنا ، غنيت فيه لغاية الصبح في الليلة دي خدت أول أجر في حياتي ... كان عشرة صاغ وكانت المعاملة في الأيام دي بالريال يعني خدت " نص ريال " مكانش المبلغ ده نصيبي لوحدي وإنما كان بيشاركني فيه أبويا وأخويا الشيخ خالد وبعد كده بخمسة أيام دعاني الحاج يوسف تاجر " الغلة" في مركز السنبلاوين لإحياء ليلة برضه فاكرة غنيت فيها :
حسبي الله من جميع الأعادي
وعليه توكلت واعتمادي
في الوقت ده كنت باغني من الساعة تسعة لغاية الساعة اتنين الصبح على طول ، وقد كده كانت فرحتي في الليلة دي لما صاحب الفرح مد إيده وأعطاني المعلوم كان ريال بحاله ماكنتش مصدقة عينيه ، كان مبلغ كبير خالص في الوقت ده وقبل ما نمشي مد الرجل الطيب إيده وأعطاني كمان ربع ريال ، اتهيأ لي أنا وأبويا وأخويا في الليلة دي إننا أصبحنا من الأغنياء .
وبعد كده فكر حسن أفندي حلمي ، التاجر في محطة " أبو الشقوق " في إحياء" ليلة بفلوس" الناس اللي تقعد في الأول تدفع " ربع ريال " يعني الدرجة الأولى النهاردة واللي بعدهم يدفعوا " تلات قروش " والدرجة التالتة بلاش لأن الناس هتبقى واقفة بره الخيمة اللي كان عاملها عند المحطة .
والحمد لله ربنا وفقنا ونجحت الليلة بشكل ما كناش نحلم بيه ، جه ناس في "الليلة من كل البلاد المجاورة وكان فيهم بعض أهالي " المنصورة " ...."بلدياتي" ... قد إيه كانوا فرحانين جاءوا يهنوا واحدة من مديريتهم .
وعلى فكرة ما كنتش عارفة إن "الحفلة " نجحت إلا لما " حسب أفندي" أعطاني " جنيه ونص " بصيت للجنيه ونص موش مصدقة عينيه لأنه كان أول جنيه تمسكه إيدي في حياتي ، كانت الدنيا موش سايعاني في كل دقيقة "أبوس " الجنيه وأنا هاطير من الفرح كنت باتنطط وباقول يا أرض اتهدي ما عليك قدي أنا معايا جنيه !
وفي الأسبوع اللي بعديه دعانا عبد المطلب أفندي الموظف بدائرة المرحوم الشناوي " باشا " علشان نعمل الفرح بتاع أخوه في " كفر دماص " بندر " المنصورة " وكان أجرنا في الليلة جنيه ونصف بما فيها مصاريف الانتقال ...
وحبة حبة بدأت أشعر أنني بقيت حاجة وقد إيه فرحت ومليت الدنيا فرح لما دعوني علشان أغني في مكز " أجا " حسيت إنني أصبحت مغنية "عالمية " ثم لقيت نفسي بانتقل من مديرية الشرقية لما غنيت في فرح " بكفر صقر " .
غطت شهرة أك كلثوم الوجه البحري حتى قدمت أول حفلة لها في القاهرة ، أقامها الشيخ زكريا أحمد والشيخ محمد أنور في حي السيدة زينب لصالح أسرة فقيرة وكان الشيخ زكريا أحمد قد تعرف عليها هو والشيخ أبو العلا محمد في عام 1919 وهي لا تزال صغيرة ، عندما كان الشيخ زكريا يحيي شهر رمضان عند " علي أفندي أبو العينين " وكيل الثري " إيلي الدرع " المشهور في ذلك الوقت بمدينة السنبلاوين وكان الشيخ أبو العلا محمد يفعل نفس الشيئ ولاحظ الشيخ زكريا خلال ليالي الشهر أن هناك آنسة صغيرة تنصت إليه باهتمام شديد وتسمعه بشغف فأثارت انتباهه وسأل عليها .
فقالو له وحسب كلام أم كلثوم :
" دي أم كلثوم ... بنت الشيخ ابراهيم البلتاجي من طماي وبتيجي كل ليلة مع أخوها خالد عشان تسمعكوترجع تاني ، أصلها بتغني برضه زيك في الأفراح والليالي "
قبل الانتقال إلى القاهرة وقع لها حادث في أحد قصور أثرياء هذا الزمان ظلت تردده طوال حياتها لأنه فتح لها عالم آخر ففي عام 1917 ذهبت لإحياء حفلةفي حلوان في قصر عز الدين يكن بك بمناسبة ليلة المعراج ولما رآها جن جنونه ورفض أن تغني وأمر أن تظل ومن معها في بدروم القصر حتى لا يراها أحد واستدعي الشيخ اسماعيل سكر لإحياء حفلته وقضت أم كلثوم ليلة رهيبة في بدروم القصر تبكي ولما أبلغ الخدم زوجة عز الدين ببكائها نزلت إلى البدروم فارتمت أم كلثوم في أحضانها وتتذكر ما قالته لها :
" حرام كده نتحبس هنا طيب سيبونا نروح مادام مافيش ليلة ، أعمل إيه حظي كده ، وأنا ياست قد إيه كنت واضعة أمل في الليلة بتاعتكم دي ، كنت باقول في السكة لأبويا وأنا جاية إن السعد مواعدنا عندكم الليلة بعد " المعازيم " الكبار مايسمعوني لكن ربنا يمكن له حكمة في اللي حصل "
ربتت زوجة "البيه " على كتف أم كلثوم " وأحاطتها بذراعيها هامسة بصوت لا يسمعه إلا من في البدروم :
" إنتي صعبانة عليه خالص والنبي ، أصل عز بيه يابنتي كان فاكرك مبهرجة زي الستات اللي بيغنوا في مصر " ..
فنظرت إليها أم كلثوم وهي بين أحضانها وقالت بصوت خافت :
أنا ياست هانم غير دول ، أنا عايشة في الفلاحين ما أقدرش أتبهرج .. وألبس غير الحشمة ، إحنا ناس بتوع ربنا بندور على لقمة العيش بعرقنا اللي جاي يادوب على قد اللي رايح ، إنتي عارفة ياست هانم أنا أهلي ماكانوش عايزيني أغني وكات لهم شروط ، وكان أبويا منفذها قبل ما يقولوها ، شروطهم إني أكون كده بسيطة .. عادية .. غير مبهرجة وصحيح إزاي ألبس " افرنجي " وأنا بامدح النبي وأقول التواشيح " .
رق قلب الزوجة لأم كلثوم وطلبت منها الغناء .. فغنت :
" سبحان من أرسله رحمة لكل من يسمع ويبصر " وخرجت زوجة "البيه" والدموع تبلل خديها ونجحت محاولتها في اقناع زوجها لسماع هذا الصوت النادر .. ولما استمع إليها اتجه إليها وقال لها:
" حقك علي يا ابنتي سامحيني علشان خاطر النبي ، أنا هاعوض لك كل اللي حصل ، هاديكي زي ما إنت عايزة ، إنت تستاهلي مال قارون " .
وغنت واهتز لها الحاضرون بما فيهم الشيخ إسماعيل سكر الذي اشترك مع بطانة أم كلثوم في ترديد الأغاني والتواشيح ... عندما رأى عز الدين بك يخلع طربوشه إعجابا بصوتها فخلع الطربوش كان دليل الاعجاب في مثل هذه الليالي . كان أجر أم كلثوم لهذه الليلة ثلاثة جنيهات خلاف مصاريف الانتقال وطبقا للعقد الموقع فإنه في حالة تأخرها سوف يدفع والدها عشرة جنيهات غرامة .
والمؤكد أن الاعجاب الذي حظيت به أم كلثوم ممن استمعوا لها في قصر عز الدين يكن منحها المزيد من الثقة خاصة وأن ليلتها هذه جاءت بعد رفض لها وتوسلات منها بالغناء وعلى كل حال كانت مثل هذه التجارب بمثابة تعبيد للأرض التي تسير عليها أم كلثوم نحو محطتها الحلم ، وهي محطة الانتقال إلى القاهرة ، وكما أشرنا من قبل لدور الشيخ زكريا أحمد والشيخ أبو العلا محمد في هذا الأمر ، خاصة الشيخ أبو العلا أستاذها الأول ، ولتترك أم كلثوم تحكي عن قصتها مع هذا الرجل وما فعله من أجال انتقالها إلى القاهرة .
تقول أم كلثوم :
" كنت متشوقة أشوفه وأسلم عليه بإيديه ، كنت باحب صوته من يوم ماسمعته في "المكنة " بتاعة شيخ البلد .. أبو صاحبتي " عيشة " كنت كل يوم ماعنديش فيه شغل أروح عندها علشان تدور الأسطوانة بتاعته واقعد سرحانة وأنا باسمعه..كان في رأيي أحلى صوت في الدنيا ، كان حلو مافيش بعد كده حلاوة .. كنت بافكر دايما إنه موش زي كل الناس اللي سمعتهم قبل كده ... علشان كده قلت لأبويا لازم نروح " السنبلاوين " ونسمعه وما كانش أبويا الله يرحمه بيردلي طلب ورحنا المركز وقعدنا مع الناس اللي بتسمع الشيخ أبو العلا ماكنتش مصدقة عنيه .. ولما خلص جريت ورحت عند الدكة بتاعته ولحقني أبويا وأخويا خالد ... زاحمت كتير لغاية ما بقيت قريبة منه وسلم أبويا وأخويا عليه ومديت إيدي زي كل الناس .. فسلم عليه بسرعة ... الناس كتيرة عايزة تسلم عليه ، رجعت تاني وقالت أسلم .... عايزة إيدي تستنى في إيديه أكبر وقت عايزة أكلمه موش قادرة أنطق كانت مفاجئة كبيرة ....
وقلت لأبويا أعزمه والنبي عندنا أنا عايزة أقول له حاجات كتيرة ، عايزة أسمعه لوحدي .. عايزة يسمع صوتي ويقول رأيه ، عايزة أسمع رأيه في قعادنا في مصر على طول ... دا راجل طيب هيقول الحق ، رأيه يابا مهم قوي في الحكاية دي .... وأهو إنت شايف الجوابات اللي بتيجي والناس اللي بتنصحنا نسافر ونقعد في مصر ، رأي الشيخ أبو العلا مهم قوي والنبي يابا في الحكاية دي ..
لبى الشيخ ابراهيم البلتاجي رغبة ابنته ، ودعا الشيخ أبو العلا محمد في منزلهم وطلب الضيف أن يستمع إلى أم كلثوم ... لكنها رفضت في البداية ثم لبت طلبه وتبرر رفضها قائلة :
رفضت لأنني كنت أريد أن أسمع صوته وحده ، أريد أن أملأ أذني بكل كلمة وكل نغمة ينطق بها ، أريد أن أحفظها عن ظهر قلب ، وأحافظ عليها لأرددها في كل دقيقة تمر بعد ذلك ، فالشيخ أبو العلا فنان كبير له قيمته في عالم الغناء والطرب .
ولم أقو على الاستمرار في الرفض عندما أصر الشيخ أبو العلا على سماعي ، قلت لنفسي وقتها لقد جاءت الفرصة ليقول مثل هذا الفنان الكبير رأيه وقبل أن أغني أمامه قرأت "الغاتحة والصمدية "
غنيت أمامه بعض القصائد الدينية ... كنت باغني وعيني على حركات وجهه حتى إذا شعرت أنه غير راض عن أدائي توقفت بسرعة ... ولكنني اجتزت الامتحان الصعب ، فقد اقتنع بي الشيخ أبو العلا وتأكد لي ذلك من حركات رأسه مع صوتي ولما انتهيت من الغناء التفت إلي قائلا :
" هايلة ... هايلة خالص ... الله يفتح عليكي "
ولم أصدق أذني فسألته :
ماذا يقول الشيخ أبو العلا .. إنني أريد أن أسمع ماقلته مرة أخرى أريد أن أسمعه مائة مرة ...
ورد الشيخ أبو العلا .. موجها كلامه لوالدي : الله حاجة كويسة خالص ، لو جت أم كلثوم مصر حتلاقي نجاح كبير خسارة إنها تحصر شغلها في الريف بس ....تعالو مصر ...واقعدوا هناك وأؤكد أن ربنا حيوفقكم وحتكونوا حاجة تانية غير كده .
لم تصدق أم كلثوم ماسمعته :
" بصراحة لم أصدق أن الذي يقول ذلك هو الشيخ أبو العلا أحسن وأشهر مغني في ذلك الوقت ...
ونظر الشيخ أبو العلا لوالدها :
" ياشيخ ابراهيم أنا موش باقول الكلام ده مجاملة علشان ما أنا في بيتك ، لكن دي شهادة أنا مسؤول عنها أمام ربنا .. حرام ياشيخ ابراهيم تضيع مستقبل بنت زي دي ، ربنا اداها الموهبة .. دي في رأيي أحسن من كتير عندنا في مصر .
فرد عليه الشيخ ابراهيم : ياشيخ أبو العلا أنت عارف مصر وعيشة مصر ، إحنا على قدنا مالنا ومال الزيطة اللي هناك .
والتفت الشيخ أبو العلا إلى والد أم كلثوم قائلا :
" في مصر ناس بتحب اللون بتقدمه بنتك ، اللون الوقور وعلى فكرة اللون ده له معجبيت كتير .. أنا برضه باغنيه ، وبيغنيه الشيخ إسماعيل سكر ، بس الفرق بين اللي بتقدمه بنتك إننا بنلحن الكلام بطريقة نقدر نقف بيها أمام الأغاني التانية"
رد الشيخ ابراهيم :
" ربنا يعمل اللي فيه الخير ياشيخ أبو العلا .. دا كل شيئ قسمة ونصيب أوعدك أنني حافكر في حكاية مرواحنا مصر .. وأبعت لك جواب على طول برأيي"
وأخد الشيخ ابراهيم عنوان الشيخ أبو العلا ليرلسله وبعد أن انتهى الحديث التفتت أم كلثوم إلى والدها ولكنها وجهت كلامها للشيخ أبو العلا قائلة : " أريد سماع صوت الشيخ أبو العلا أريد أن أتأكد أنه موجود فعلا في بيتنا .. أريد أن أسمع كل ما عنده و"سكتت" ليخيم الصمت على الجميع لينطلق صوت الشيخ وتصف أم كلثوم جماله : " وكأنه صوت كروان .. كنت مشدوهة بعذوبته ونقاوته "
تضيف : غنى في هذا الوقت الكثير ..
ومنها " أفديه إن حفظ الهوا أو ضيعا " طلبت إعادتها لأحفظ منه اللحن وطريقة الأداء .. لقد كان الشيخ أبو العلا على الطبيعة أحسن صوتا وأكثر عذوبة من الأسطوانات التي سمعتها له من قبل .
لبى الشيخ البلتاجي نداء الانتقال إلى القاهرة الذي أطلقه الشيخ زكريا أحمد وصمم عليه الشيخ أبو العلا مجمد وبعد فترة من انتقال العائلة المكونة من الشيخ ابراهيم وأم كلثوم وأخيها خالد ووالدتها واستقرارهم في عابدين قدمت أول حفلة لها في سرادق في شارع خيرت بالقرب من جريدة ( اللواء ) التي كانت تصدر في ذلك الوقت وفي هذا الحفل الذي نظمه متعهد حفلات اسمه محمد أبو زيد شارك الفنان حسن فائق بمنولوجات والمعروف أنه كان يلاقي اضطهادا سياسيا بسبب منولوجاته الوطنية خاصة بعد نفي سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل وقدم منولوجا عن ذلك اسمه : مصر تناجي سيشيل .
وتوالت حفلاتها بنجاح كبير رغم المضايقات الكثيرة وتقول عن هذه المرحلة :
" كنا راضين بأي شيئ لأن الذي يرزق الجميع هو الله .. لقد كان همي أن أقف على قدمي في القاهرة وأثبت وجودي ( الفلوس) كانت آخر حاجة نفكر فيها من أجل ذلك لم ندقق مع المتعهدين الذين ضحكوا علينا في بداية عملنا وكان والدي يصدقه ويتنازل له عن جزء من الأجر المتفق عليه ، فبعد أن يكون الاتفاق على سبعة جنيهات يصل إلى أربعة .. كان ذلك يحدث بالرغم من أننا كنا نكتشف كذب مايقول .. فأحيانا كانت الصالة تضيق بالجمهور فيأتي المتعهد بمقاعد إضافية وأحيانا يطلب المتعهد الحضور مبكرا قبل ميعاد الحفل بأكثر من ساعتين ثم يطلب منا أن نطل على الصالة فنراها شبه خالية وتبدأ المساومة مع والدي .. ولكنني كنت أفاجأ وأنا على المسرح أن الصالة مليئة بالجمهور ومع مرور الأيام تنبهنا إلى هذه الحيل فلم يعد لها مكان "
وهناك من التفاصيل الكثيرة تتعلق بالاستقرار النهائي في القاهرة وبدء نشاطها الفني فيها وتم ذلك في عهد السلطان فؤاد الذي تولى الحكم خلفا للسلطان حسين كامل ( 1914 ـ1917 ) وتحول فؤاد من سلطان إلى ملك يوم 14 مارس عام 1922 وعلى الرغم من هيمنة الاحتلال الانكليزي وتحكمه في كل شيئ رأي فؤاد أن اليوم الذي تحول فيه من سلطان إلى ملك جعل من مصر دولة " متمتعة بالسيادة والاستقلال " .
كان المشهد الغنائي وقتئذ بلا هوية ويلخصه الكاتب الصحفي صلاح عيسى بأنه المشهد الذي انتهى فيه العصر الكلاسيكي للغناء الذي لمع فيه عبده الحامولي و" ألمظ " " ومحمد عثمان " و " سلامة حجازي " يقول صلاح عيسى " بعد ياملك قلبي بالمعروف " " وسلامي عليك يا زمان " انتقل " الفرانكو آراب " من المسرح إلى الغناء . وتقدمت " منيرة المهدية " لتتصدر المشهد الغنائي بصوتها القوي الذي تخلله بحة غجرية بدائية في قرارها نداء حسي لا تخطئه عين وانتشرت الأغاني الهابطة التي تؤجج الشبق للجنس ، باعتباره موضوعا في ذاته لا صلة له بأي عاطفة انسانية باعتباره ـ كالمر ـ مفتاح الفرح ، لقوم يعيشون آخر أيام أعمارهم ويريدون أن يعيشون في غيبوبة خمر وغيبوبة حس لتكون البرزخ بين فورة الحياة وعدم الموت .
يضيف عيسى : على حناجر المطربات والمطربين من " منيرة المهدية " إلى " نعيمة المصرية " ومن " الست وحيدة " إلى " الست رتيبة " ومن " صالح عبد الحي " إلى " عبد اللطيف البنا "
انتقلت كلمات المداعبة الجنسية من غرف النوم إلى غرف حفلات الغناء في الصالات والمسارح وتحولت إلى اسطوانات طبعتها شركة بيضافون وبيع منها ألوف من النسخ لتسمعها السيدات المخدرات في البيوت ، أما" الست منيرة " و " الست نعيمة " و" الست توحيدة " وبقية الجوقة فسوف يغنون أغاني من نوع " أرخي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانك تجرحنا / يافرحانين يا مبسوطين / يامفرفشين يا مزأططين بالقوي ياحنا " وبعد أن يصف عيسى هؤلاء بـ " جوقة مطربات الحرب العالمية الأولى " يستكمل قراءة المشهد بذكره واحدة مما قدمته الست نعيمة المصرية " ما تخافش عليا أنا واحدة سيجوريا ( أي مضمونة باللغة الإيطالية ) في العشق يا أنت واخده البكالوريا " أما منيرة المهدية " : من إيدي وداني ع الموسكي / وسقاتي كونياك على ويسكي ، وقال يامنيرة آنستي / مادام شربنا .... نبات الليلة / وخدني ودخلني الأودة / لعبنا سوا وبقت موضة ... حط ايده على شعري يامه ياشعري / قمت أنا اتخضيت / وحط ايده على حاجبي / يامه يا حاجبي / قمت أنا أتلذيت / ... وفي طقطوقة أكثر إباحية قدمت الست رتيبة : " خدني في جيبك بقا / بين النهود والمنطقة " ، أما عبد اللطيف البنا فلخص المرحلة في مونولوج بيقول مطلعه : " الستات دول لذتنا والبنات هما همزتنا " .
ساد هذا اللون ( الطقاطيق ) من الغناء في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى في مناخ اجتماعي وسياسي تصفه الباحثة الأمركية فرجينيا دانيسلون : " أقبل المصريون من أفراد الطبقتين العليا والمتوسطة ، متابعة الجديد في مجال الغناء بشراء الاسطوانات المسجلة وتذاكر الحفلات الفنية وصدر مايزيد على اثنتي عشرة من المجلات المختصة بالموسيقى والمسرح أو المجلات التي أفردت بين صفحاتها أبوابا مهمة لأخبار الفن والنقد الفني واتسعت رقعة الاقبال على النشاط الفني لتشمل مؤسسات تجارية مثل المسارح وشركات تسجيل الاسطوانات بالإضافة إلى الأفراد والعائلات " .
ويقول الشاعر الغنائي سيد حجاب :
" صحيح أن كثيرا من امغنين والمغنيات أسهموا بأصواتهم وأغنياتهم في صورة 1919 لكن الغناء المصري كان منقسما على نفسه تتنازعه عدة اتجاهات وطرائق .. كان هناك الإنشاد الديني " الاسلامي والقبطي " الذي تعود جذوره إلى مصر الفرعونية ، وكان هناك غناء النخبة من الأتراك والمستتركين ، كما كان هناك غناء الغجر والعوالم الذي يملأ المقاهي وعلب الليل ، وكان هناك الغناء الشعبي الفلكلوري الذي لا شك أن أم كلثوم قد سمعته أو شاركت فيه في طفولتها القريبة ، وكان بكل صنف من هذا الغناء قواعده وأصوله وجمالياته ولم يكن هناك نمط واحد من الغناء تجمع عليه الأمة بكل طبقاتها ومستوياتها الثقافية المختلفة ، صحيح أن الأمة بكاملها أجمعت على عشق ألحان سيد درويش لكن الهم الأساسي لسيد درويش كان حلما موسيقيا ، ولم يلتفت كثيرا لحل هذه الأزمة الغنائية ، فنحن الآن حين نسمع ماتبقى من تسجيلات صوتية لألحان سيد درويش سيدهشنا هذا التباين الواضح بين مصرية الألحان والموسيقى وبين أسلوب غنائها الذي يتراوح مابين غناء الغجر والعوالم في أصوات حياة صبري ومنيرة المهدية ، ومابين الغناء على طريقة الأتراك والمستتركين في أدوار سيد درويش العشرة " .
كان في قلب المشهد الغنائي من الأصوات النسائية أسماء مثل ...توحيدة ...منيرة المهدية ....فتحية أحمد .... فاطمة قدري ...فاطمة سري ...وحياة صبري ، والمنشدة الدينية سكينة حسن وبين هؤلاء وأم كلثوم بدأت الحرب ولم تكن الأدوات متكافئة بين الطرفين فأم كلثوم لم تكن تملك سوى جمال صوتها ... أما الأخريات فلهن الرصيد التاريخي والخبرة في المكائد والمجبين ، ولم تكن الحرب بين الطرفين لتكريس زعامة بدلا من أخرى ، وخنق صوتا غنائيا على حساب آخر ، أو دفن موهبة تنبت من أرض قاحلة ... وإنما هي الحرب التي تتكرر في التاريخ دائما وهي حرب الانتقال من مرحلة بمعالمها الحضارية والتاريخية إلى مرحلة أخرى جديدة . وما حدث مع أم كلثوم كان تعبيرا عن ذلك فهي وضعت أقدامها في التوقيت الفارق في التاريخ ، توقيت لمرحلة قد شهدت ثورة 1919 بكل فورانها الشعبي ، ورغم أن الثورة لم تحقق الاستقلال لكنها أسست لقيم وطنية ونهضوية جديدة يعبر عنها الناقد كمال النجمي : أيقظت ثورة 1919 شخصية الشعب المصري ، وأن أصداء تأثيرها كتأثير الثورة العرابية وحادثة دنشواي ، ظلت تتردد في ربوع مصر على مدى سنوات ، وفي مجال الثقافة التعبيرية أدت ثورة 1919 وكذلك الاتجاهات الاجتماعية التي ساعدت الثورة على تقويتها إلى تدعيم اعتزاز المصريين المتنامي بتراثهم الوطني " ويضيف النجمي : "يتميز المصريون بطريقتهم في الغناء . وهجر المطربون هذه الطريقة لمئات من السنين وعاش الشعب يغني لنفسه بينما كان المطربون المحترفون يغنون للسلاطين والأمراء والمماليك ثم للبشوات الاتراك ...
فهمت أم كلثوم مقتضيات المرحلة الجديدة وبدأت في التعاطي معها ، وكان عام 1926 هو نقطة التحول في مسيرتها الغنائية حيث أدخلت تطويرا جديدا على فرقتها الغنائية تمثل في إدخال آلات حديثة في التخت الذي يصاحبها تقول :
" في أواخر عام 1926 وكنت وقتها بالاسكندرية التقيت هناك بعازف العود المعروف مصطفى رضا وتحدثنا عن الفن واللون الذي أقدمه ثم تناول الحديث بيننا فكرة إدخال الآلات الحديثة في التخت الذي يصاحبني في الحفلات وأبدى مصطفى استعداده للإشتراك مع الفرقة الموسيقية التي تصاحبني .
وتحمس والدي للفكرة واشترط في سياق الحديث أن يكون التطور إلى الأقوى والأحسن بحيث لا يكون تقليدا لأي " تخت " آخر موجود في القاهرة ...
وبصراحة كنت أفكر في تطوير "التخت" قبل لقاء مصطفى رضا كنت أفكر في ذلك قبل أن أجد نفسي في يوم من الأيام مرغمة على ذلك .
وقبل أن ينصرف " مصطفى رضا " كان قد اتفق مع والدي على أسماء أعضاء " التخت " وهم إلى جانب مصطفى ، محمد العقاد وسامي الشوا ومحمود رحمي ومحمد القصبجي وآخرون ولم يبخل والدي بشيئ في سبيل التعاقد مع كل هؤلاء لما كانوا يتمتعون به من مكانة فنية في ذلك الوقت قد استفدت كثيرا من تكوين "التخت" على هذا النمط فقد كان الشيخ محمود رحمي يدربني على عزف العود وحفظ أكبر كمية من التواشيح لتكون بمثابة أرشيف يساعدني في المستقبل وأجدت بالفعل العزف على العود وفكرت يومها في تلحين الأغاني وجربت حظي في تلحين قصيدة لأحمد رامي بعنوان " يانسيم البحر ريان الندى "ولأشبع رغبتي في التلحين أقدمت على التجربة مرة أخرى في أغنية لرامي أيضا بعنوان :" على عيني الهجر " بعدها آمنت بالتخصص وفضلت الاقتصار على الغناء فقط وقد استفدت كثيرا من تذوقي للشعر ومعرفة بحوره وأوزانه التي تعلمتها عن الشاعر أحمد رامي وقراءاتي المتعددة لكتب ودواوين الشعرا ء .
هذا التجديد الذي بحثت عنه أم كلثوم كاستجابة للتحدي الحضاري الذي فرض نفسه ، زاد من حملات الغضب ضدها ممن رأوا أن استمرارها يحتوي على خطر محقق عليهم ، وتأسيسا على ذلك نظم هؤلاء حملات صحفية مغرضة ضدها على أمل منهم أن تترك المطربة الجديدة القاهرة وتعود إلى قريتها طماي الزهايرة وتترك لهم الميدان كما كان من قبل .
تقول أم كلثوم عن هذا الجانب :
كان هدف هذه الحملات أن تبعث اليأس في نفسي وتقتا آمالي في المستقبل لأعود إلى "طماي "
وأترك لهم القاهرة ميدانا رحبا يرتعون فيه ، لقد تناولت هذه الحملات في البداية الأغاني التي أقدمها وأدعوا أنها لا تناسب جمهور القاهرة وإنها تناسب رواد الليالي والموالد في الأرياف وبصراحة لم يؤثر هذا الأسلوب في إيماني بالله وبالمستقبل لأنني كنت أعرف طريقي الذي اخترته مع والدي وأخي واقتنعنا به وكانت باكورة أغنية من كلمات المرحوم علي الجارم ولحن أحمد صبري النجريدي
" مالي فتنت بلحظك الفتاك وسلوك كل مليحة إلاك "
يومها أحسست بتجاوب الجمهور وانفعاله باللون الجديد وتوقعت أكثر من حملات الصحف والمجلات لذلك لم تكن تلك الحملات بالشيئ غير المتوقع .
في هذا السياق يمكن فهم شراسة المعارك التي حيكت ضد أم كلثوم من المغنيات المحسوبات على المرحلة التي كانت الستائر توشك على الاسدال عليها لبدء مرحلة جديدة تؤسس هوية للغناء وترصد الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي تصدت لكتابة سيرة أم كلثوم هذه المعارك قائلة :
كان الصراع الفني من 1920 ـ 1930 صاخبا ، ولم تكن أم كلثوم طرفا بارزا في هذا الصراع ـ على الأقل في أوله ـ فقد كانت صغيرة لا تلحظها العين ، فقد حدث في عام 1918 أن أخذ جلساء فاطمة قدري التي كانت يومئذ مطربة ذائعة الصيت يتحدثون عن فتاة مسكينة اسمها أم كلثوم فتاة يقولون عنها أنها تغني وأن لها صوتا لا بأس به ولكنها لا تغني كما يغني الناس بل هي (توتد) للنبي عليه الصلاة والسلام وتنشد الأناشيد في موالد الريف وتلبس العقال .
وأخذ الحاضرون من الفلاحة الصغيرة مادة للتنذر والضحك والتسلية ، مرة يطلقون النكات على اسمها ومرة يتسائلون عن سر العقال ومرة يتسائلون عن الجبة التي تلبسها ، وتزعم أنها بالطو وهل هي بنت أم ولد ، وترتفع القهقهات مهما كانت النكتة سخيفة وبينما هم يضجعون بالضحك ، طلعت عليهم مطربتهم فاطمة قدري فهبوا وقوفا وأدوا التحية وبعد أن اطمأن بهم المجلس ، استأنفوا الحديث فتسائلت الست فاطمة من طرف أنفها من هي أم كلثوم هذه ، فقصوا عليها قصتها من جديد فارتسم على وجهها تعبير من تذكر شيئا سمعت به قبلا
ـ آه سمعت بالبنت أم كلثوم ولا مانع من أن أراها ، وسرعان ما تطوع ( المطيباتية) بإحضارها لكي تحظى بمقابلة المطربة المشهورة فاطمة قدري ، وحين جاءت( البنت أم كلثوم ) دخلت تتعثر في خطواتها ، فيها انكسار المساكين من أهل الريف وفيها حياؤها على الرغم من أنها كانت قد قطعت شوطا في القرى والمحافظات ، ولكن القاهرة وأهلها في أعين الريفيين شيئ آخر ـ قالت فاطمة قدري .
( قربت) أم كلثوم ، تقدمت من ست الحسن والجمال حائرة مرتبكة ليس لديها ما تقوله للست فاطمة قدري التي تعرف مصر كلها قدرها .
ثم انصرفت أم كلثوم بعد أن أعطت المجالس مادة أغزر للسخرية والتفكه والضحك أما هي فلعلها كانت تحلم باليوم الذي تصبح فيه مثل فاطمة قدري .
وتضيف نعمات أحمد فؤاد : كانت نعيمة المصرية من رأيها أن " منيرة المهدية " لا يعلى عليها وأن فتحية أحمد لا بأس بها على ألا تغني من أنفها أما أم كلثوم فكانت تقول أنها لا يتوقع لها مستقبلا وتقول نعمات :
" كانت الفترة بين 1926 ـ 1030 تتميز بعملية تصفية للمطربات الكثيرات اللاتي ظهرن في العقد الثالث من القرن العشرين .. تصفية كانت نتيجتها أن احصرت المقارنة واعجاب المعجبين بين ثلاث :
منيرة المهدية ـ فتحية أحمد ـ أم كلثوم .
أحست منيرة المهدية سلطانة الطرب أن عرش الغناء بدأ يهتز من تحتها ، وصلت درجة قلقها وغيرتها إلى أنها ارتدت ملاءة لف سوداء . ووضعت على وجهها برقعا وارتدت شبشبا في قدمها حتى تبدو كبنات البلد وصحبت معها الممثل محمد بهجت ، وذهبت إلى مسرح رمسيس حيث كانت تغني أم كلثوم ، واشترت تذكرتين في أعلى التياترو ( وهي أرخص مقاعد المسرح ) ولما شهدت قدرة أم كلثوم الغنائية وسيطرتها العجيبة على الجمهور لم تستطع تحمل أكثر من وصلة واحدة وانصرفت إلى عوامتها تفكر ماذا تفعل حتى اهتدت إلى حيلة شيطانية وذلك بايقاع ناقد صعيدي شاب اسمه محمد عبد المجيد حلمي صاحب مجلة المسرح وكانت مجلة فنية شهيرة في غرامها ، وبدأ في الحملات الصحفية ضد أم كلثوم وكانت الذروة في قوله " أن أم كلثوم قدمت وهي بنت صغيرة شكوى لمحكمة السنبلاوين مؤداها أن شابا من القرية اغتصبها ، ووعد بنشر نص الحكم ولم ينشره طبعا لأنه كان كذبة كبيرة . لكن هذه القضية بالتحديد دعت والدها إلى التفكير جديا في العودة إلى قريته وترك القاهرة الملعونة نهائيا ورغم توسلاتها له إلا أنه رفض نهائيا حتى بعثت العناية الإلهية بمن يعيد الأمور إلى نصابها تقول أم كلثوم :
" فجأة دق الباب وأسرع إليه الشيخ خالد يفتحه وكان القادم أمين المهدي صديق العائلة ترافقه أسرته ، جاء بعد أن سمع بإصرار أبي على مغادرة القاهرة ونظرت إلى أمين المهدي وكأنه مبعوث العناية الإلهية الذي جاء ليخلصني ويقنع والدي بالبقاء في مصر التفت أمين المهدي إلى أبي وقال موجها إليه الحديث " وأنت ياشيخ ابراهيم بيهمك الكلام الفارغ المكتوب في مجلة المسرح وعارف لما تسافر انت وبنتك يبقى معناه إيه ؟ معناه إن الكلام صحيح ... كانت هذه الكلمات كافية لكي يعدل والدي عن رأيه ، ولكن الحملات الصحفية لم تتوقف بل عقدوا مقارنة بيني وبين فتحية أحمد ثم بيني وبين منيرة المهدية وكانت النتيجة أنني الثالثة ولم أهتم للنتيجة ، وإنما صممت ألا أكون في الموقع الذي وضعوني فيه ، كنت أسعى جاهدة لأن يفرضني فني على صفحاتهم ولم أستعجل الأيام "
أين كان أستاذها ومكتشفها الشيخ أبو العلا محمد من كل هذا ؟
تجيب أم كلثوم :
في هذه الأيام كان الشيخ أبو العلا يلازمنا ... يحضر إلينا في لوكاندة " جوردن هاوس" كل ليلة يغني لي وأغني له حتى حفظت منه كل أغانيه وألحانه .... كان يرافقني في كل حفلة أذهب إليها ، كان الشيخ أبو العلا في منزلة والدي ... لا تزال نصائحه حتى اليوم أعمل بها (قبل رحيلها ) .
وغاب الشيخ أبو العلا يومين على غير العادة وفي اليوم الثالث ذهبت إلى منزله أسأل عليه فوجدته مريضا ، فعدت والدموع تبلل خدي وأخبرت والدي فرافقني أنا وأخي خالد لنقضي معه هذه الليلة مكثنا معه حتى نام ، كنا نذهب إليه كل يوم إلى أن استرد صحته .
وفي الأيام التي ثقل فيه لسانه كان يحرص أيضا على الحضور إلينا وكان يغني لي وعندما تغيب الكلمات منه أو يتعثر نطقها يقول لي : إنت عارفة أنا عايز أقول إيه ... فقد كنت أحفظ أغلب أغانيه
إنني لا أنسى يوم أن قال لي : لن نفترق أبدا يا " أم كلثوم " لأنني أعتبرك ابنتي .. أنا مسؤل عنك وعن نجاحك زي الشيخ ابراهيم بالضبط .
وفي ليلة مظلمة ، لم يطلع لها قمر جاءني نبأ وفاة الشيخ أبو العلا .. كانت ليلة الأربعاء 5 يناير 1927 كنت في ذلك الوقت قد انتقلت إلى الزمالك ( حي ) خرجت من الشقة هائمة على وجهي لا أدري ماذا أفعل وكان يرافقني أخي خالد وسامي شوا كنت أريد أن أبكي ولكن الدموع لا تطاوعني لقد تحجرت في عيني ، سرت على قدمي من الزمالك إلى شارع فؤاد ، ضاعت الطرق أمامي وفقدت كل تفكير .
كنت أسير من شارع إلى شارع كل شيئ أمامي كان مظلما فقد مات الرجل الذي وقف بجانبي وقدم لي أكبر عون وأكبر مساعدة .
حسمت أم كلثوم معاركها مع الأخريات بالانتصار عليهن بالضربة القاضية ، فهل يمكن القول أن المعطيات السابقة وحدها كانت السبب في هذا الانتصار الساحق ؟ ولماذا تعلق بها البسطاء والفلاحون مبكرا ، ورأو فيها مالم يروه في غيرها ؟
ولماذا سجلت انتشارها بهذه السرعة في بداياتها هل لذلك علاقة بمجريات الجوانب السياسية والاجتماعية في الفترة التي بدأت منها في طماي الزهايرة ثم انتقالها إلى القاهرة وهل كان لأن أم كلثوم فهمت مقتضيات المرحلة الجديدة في تاريخ مصر ؟
الكاتب والروائي الراحل فتحي غانم له رؤية خاصة تقدم اجابة عن مجمل هذه الأسئلة .
يقول : لم تكن أم كلثوم في ذلك الوقت في الفترة بين عام 1915 وعام 1918 وهي فترة ظهورها كمغنية في الريف وقبل انتقالها إلى القاهرة تغني كالمطربات الشهيرات في ذلك الوقت ولا تقلدهن ، بل وربما لم تكن سمعت باسم منيرة المهدية أو باسم الشيخ سلامة حجازي .
ولم يكن غناء المحترفين في مصر للناس العاديين بل كان قاصرا على طبقة الأمراء والأعيان الذين يقيمون الحفلات في بيوتهم أو يترددن على صالات الرقص والبارات .
وفي ذلك الوقت كان الفلاح المصري يعاني عذابا لم يشهد له مثيلا في حياته ، كان الانكليز يصادرون ماشيته ودوابه التي هي كل ثروته وحياته ثو بدأ الانكليز يسوقون آلاف الفلاحين مسخرين للحرب التي كانت بينهم وبينالأتراك في الشام وأرسلوا حوالي عشرين ألفا من الفلاحين المصريين إلى فرنسا عام 1916 بعد أن اكتشفوا قوتهم في العمل وشدة مثابرتهم تحت ظروف الحرب القاسية ، وأحست كل قرية في مصر بالضياع وفقدان الناس والمال يحترقون في أتون حرب لا شأن لهم بها وفي هذه الحالة النفسية المريرة بدأ الفلاحون يعبرون عن مأساتهم ـ سواء المرتحلون خارج مصر أو الباقون فيها ـ بأغان ليس لها صلة بغناء المحترفين في مصر .
يضيف غانم : كان المغني في مصر يثير الناس ويطربهم بشئ اسمه " الهنك والرنك " وهي الميوعة والطراوة في الغناء ابتكرها محمد عثمان منذ أيام الخديوي إسماعيل وحفلاته الباذخة ، إذ يقضي المغني عشر ساعات متتالية وهو يتلاعب بصوته مرددا جملة أو شطرا من قصيدة .
وكانت منيرة المهدية تثير حواس المستمعين ببحة في صوتها فيها طابع جنسي يشبه بحة الأغاني التي يغنيها الأمريكيون اليوم في أغانيهم الراقصة .
أما أم كلثوم فقد غنت مع الفلاحين على طبيعتها وسجيتها ، غنت بلا قواعد وبلا هنك أو رنك وبلا بحة أو تلاعب ، أطلقت صوتها معبرا عما تحس به بلا خضوع لتقاليد أو مزاج ... أطلقت صوتها وكأنها تغني لنفسها وإذا بالفلاحين يطربون لسماعها ويجدون فيها تعبيرا عن الإنطلاق الذي يتمنونه في حياتهم .
وهنا يجب أن نسجل لأم كلثوم أنها استحقت منذ ذلك الوقت التفضيل الذي حباها به الفلاحون على غيرها من الأصوات التي كانوا يسمعونها ، وهذا التفضيل راجع لأمر شخصي في أم كلثوم وحتى لو هيئت الظروف لأصوات جميلة أخرى أن تبرز ، لما كان جمال الصوت وحده كافيا ، إذا خضع هذا الصوت الجميل لقواعد المحترفين في الغناء وتقاليدهم ، بل كان لابد أن ينطلق الصوت الجميل ثائرا من كل قيد حتى يتجاوب مع حالة المستمعين النفسية وهذه هو ما فعلته أم كلثوم وحدها .
لقد استجابت أم كلثوم في غنائها المنطلق إلى مشاعرها التي اتفقت مع مشاعر الفلاحين ولكنها لم تتفق مع مشاعر هواة الطرب من الأعيان الأغنياء وليس أدل على ذلك مما كتبه النقاد عندما ظهرت أم كلثوم لأول مرة في القاهرة .
كتبوا يصفون صوتها في الصحف .
" إنها ترسل الغناء إرسالا بغير قطعة من قطع الطرب تمهد لها سبيل الانغام "!
قال ناقد آخر :
" زيادة على حسن الصوت ورخامته ، يوجد شيئ اسمه الفن وأم كلثوم تسير مع طبيعتها فقط وهذا لا يكفي في الواقع وليس فنا " .
وقال ناقد ثالث :
" إن في صوتها جفافا ـ يقصد لا ميوعة فيه ـ ولا يمر صوتها في الأذن ولكن يخفق بها القلب " .
يقول غانم : جميع هؤلاء النقاد ـ ويؤسفني ألا أعرف أسماءهم إذ لم يوقعوا كلماتهم ـ كانوا يفضلون منيرة المهدية على أم كلثوم .
ومنيرة كانت تمثل الجنس الصارخ في الصوت وفي معاني الأغاني وكانت تستجيب لجمهور سهرات فيها خمر وحشيش وصيحات فيها عربدة وشهوة ونكات جارحة مخجلة .
وكانت أم كلثوم ـ مغنية موالد الفلاحين ـ لها صوت طبيعي ينطق الكلمات سليمة بلا عوج أو التواء وبعيد تماما عن الاصوات الجنسية فضلا عن خلوه من صنعة التكلف في التلاعب بالصوت وترديد الكلمات بصرف النظر عن معناها .
ومن الغريب أن تخحتار هذه الفلاحة المغنية هذه الطريقة في الغناء وتتمسك بها بتأييد من جماهير المستمعين الفقراء .
ولا تحاول أن تتعلم طرق الغناء الأخرى السائدة في ذلك العصر متفقه في ذلك مع الشيخ سيد درويش وفي نفس الوقت ـ دون أن تلقاه أو تتعلم على يديه ـ وهو الموسيقي الذي كفر أيضا بفن المحترفين وبدأ ينادي بأن طبيعة المصريين في الغناء أقوى من فنهم ، وبينما كان سيد درويش يجهد نفسه للتلحين بطريقة جديدة تخالف مألوف العصر ، وتتفق مع المشاعر الثائرة الجديدة التي تجتاح الناس كانت أم كلثوم تطبق أفكار سيد درويش فعلا بغنائها الريفي بين الفلاحين .
ويقطع غانم بالقول : لا أريد أن اتهم بالمبالغة إذا قلت أن ألحان سيد درويش الثائرة على الصنهة القديمة والمأثرة بالطبيعة والسجية المصرية وكذلك صوت أم كلثوم وطريقتها في الأداء الطبيعي كانا يرمزان إلى رغبة حقيقية كامنة في النفوس للانطلاق والتجرد من القيود السياسية والاقتصادية التي تضغط عليهم ، ولمل حقق لهم هذا الحلم ـ من ناحية الفن ـ سيد درويش في ألحانه وحققت أم كلثوم في غنائها أقبلوا عليها في إعجاب .
وبدأ الأغنياء يسمعون عن أم كلثوم كانت الأنباء تتناقل إلى الأعيان من خدمهم وأعوانهم أن هناك فلاحة تغني بصوت ملائكي وتحرك الفضول في نفوس بعض هؤلاء الأعيان ، فاستدعوا أم كلثوم إليهم ليتحققوا من صحة النبأ .
رسمي باشا محافظ دمياط كان لا يجد في المدينة نوعا من التسلية يتفق مع مركزه ومنصبه ، وفي إحدى نوبات السأم استدعى أم كلثوم إليه واستمع إليها مع ضيوفه ، فهزوارؤوسهم في إعجاب ولكنهم لم يجسروا على مقارنتها بمنيرة المهدية العظيمة .
وتعود أم كلثوم من مثل هذه الحفلات بعد أن تأكل طبق مهلبية أو تقضو قطعة لحم ، بعيدا عن المائدة التي تقام للمدعوين فهي ليست أكثر من فلاحة لها صوت جميل وأين يجتمع مجلس الوزراء في عوامة لها راسية على شاطئ النيل .
وفي أثناء تردد أم كلثوم على بيوت أعيان الفلاحين بدأت تسمع عن القاهرة وحدثها توفيق بك زاهر من أعيان السنانية عن توقعه لنجاحها لو ذهبت إلى القاهرة .
ويطرح غانم رؤية مغايرة حول الفضول في اكتشافها يقول : عندما يتحدث الكتاب عن أم كلثوم يؤكدون دائما أن توفيق بك زاهر اكتشف موهبتها ونحن نعرف الآن أن هذه الرواية ليست حقيقية ، إن الذين اكتشفوا أم كلثوم هم فلاحوا القرى ... ومنهم الخفير الذي أعطاها عشرة قروش لتغني في فرحه وبائع السجائر أحضرها لتغني في حفلة أقامها مقابل جنيه واحد وأمثالها من بسطاء الناس ، أما الأغنياء فقد تسلموها من بين الناس يدفعهم الفضول أولا ثم نوع من الحماس للشيئ الجديد المثير .
ونجح وفيق بك زاهر في إقناع أم كلثوم بالسفر إلى القاهرة واستطاع أن يضيفها في بيت آل عبد الرازق في شارع الدواوين .
وكانت فرقة للكشافة النوبية تقيم حفلا في مقرها بجوار البيت فأرسلوا أم كلثوم لتغني فيه .
وبدأت أم كلثوم تغني قصيدة وقورة وغريبة عن جمهور حفلات القاهرة وماكاد صوتها يرتفع بمطلع القصيدة .
مولاي كتبت رحمة الناس عليك فضلا وكرما حتى ارتفع أحد السامعين صائحا :
ـ كتب الغلب علينا ياأختي
وضج الناس بالضحك وبكت أم كلثوم
ولو قدر لي أن أكون ناقدا فنيا شهد ظهور أم كلثوم لأول مرة في حفلة غنائية عامة في مدينة القاهرة لكتبت في ذلك الوقت النقد التالي لأم كلثوم :
" ظهرت بالأمس مغنية جديدة تدعى أم كلثوم أقبل على سماعها جمهور كبير أغلبه من السوريين والأفرنج وبعض الشبان من أهل القلم والثقافة وقد وقفت أم كلثوم على خشبة المسرح في ملابس صبس عربي الالطو والكوفية والعقال ومن حولها بطانة من المشايخ وصفهم أحد الأفندية بجواري بأنهم كلأصنام الجامدة وقد علمت أن هؤلاء المشايخ خالد والد الفتاة الشيخ ابراهيم وأخوها الشيخ خالد وقريب له اسمه الشيخ صابر ، ويدور الهمس بأن هذا الشيخ الأخير طبيب أم كلثوم ولكن أحدا لم يؤيد هذه الإشاعة بعد .
واستطاعت هذه الفتاة العجيبة أن تغني بغير آلات تخت بصوت واضح جميل قوي ويبدو أنها تأثرت كثيرا بتلاوة القرآن الكريم الذي حفظته في الكتاب في قريتها وهي لا تجيد صنعة الأنغام والتلاعب بها ولا تعتمد على شيئ غير صوتها وصوت بطانتها وهو مزعج ونشاز ولا يقارن بصوت أم كلثوم ، ويخيل لي أنها لن تستمر في الغناء بصحبة هذه البطانة وإلا حكم عليها بالفشل ، وأسعدني أن أعلم أنها بدأت تتعلم العود لتغني هي وتعزف عليه وربما كان هذا خيرا لها وللسامعين .
وأجمع أغلب السامعين على سوء اختيار المغنية لأغنياتها البعيدة عن ذوقهم فقصائدها بعيدة عن الرقة ، مليئة بالوقار وقد غنت بالأمس قصيدة .
مولاي كتبت رحمة الناس عليك فضلا وكرامة
فسخر منها أحد المستمعين وصاح :
ـ كتب الغلب علينا يأختي
ومع ذلك استمرت المغنية الصغيرة في الغناء والذي لا يعلمه الحاضرون أنها ماكادت تنتهي من القصيدة حتى أسرعت إلى حضن والدها الشيخ ابراهيم وأجهشت بالبكاء .
وعلى أية حال خرج الكثيرون من الحفل وهم لا يخفون إعجابهم بصوت أم كلثوم وسمعت أكثر من شاب مثقف يقسم في تهور واندفاع بأن سيكون لهذه الفتاة شأن في عالم الطرب وأن طريقتها في الغناء خير من أسلوب الغناء عند منيرة المهدية "
وتلاحظ على هذا النقد ـ وقد جمعت مافيه من معلومات وأخبار من صحف ومجلات ذلك العصر ـ كأنه يشير إلى جمهور جديد لأم كلثوم غير الجمهور الذي أعتادته هي بين قرى الفلاحين وغير الجمهور الذي اعتاد أن يسمع الطرب والغناء في القاهرة ، إنه جمهور السوريين والإفرنج ، ثم الشباب المثقف من أولاد الأعيان وأثرياء الزراعيين في الريف وهو في حقيقته جمهور الطبقة المتوسطة في المدينة وهي الطبقة التي بدأت تنمو وتتسع مصالحها في مصر .
ويرصد فتحي غانم كيفية تولد العلاقة بين صوت أم كلثوم منذ بدايتها والطبقة الوسطى التي بدأت في نموها يقول :
في خلال الحرب العظمى وبعدها نزح كثير من أبناء الفلاحين إلى القاهرة ليتعلموا ويتحولوا إلى موظفين يقبضون المرتبات الشهرية من الحكومة كذلك ازدهرت التجارة التي كان يسيطر عليها الأوربيون وبعض أبناء الشام .
وهذه الطبقة كانت تعمل سواء في دواوين الحكومة أو في أعمال التجارة ولم يكن لديها متسع من الوقت كي تسهر الليل كله في الحفلات والليالي الملاح مثل الأعيان في سهراتهم في البيوت أو في الصالات والبارات بل كان هؤلاء الموظفين والتجار لهم يوم إجازة يستطيعون فيه أن يستمعوا إلى الغناء ولا شك أنهم رحبوا بغناء أم كلثوم السريع ـ بالنسبة لغناء الآخرين في ذلك الوقت ـ فضلا عن اهتمامها بالمعاني التي تؤديها بصوتها وهو ما يتفق مع مستوى عقلية هذه الطبقة .
وبعد أن يشير غانم إلى أن الطبقة المتوسطة هي التي زاملت أم كلثوم في صعودها الفني يقول : منذ جاءت أم كلثوم إلى القاهرة ابتعدت نهائيا عن طبقة الفلاحين الأجراء إلا في أغانيها ذات المعاني القومية أو الاشتراكية التي تمس مصالح هؤلاء .
وإذا أردنا أن نفهم طابع أم كلثوم الفني منذ أن انضمت إلى الطبقة المتوسطة برحلتها من الريف إلى المدينة فلابد لنا من دراسة الطبقة المتوسطة التي عاشت فيها أم كلثوم وغنت لها .
وأهم مايميز الطبقة المتوسطة هي أنها تقوم على أساس مبدأ البحث عن الربح .
والطبقة المتوسطة تتكون من أفراد يعيش أغلبهم في المدن ويبحثون عن الثروة المادية عن طريق التجارة أو امتلاك الدكاكين أو المصانع الصغيرة أو الكبيرة أو من احتراف المهن المختلفة كالمحاماة والطب والهندسة أو من الالتحاق بالوظائف الحكومية .
وأفراد الطبقة المتوسطة يكتسبون كل صفاتهم من السوق أي أن المصلحة المادية هي التي تحرك مشاعرهم وانفعالاتهم وعواطفهم وأفكارهم فهم يثورون وينقلبون إلى وطنيين لأن مصلحتهم المادية تقتضي أن يثوروا وان يصبحوا وطنيين وقد يتراجعون في ثورتهم إذا ما وجدوا أنهم سيصابون بأزمات مالية لا يطبقونها ، فإذا ما استقرت أحوالهم حصنوا أنفسهم بالوقار المكتسب فتحدثوا عن مثاليات الشرف والفضيلة والعفة والتدين .
والفائز في الطبقة المتوسطة هو من يجمع مالا أكثر من غيره لذلك تهتم الطبقة المتوسطة بالحديث عن الشخصيات ومقدا ما تكتسب من مال أكثر من حديثا عن القيم التي يعيش من أجلها الانسان ، فمثلا ليس هناك حديث في هذه الطبقة عن الفن بقدر الحديث عن شخصيات الفن وقدرتها على اكتساب المال من فنها وليس هناك حديث عن الموسيقى والغناء في ذاتهما بل الحديث عن منيرة المهدية وكم كسبت وأم كلثوم وكم تكسب .
ولذلك لم يعن أحد بدراسة تطور الموسيقى عندنا وحصرنا حديثنا عن الموسيقى في تتبع الشخصيات الفنية التي ظهرت متتالية في هذا المجال الفني .
وبعد أن بدأت أم كلثوم الغناء في القاهرة بسنوات قليلة جذبت أنظار النقاد إليها فلم يلاحظوا فنها ولم يدرسوا خطواتها الجديدة في الفن بل اقتصروا على مناقشة واحدة وهي : هل تصلح أم كلثوم كخليفة لمنيرة المهدية أم لا ؟
وكان حديث الصحف يدور حول هذه المناقشة فتقرأ مثل هذه القصة " كنا جلوسا فطلع علينا نذير يهتف لقد ماتت منيرة المهدية ، بغتنا جميعا وكان أحدنا يشرب السحلب فاندفق عليه ومرت برهة قصيرة ترحمنا فيها على السيدة منيرة وذكرنا صوتها الجميل وجهاد
ها في المسرح ثم انتقلنا فجأة إلى الحديث عمن يخلفها ... فتحية أحمد ، فاطمة قدري ، أم كلثوم ، نعيمة المصرية ، وقام جدال عنيف ونسي الجميع منيرة ثم بعد ساعات علمنا أن منيرة المهدية لاتزال على قيد الحياة ، وفي الحال نسينا فتحية وفاطمة وأم كلثوم وعدنا نتحدث عن منيرة المهدية"
هذه هي الطبقة المتوسطة وهؤلاء هم نقادها الذين استقبلوا أم كلثوم في القاهرة .
وقد انتصرت الطبقة المتوسطة بعد ثورة عام 1919 عندما أجبرت الملك على إعلان الدستور وتثبيت حق هذه الطبقة ـ من المثقفين أولاد البرجوازية الزراعية ـ في تولي الحكم وزادن الطبقة المتوسطة مع انتشار التعليم وحلول المصريين مكان الأجانب في الوظائف ومع نمو هذه الطبقة المتوسطة كان فن أم كلثوم ينمو ويزداد وينتشر ، يضيف غانم : ويلاحظ القارئ أني أربط الفن بشخصية أم كلثوم فهكذا تشاء تقاليد الطبقة المتوسطة التي جعلت الغناء والطرب وأم كلثوم قمة واحدة وشيئا واحدا .
وأصبح فن أم كلثوم وشخصيتها يعكسان معا رغبات ومثل الطبقة المتوسطة .
فليس عبثا أن ينفق المذيع وقته في وصف فستان السهرة الجديد الذي تلبسه أم كلثوم ولون منديلها الذي تمسك به أثناء الغناء كما تتحدث الصحف عن الفراء الثمين الذي تتدثر به فكل هذه المظاهر مهمة وضرورية في تأكيد مركز الفنان في الطبقة المتوسطة ، وبغير الملابس الفاخرة اللائقة والمجوهرات الثمينة والمسكن الفخم والسيارة التي من أحدث طراز ، يعتبر الفنان أو الفنانة في أعغين الناس في مركز متواضع وليس جديرا بالاهتمام .
ومنذ أن بكت أم كلثوم من سخرية أحد المستمعين في حفلتها الأولى في القاهرة تعلمت درسها الأول عن المجتمع الجديد التي كانت على وشك الدخول فيه إنه مجتمع كسب المال وانتهاز الفرصة والمهارة والشطارة وسيطرة الفرد وأنانيته فيكفي أن تجول فكرة عابرة بخاطر أحد المستمعين حتى يطلقها غير عابئ بشيئ ، فقد دفع ثمن تذكرته وما دام قد دفع الثمن فهو حر فيما يفعله وسيد لنفسه ، هذا هو منطق المتفرج ، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح أيضا منطق الفنانة التي جاءت من الريف.
فما دام صوتها جميلا والناس تعجب به وتدفع المال من أجل سماعه فهي حرة وسيدة لنفسها في عالم الغناء والجمهور يتبعها ويستسلم إلى تصرفاتها في الألحان كيفما تشاء بنفس الطريق التي كان الجمهور يتبع بها زعماءه السياسيين .
وسيطرت أم كلثوم على سامعيها فأعلنوا ثقتهم بها ووضعوها على قمة فن الغناء والطرب بغير منازع
يضيف فتحي غانم :
كان أساس العلاقة بين أم كلثوم وجمهورها شيئا يشبه الصفقة ، فأم كلثوم عليها ـ من ناحية ـ أن تغني بصوتها الجميل الأغاني المختلفة بحسب المناسبات الوطنية والدينية أو العاطفية تبعا لمزاج الجمهور وحالته النفسية والجمهور عليه ـ من ناحية أخرى ـ أن يدفع الحب والمال الذي تطلبه أم كلثوم .
وبهذه الصفقة أصبحت أم كلثوم نفسها واحدة من أبرز أفراد الطبقة المتوسطة .
وهي على علم أن جمهورها يهتم قبل كل شيئ بشخصيتها هي ممثلا في صوتها قبل أن يهتم بكلماتها أو بألحانها ولذلك فرضت أم كلثوم صوتها على اللحن كما كان لها الحق الأول والأخير في اختيار الكلمات التي تغنيها وتعديلها مهما كان الشاعر الذي يؤلف أغانيها ، شوقي أو رامي أو بيرم التونسي .
وهذا هو تفسير اهتمامي بالمغنية في دراسة الموسيقى في هذه الفترة من حياتنا الفنية فقد خضعت لها الألحان والكلمات كما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنها شاركت في تلحين وتأليف أغانيها بما أحدثته فيها من تغييرات مختلفة .
وليس أدل على ذلك من سماعك لأم كلثوم وهي تغني اللحن الواحد فتطيل فيه لمدة ساعتين إذا أرادت وتختصره إلى ربع ساعة إذا أرادت ، فصوتها أهم عندها وعند المستمعين إليها أيضا من اللحن ذاته وما يكاد صوتها يرتفع بالغناء حتى تخفت الآلات الموسيقية .
لذلك نشهد في غناء أم كلثوم ، معركة فذة بين الصوت من ناحية والموسيقى من ناحية أخرى وربما كانت هذه المعركة غريبة عند من يفهم الموسيقى على نحو ما يفهمه الغربيون مثلا . فاللحن الذي يكتبه موسيقي غربي يجب أن تحترمه المغنية مهما كان الموسيقي عظيما كـ بيتهوفن أو " شوبرت" أو تافها مثل مؤلفي موسيقى الجاز .
والموسيقي يكتب لحنه فتعزفه الآلات بدقة وتتبعه المغنية في خضوع تام فصوتها لا يعدو أن يكون آلة صوتية من بين آلات الفرقة الموسيقية أو إذا كانت المغنية موهوبة فهي مثل الممثل المسرحي الذي يؤدي الدور الذي كتبه المؤلف دون أن يتكلم بأفكار و كلمات من عنده ، فاللموسيقى السيادة لأنها الأصل ، وقد يغني اللحن الواحد عشرات المغنيين فلا يميز الواحد عن الآخر إلا إخلاصه في أداء اللحن الذي وضعه الموسيقي .
أما أم كلثوم فقد تعجبها ـ أو تعجب الجمهور جملة من اللحن فتظل ترددها لفترة طويلة لمجرد اللذة التي يشعر بها السامعون من الصوت الجميل وهو يؤدي هذه الجملة بالذات .
وهذا يعني كما يقول غانم : أن الانطلاق والحرية اللذين بدأت بهما أم كلثوم في غنائها بين الفلاحين أصبح انطلاقا يعبر عن نزعة فردية مقياسها هو الشعور باللذة والنغم الجميل يعبر عنه الصوت الجميل .
وبعد أن كانت أم كلثوم نفسها تمثل الطبيعة الجديدة للشعب المصري وكان النقاد القدامى يهاجمون حلو غنائها من الصنعة أدخلت أم كلثوم الصنعة على غنائها ، فقطعت الألحان التي تغنيها وخرجت عنها لتتلاعب بصوتها حسب مزاجها بعيدا عن اللحن المرسوم الذي وضعه الموسيقي .
وهذه الظاهرة ملموسة في فنون الطبقة المتوسطة والتي يعبرون عنها بـ " الفن من أجل الفن " أو بـ " الفن من أجل اللذة والجمال " .
واللوم ـ فيما حدث ـ لا يقع على أم كلثوم فهي مغنية ذات صوت جميل وإنما يقع اللوم على العقول المفكرة التي زاملتها في رحلتها الفنية وهي عقول رجال سياسية ورجال اقتصاد وأدب وصحافة .
وكان تشجيع هؤلاء جميعا ونقدهم وتقديرهم لأم كلثوم لا يمثل في غير اعجابهم بالصوت الجميل والربح الوفير الذي يمكن أن تحصل عليه ولا شيئ أكثر من هذا . فكانوا بذلك مثالا واضحا لعقلية الطبقة المتوسطة التي لا تفكر إلا في المال ، وتكيف معتقداتها ومشاعرها بمقدار ماتحصل عليه من ثروة ، ولا أعرف أحد من أصدقاء أم كلثوم دفعها إلى مغامرة فنية ، والفنانون بطبيعتهم يحبون المغامرة ولو ضحوا بالمال من أجلها ولا شك أن أم كلثوم كانت لتتردد في الإرتقاء بفنها لو وجدت من ينصحها بذلك حتى لو كان ذلك على حساب ما تكسب من مال ، ولكن ما حدث هو إحجام أم كلثوم عن المغامرة غير المضمونة فلم تواصل الفن المسرحي الذي ازدهر في مصر وأقبل عليه الشيخ سيد درويش ، ومنيرة المهدية نفسها وإن كانت اضطرت إليه بعد تحديد ساعات السهر في الصالات بأمر السلطة الانكليزية مما جعاها تلجأ إلى السهر في المسرح ، وكان مفترضا في أم كلثوم أن تبدأ عهد الأوبرا في مصر وهي قادرة ـ لا شك في ذلك ـ على أن تخلفه وتوجده ولكن أحدا لم يكن يهتم بتطور الموسيقى وفن الغناء بل تركز الاهتمام في شخص أم كلثوم واقترن الغناء بالمغنية واستطاعت وبصرف النظر عن لون الغناء كما استطاع الزعماء الوصول إلى الحكم بأسمائهم بصرف النظر عن المبدأ السياسي .
وهكذا وقف التطور حتى دخلت مرحلة جديدة هي مرحلة ثورة 23 يوليو وهي المرحلة التي ارتفعت فيها أم كلثوم إلى ظاهرة قومية للأمة العربية .
لا تسحب رؤية فتحي غانم من رصيد أم كلثوم الذي تكون تدريجيا منذ قدومها إلى القاهرة ويندرج مايراه تحت وجهة نظر ترى في الفن والموسيقى والغناء أنه يرتقي في جماعيته وليس فرديته ، اختارت أم كلثوم أسلوب الأغنية ذات الطابع الفردي لكن هذا لم يخلو من ميزة يراها كمال النجمي في أنه حمل سمة الطابع القومي المشترك في طريقة الغناء وترد أم كلثوم على ما ذكره فتحي غانم وينقله هو أيضا :
ـ هل أنا مسؤولة حقا عن اختفاء الغناء المسرحي في مصر ؟
هل صيح أننا عرفنا الأوبرا والأوبريت في أيام الشيخ سلامة حجازي ومنيرة المهدية ثم جئت أنا فأبطلت هذا الفن المسرحي ولم أستمر فيه ؟
وتجيب : إن لي رأيا فيما كان عليه الغناء المسرحي في مصر إنه لم يكن أوبرا ولا أوبريت لا غناء مسرحي بالمعنى المفهوم ، كان مجرد أغان فوق المسرح لا تنسجم مع القصة المسرحية بل هي تقطع سياق القصة ، وتقف المغنية أو المغني ليؤديا دورهما فتصبح الأغنية في جانب والموسيقى في جانب والقصة نفسها في جانب ثالث ، ولا يربط بين هذه العناصر الثلاثة ـ الأغنية والقصة والموسيقى ـ أية صلة غير اجتماعها بالمصادفة في مكان واحد فوق خشبة المسرح .
ولم أرض عن هذا الأسلوب في الغناء فأما أن تكون لدينا أوبرا وأوبريت بطريقة فنية سليمة أو امتنع عن الظهور على المسرح إن وجدت ، يجب ألا تكون تقليدا للأوبرا الأجنبية .
إن الموسيقى يجب أن تعبر عن روحنا الشرقية ولا يمكن أن نفرض على جمهور المستمعين ذوقا والأسلوب الأوربي ، فذلك لأن جمهور الصور واللوحات الفنية محدود ومحصور في طبقة ضيقة من المثقفين ، أما الموسيقى والغناء فجمهورها هو الشعب كله على اختلاف طبقاته وثقافاته وأعماره .
إن الذي يدرس الموسيقى الأوربية كالذي يدرس لغة أجنبية يجب أن يستفيد منها ، ولكن من المضحك أن يطالب بأن تكون هذه اللغة الأوربية هي لغتنا .
ولقد استمعت إلى الموسيقى الأوربية وشاهدت الأوبرا الأفرنجية فلم أهز لها ولم أحس بصدى لها في نفسي كمصرية شرقية ، وأعتقد أن هذا هو شعور الآخرين ، فالذين يترددون على دار الأوبرا يهتمون باستعراض الملابس ولأزياء والظهور في المجتمعات أكثر من اهتمامهم الحقيقي بالموسيقى والغناء ، وأنا لا أحب هذا التظاهر الذي يعكس مركب النقص وعدم احساسنا بشخصيتنا العربية .
وتضيف أم كلثوم : يعجبني الهنود الصينيون لأنهم يحتفظون بشخصيتهم في موسيقاهم ، فعندما شاهدت الأوبرا الصينية استمعت إلى موسيقى وغناء لا يمكن أن يصدر إلا عن الصينيين ويعبر عن حياتهم ومشاعرهم وكذلك الموسيقى الهندية واللأوبرا الصينية في العالم كله ، إن كل بلد يجب أن يضيف إلى الموسيقى شيئا من عنده لا أن يقلد غيره .
وأخشى أن يكون المجددون للموسيقى الشرقية يقعون في خطأ التقليد أو الاقتباس للموسيقى الأوربية وأنا أفضل الاستماع إلى السمفونيات الأجنبية من أصحابها الأجانب بدلا من تقليدهم وحتى الموسيقى الراقصة أفضل الاستماع إليها من مصادرها الأجنبية ولا أوافق على تقليدها في مصر وتقديمها للجمهور على أنها موسيقى مصرية تعبر عن شخصيتها المصرية .
ونحن نستطيع بالموسيقى الشرقية والآلات الشرقية أن نقدم أوبرا صادرة من تراثنا وحياتنا وتبهر العالم كله ، وفكرتي عن هذه الأوبرا تلخص في النقاط التالية :
ـ الاعتماد على التراث الموسيقي القديم ولا أقصد به الألحان القديمة بذاتها إنما نستلهم روحه ونربطها بواقع حياتنا وهو يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص في الأندلس وفي أيام العباسيين وإخراج تابوهات ستمد أصولها من هذا التراث وتؤلف لها قصة مناسبة .
ـ إعداد أصوات مختلفة لتشترك في الغناء وإعداد كورس غنائي مدرب .
ـ المحافظة على الآلات الشرقية والمقامات الموجودة في الموسيقى الشرقية ولا توجد في الغربية وأن نصنع آلاتنا الموسيقية في مصر لأن الآلات النحاسية والخشبية التي تصنع في الخارج لا تستطيع أن تؤدي ربع المقام .
لو تحققت هذه الظروف كلها فسترى مولد الأوبرا المصرية كفن حقيقي .
وترد لفتحي غانم عن قصة المال الذي رأى أنها حصلت عليه بشخصيتها بصرف النظر عن لون الغناء تقول له :
أما كلامك عن المال فأقول إني غامرت بالمال في سبيل فني ، غامرت بالمال يوم قررت أن أغني المعاني الدينية والوطنية ، لقد نصحني الكثيرون بأن أعدل عن هذا النوع من الغناء وكانوا يظنون أن الجمهور لا يهتم إلا بالأغاني العاطفية أو الخفيفة ، ولكني صممت على تقديم أشعار شوقي وفيها " ريم على القاع بين البان والعلم " وفيها " الاشتراكيون أنا إمامهم " وهي معان وألفاظ بعيدة تماما عن معاني " تعاليلي يا بطة " و " تعال ياشاطر نروح القناطر " إن ما قدمت لجمهوري كان يحمل قيما دينية ووطنية وكان من الممكن ألا أنجح في إقناع الجمهور بأن يسمع لمثل هذه الأغاني ، ولكني نجحت في ذلك وهذا هو أعظم انتصار لي ، وكم كنت سعيدة في إحدى الليالي وأنا خارجة من مطعم في الشاطبي ، فسمعت وأنا أركب عربتي صوتا يغني " " أبا الزهراء " وكان الصوت صادرا من كبارية على الكورنيش ، وأحسست أن وصول هذه المعاني إلى ذلك المكان وانتشارها على هذا النحو دليل على ارتقاء الغناء في مصر فما كان أحد يتصور منذ زمن قريب أن تنتشر بين الناس غير الأغاني الخليعة المبتذلة .
ويفتح هذا التعليق من أم كلثوم الحديث عنقسماتها الوطنية منذ مجيئها إلى القاهرة وطول عهود الحكم التي عاشت في ظلها ، فمع الملك فؤاد الأول ( 1917 ـ 1937) يمكن القول أنها كانت ولفترة طويلة منه في مرحلة البحث عن مشروعها الغنائي الذي سيؤسس سخصيتها الفنية فيما بعد ، ويعتبر مؤرخون أن عهد الملك فؤاد الأول كان تتويجا لتطور طويل للفنون الحديثة في مصر بدأ في عصر اسماعيل واختفى معه هذا اللون من الفنون البدائية الذي عرفته مصر من قبل مثل خيال الظل والأراجوز ، والمقصود بالتتويج هنا أن تلك الفنون خلت في بنية الثقافة المصرية بعد أن ظلت غائبة عنها لوقت طويل وتأسس في هذه المرحلة نادي الموسيقى الشرقي ، وعاد يوسف وهبي عام 1923 من بعثته في دراسة المسرح في ايطاليا وقدم في عام ونصف بعد عودته 35 قصة مسرحية وأصبحت كما قال الكاتب محمد التابعي " مهنة التمثيل من المهن التي لا يأنف منها الشبان المتعلمون كما كان الحال من قبل " وفي عام 1927 دخلت صناعة السينما في مصر ، ففي القاهرة أسست السيدة عزيزة أمير شركة " إيزيس فيلم " وأعدت سيناريو باسم نداء الله ، أدخلت عليه بعض تعديلات فيما بعد ، وأطلقت عليه اسم " ليلي " وفي الاسكندرية أسس الشقيقان ابراهيم وبدر لاما شركة " كوندور فيلم " وأعد سيناريو باسم " قبلة في الظلام " وكان أول السيناريوهات التي اشتغلا باخراجها وفي 3 نوفمبر عام 1930 تم افتتاح معهد فن التمثيل الجديد ليستقبل في شهر اكتوبر من العام التالي أول دفعة دراسية وعددها 30 كان من بينهم رفيعة الشال ، وروحية خالد ، زوزو حمدي الحكيم ، وعبد السلام النابلسي ومحمد عبد القدوس .
وفي 31 مايو بدأ البث الإذاعي للإذاعة الحكومية وكان ضمن فقرات الافتتاح فاصل موسيقي للآنسة أم كلثوم " أبدعت فيه ماشاء لها صوتها الساحر وفنها الممتاز " .
في هذا السياق كان مشروع أم كلثوم الغنائي يتأسس بدءا من الشيخ أبو العلا ثم الدكتور أحمد صبري التجريدي ، وجاء القصبجي لتغني له من كلمات أحمد رامي عام 1924 :
ان حالي في هواها عجب
اي عجب
ليس يرضيني رضاها
ثم يشقيني الغضب
وبعد هذا اللحن جاء لحن " أن كنت أسامح وأنسى الأسية " وكان ثورة في عالم التلحين تجاوز كل ماقدمته أم كلثوم من قبل للقصبجي أو لغيره .
وفي معنى الوطنية السائدة حينئذ لم تغرد أم كلثوم خارج السرب ، فهي ككل المصريين رأت في سعد زغلول زعيم الأمة ورمزها وفي ليلة 27 أغسطس عام 1927 كانت تغني في كازينو البسفور في القاهرة وفوجئت أثناء غنائها بأن جميع المتفرجين يهرولون إلى خارج المسرح حتى وجدت نفسها تغني لفرقتها فتوقفت عن الغناء لتسأل عن سبب هروب الجمهور ، فقيل لها أن الزعيم سعد زغلول وافته المنية في تلك الليلة ، فامتنعت منذ تلك الليلة عن الغناء لفترة من الوقت حدادا على زعيم الأمة ، وعندما عادت مرة أخرى كانت عودتها بقصيدة " إن يغب عن مصر سعد " التي نظمها أحمد رامي ولحنها محمد القصبجي من مقام النهاوند ويقول مطلعها :
إن يغب عن مصر سعد
فهو بالذكرى مقيم
ينصب الماء ويبقى
بعده النبت الكريم
خلدوه في الأماني
وأذكروه في الولاء
أندبوه في الأغاني
أعذب الشكوى البكاء
وبيع من الاسطوانة التي حمات هذه القصيدة عدد جعلها تحتل المركز الثاني في توزيع اسطواناتها في ذلك العهد وبعد اسطوانة أغنية " إن كنت أسامح وأنسى الأسية " ، واظبت أم كلثوم بعد ذلك ولمدة طويلة على أن تفتح غناها كل حفلة بهذه القصيدة وهو مايعد امتزاجا حقيقيا مع الحالة الوطنية التي كانت تجيش في نفوس وقلوب المصريين ، وعلى كل الأحوال لم تقترن هذه المرحلة في حياة أم كلثوم بمقاربة الحاكم فالملك فؤاد لم يكن يتحدث العربية ولم تكن أم كلثوم ضمن جوقة مطربين يسمع إليهم بصفة خاصة بل كانت واحدة ضمن عشرات الفنانين الذين يحتشدون أحيانا في ركابه في بعض عواصم المحافظات لتقديم الحفلات الغنائية كما حدث في مدينة المنيا عام 1930 ولا يوجد مايشير إلى أنه كان " سميعا " عاشقا للغناء أو له مطرب مفضلا وذلك على العكس تماما من والده الخديوي اسماعيل الذي عرف عنه عشقه للفن ولصوت عبده الحامولي وألمظ وكانت رعايته الخاصة للحمولي .
هكذا بدأت أم كلثوم وظلت تفتخر بتاريخها الطالع من المعاناة التي أعطتها فهما خالصا للحياة والوطن والدور ، وكلما رأت الفرصة مواتية للتعبير عن انحيازها تفعل وتبحث في الكلمات عما يطابق الزمن وبالتالي يمكن القول أن بحثها عن أبطال مثل الذين عاشوا حصار الفالوجا وتحدثت عنهم كما جاء سابقا ، كان طبيعيا وتلقائيا قدر تلقائيتها الشخصية كما هو واضح في حديثها عن ذكرياتها .