استهلكت الفضائيات المتكاثرة، صورة المحلل السياسي وابتذلت شخصيته. فهذه الفضائيات بتكاثرها المخيف في بلدنا والمنطقة والعالم أجمع، انقضّت على معالم الشخصية التقليدية للمحلل في أذهاننا، ودفعتها إلى الخلف، بعد أن دمّرتها تماماً، لصالح عدد لا يحصى كثرةً من المحللين الجُدد.
بتزايد الطلب على المحللين مع ساعات البثّ المفتوح ليلاً ونهاراً، تحوّل التحليل السياسي إلى وجبة من الألفاظ، وحشد من المصطلحات التكرارية الجاهزة، وتدوير للمعلومات المعروفة، وتيه بعيد كلّ البُعد عن الفهم السليم والرؤية المنضبطة، والقدرة على التوقّع، والاجتهاد في
رسم الخيارات وعرض الحلول، للمشكلات والقضايا المطروحة.
أضف إلى ذلك ما هو أخطر متمثلاً؛ بإسقاط الرغبات على الحوادث، وتلوينها بالأمزجة النفسية والأهواء، ومزجها بالانحيازات من كلّ لون، أيديولوجياً وحزبياً وجهوياً ومذهبياً ومناطقياً، وهو ما أدّى إلى عزوف إنساني كبير عن هذه التحليلات ورموزها وبرامجهم، إلا ما ارتبط بضجة وتشهير وفضيحة؛ عدا القليل الذي لا يُقاس عليه من البرامج الجادّة، والمحللين الذي يتسمون بالعمق في منهج الفهم، والتزام قواعد
التحليل.
التحليل السياسي بنظري هو مزج بين عناصر ثلاثة، هي العلم والموهبة والتمرين، ومن ثمّ فهو عمل اجتهادي تنظمه مبادئ وتضبطه قواعد، مثله كمثل الاجتهاد الفقهي، والتأريخي والاجتماعي والنفسي. فالمحلل هو مجتهد له منهج في الفهم، وقواعد في التفكير والإدراك، والأهمّ من ذلك بذل ما يستطيع من جهد في عرض اجتهاده للحلول، وخياراته لمواجهة المشكلات.
بدهي لا أقصد من ذلك، مطابقة الاجتهاد في التحليل السياسي، بما يحصل مع العلوم الطبيعية والرياضية أو مع الفلسفة، بحيث تأتي النتائج يقينية. كلا، فالتحليل السياسي مادّةً وموضوعاً، ينتمي إلى الظواهر الإنسانية منضبط بمناهج العلوم السلوكية، ومن ثمَّ فنتائجه في الغالب متعدّدة احتمالية، أو ظنّية بحسب لغة الاجتهاد الفقهي.
أخيراً، بودّي ألا أختم هذه الملاحظة من دون الإشارة، إلى عدد من «المحللين» تتلبسهم مشكلة أخلاقية بل قلْ وطنية، وهُم يمارسون فعل الشماتة بأوطانهم، باسم التحليل السياسي وعبر عنوانه!