الاستهلاك consumption:
هو استخدام سلع أو إتلافها أو التمتع بخدمات، وذلك من أجل إشباع حاجات أو رغبات معينة. ويمكن النظر إلى الاستهلاك على أنه الهدف أو الغاية الأساسية لكل النشاطات الاقتصادية. وللاستهلاك علاقة عضوية بالإنتاج، فالاستهلاك يواجه دائماً إما بالسلع التي تنتج في ذلك الوقت وإما بالسلع التي أنتجت من قبل. وللاستهلاك دور أساسي في تركيب البنيان الاقتصادي وفي تحريك العجلة الاقتصادية، إذ إن الاستثمارات وفرص العمل هما أمران متعلقان بحجم الطلب الكلي على السلع والخدمات.
والمستهلك، إن كان شخصاً عادياً أو هيئة ذات شخصية اعتبارية أو مؤسسة خاصة يُعدّ استهلاكه استهلاكاً خاصاً، وإن كان دائرة حكومية أو مؤسسة من مؤسسات الدولة المتنوعة يعدّ استهلاكه استهلاكاً عاماً.
والمستهلك في أية حال ينفق قسماً من دخله أو من موارده السنوية على سلع وخدمات يراها ضرورية لبقائه واستمرار وجوده. ويكون إنفاق المستهلك في العادة إما على منتجات «فانية» كالمأكل والملبس، وإما على منتجات «معمرة» كأثاث المنزل والأجهزة المختلفة ووسيلة النقل، وفي كل الحالات يكون استهلاكه خاصاً فهو إما أن يؤدي إلى فناء السلعة المستهلكة باستعمالها مرة واحدة أو لمدة طويلة وفي هذه الحالة يسمى الاستهلاك النهائي وإما أن يؤدي إلى إدخال السلعة مادةً وسيطة للحصول على سلعة جديدة ذات منفعة جديدة مختلفة ويسمى في هذه الحالة الاستهلاك الوسيط ولا يكون استهلاكاً بالمعنى المطلق للكلمة وإنما هو نشاط إنتاجي يدخل في إطار الاستثمار.
وفيما يتعلق بالحسابات القومية، فإن الناتج المحلي الإجمالي لأي بلد ينفق إما على الاستهلاك أو على الادخار[ر] الذي ينقلب إلى استثمار جديد يسهم في زيادة حجم الناتج الإجمالي في مرحلة لاحقة.
ومن الثابت أن هناك علاقة مباشرة بين الدخل والاستهلاك. ومع وجود عدد من النظريات الاقتصادية المختلفة التي تتناول طبيعة الإنفاق الاستهلاكي والكيفية التي يتصرف بها المستهلك عامةً فإن أياً من هذه النظريات لا يخالف ثبوت تلك العلاقة، وإن الاختلاف بين النظريات لا يخرج في الغالب عن تحديد طبيعة الدخل والعوامل المؤثرة فيه أو تأويلها أو تعليلها بصورة أو بأخرى. كذلك فإن كل المؤيدات الإحصائية والبيانات التجريبية التي تم الوصول إليها في بلدان ومجتمعات مختلفة من العالم جاءت لتؤيد وجود هذه العلاقة الراسخة بين الدخل من جهة وما ينفق على الاستهلاك من جهة أخرى. وقد ثبت إحصائياً، فيما يتعلق بالفرد الواحد أو بالمجتمع كله، أن حصة الاستهلاك بالنسبة إلى حجم الدخل تزداد كلما انخفض المستوى العام للدخل. كذلك تشير إحصاءات الدول الصناعية المتقدمة إلى أن الإنفاق على الاستهلاك كان في القرن التاسع عشر، في الأحوال الطبيعية، يؤلف نسبة تُراوح بين 84 و94 بالمئة من الدخل.
المفهومات النظرية حول الاستهلاك
تصدت المراجع الاقتصادية لمسائل الاستهلاك منذ زمن بعيد ويؤكد ذلك ما بقي من تراث الحضارات القديمة المختلفة. وفيما يتعلق بالتراث العربي فقد برز عدد من العلماء الذين تناولوا بعض جوانب موضوع الاستهلاك في كتاباتهم أمثال ابن خلدون والمقريزي وابن عبد السلام وغيرهم، بيد أنه من منظور اقتصادي صرف لابد من التركيز على علم الاقتصاد الحديث وإذ ذاك يبرز ما قدمه كينز J.M.Keynes حول مسألة الاستهلاك، وأهمية ما قدمه كينز لا تكمن في أنه جاء قبل غيره، إذ إن هناك عدداً كبيراً من الاقتصاديين قد عالجوا موضوع الاستهلاك قبله أمثال انجل E.Engel ومارشال A.Marshall وباريتوV.Pareto وبيغو A.C.Pigou وغيرهم، ولكن أهميته تكمن في طرحه لنظرية كاملة مترابطة تتناول مختلف جوانب المسألة الاقتصادية ومن ضمنها الاستهلاك الذي خصه كينز باهتمام كبير لدوره في تكوين الطلب الكلي للسلع والخدمات الذي يعدّه كينز المحرك الأساسي للعجلة الاقتصادية. ومع أن عدداً من النظريات التي وضعت بعد كينز قد جاءت بأسس، وتعديلات تختلف عن تلك التي قدمها، فإن نظريته مازالت تؤلف أحد المنطلقات الرئيسة التي لا يمكن الاستغناء عنها عند معالجة موضوع الاستهلاك. يبين كينز في «نظريته العامة» أن الأسس النفسية الراسخة لدى المستهلك تدفعه، على العموم إلى زيادة إنفاقه الاستهلاكي عند حدوث زيادة في دخله المتاح، بيد أنه يُبقي في العادة جزءاً من تلك الزيادة للادخار. وإن نسبة الادخار هذه تتزايد مع تزايد الدخل، وذلك كله بعد تجاوز حد معين من المستوى المعاشي يكون حداً كافياً لإشباع المتطلبات الاستهلاكية الضرورية. وإن هذا الكلام يتفق مع ما يعرف «بقانون أنجل» Engel’s Law، وهو إحصائي ألماني عاش في القرن التاسع عشر وكانت له أعمال رائدة في دراسة السلوك الاقتصادي للأفراد بشكل منهجي، ولاسيما العلاقة بين الدخل والإنفاق على المواد الغذائية، وينص ما يعرف بقانون على أنه: «بقدر ما تكون الأسرة أكثر فقراً تكون نسبة الإنفاق من دخلها على الطعام أكبر». ويؤكد كينز أن حركتي التغيير في مستوى الدخل وفي مستوى الاستهلاك تسيران في اتجاه واحد، فمع زيادة الدخل يزداد الإنفاق الاستهلاكي ولكن بنسبة تقل عن نسبة الزيادة في الدخل. وقد أُطلق على نظرية كينز في الاستهلاك «نظرية الدخل المطلق» لأنها ترى أن مستوى الدخل المطلق absolute level of income هو العامل الأساسي الذي يحدد حجم الإنفاق الاستهلاكي للفرد. ومما يذكر، أنه قد جاء بعد كينز عدد من الاقتصاديين دافعوا عن هذا الاتجاه وطوروه يذكر منهم توبن J.Tobin وسمثيز A.Smithies وآخرون.
ومع أن أعمال كينز كانت رائدة في حقل الاستهلاك، فإن تعرضه للأمد القصير من دون الالتفات إلى المتغيرات التي يمليها الزمن، إضافة إلى التطور النظري في علم الاقتصاد وإلى بروز عدد من الدراسات الإحصائية التي كانت نتائجها لاتتطابق بوجه أو بآخر مع الحيثيات التي تفرضها نظريته، قد أدى إلى ظهور نظريات أخرى حول الاستهلاك تختلف بجوهرها عن نظرية كينز. فقد برزت أفكار دوزنبري J.S.Duesenberry ونظريته التي عرفت بـ«نظرية الاستهلاك وفق نظرية الدخل النسبي» The Relative Income Theory والتي ارتكزت على مقولتين أساسيتين هما:
ـ أن السلوك الاستهلاكي لدى الأفراد هو سلوك متداخل يؤثر بعضُه في بعض.
ـ أن العلاقات الاستهلاكية هي ذات اتجاه واحد ولا تتراجع مع الزمن، مما يعني أن مستوى استهلاك الفرد لا ينخفض مباشرة عند حدوث تراجع في مستوى دخله.
وقد ركز دوزنبري على العامل والأثر البياني الترتيبي demonstration effect وأسهب شارحاً أن الإنفاق الاستهلاكي لأسرة ما لا يعتمد على مستوى دخلها المطلق بقدر ما يعتمد على مستوى دخلها إذا ووزن ببينه وبين دخول الأسر التي تربطها بها صلات ووشائج، سواء أكان ذلك في السكن أم في القربى أم في العلاقات الاجتماعية. وعليه، فإذا ما ارتفع دخل الأسرة في مرحلة من المراحل وشملت نسبة الارتفاع هذه جميع الأسر الأخرى التي لها علاقة بها، وبقي المستوى النسبي بين كل الأسر ثابتاً، فإن توزيع دخل الأسرة المعنية بين الإنفاق الاستهلاكي والادخار يبقى على ما كان عليه قبل ارتفاع الدخل مع أن مستوى الإنفاق الاستهلاكي ومستوى الادخار لتلك الأسرة يكون قد ارتفع ارتفاعاً مطلقاً. ووفق المقولة نفسها، فإذا ما ارتفع مستوى دخل الأسر الأخرى وبقي مستوى دخل الأسرة المعنية ثابتاً فإن المستوى المعيشي لتلك الأسرة يتراجع مع أن دخلها لم يتدنَّ، وذلك لأنها تجنح في العادة لزيادة إنفاقها الاستهلاكي تحت تأثير تقليد بقية الأسر التي طرأت زيادات على دخولها. ويلحّ أنصار هذه النظرية على الطبيعة المتأصلة لدى الناس لتقليد بعضهم بعضاً في طرائق الاستهلاك وأنماطه. وتنافسهم في ذلك إلى حدود المضاهاة والتفاخر، ويبينون أن الأسر ذات الدخل المحدود تجنح نحو المزيد من الإنفاق الاستهلاكي عندما تعيش في محيط من الأسر ذات الدخل الأعلى، أكثر مما يكون عليه الحال لو عاشت في محيط من الأسر ذات الدخل الأدنى.
كذلك فإن دوزنبري يبين أن للدورة الاقتصادية أثراً في إحداث تغيرات في مستوى الإنفاق الاستهلاكي بالنسبة إلى الدخل، ومع أن نظرية دوزنبري لاتخلو من الشفافية والتجديد فإنها لم تسلم من النقد لأسباب متعددة مما حدا ببعض الاقتصاديين ممن كانوا من دعاتها أمثال موديغلياني F.Modigliani على التنصل منها والتركيز على ما بات يعرف بنظرية الاستهلاك «وفق مفهوم الدخل الدائم The Permanent Income Theory التي نجح فريدمان M.Friedman في تطويرها. ولقد بيّن أصحاب الاتجاه الثالث أن الإنفاق العادي للمستهلك لا يتأثر آلياً وبسرعة بالمتغيرات التي قد تطرأ على دخل المستهلك في المدى القصير إذ إن استهلاك الفرد في شهر معين لا يعتمد بالضرورة على دخله في ذلك الشهر. كذلك فإن المستهلك لا يتوقف عن استهلاكه مثلاً إذا أصبح دخله في شهر من الأشهر مساوياً الصفر. ومن منطلقات كهذه يرى أصحاب هذه النظرية أن الاستهلاك يتأثر بالدخل في مدة زمنية أطول، وأن المستهلك ينظر إلى دخله السنوي كله وإلى مستوى دخله في العام السابق وإلى توقعات تطور دخله في المستقبل.
لذلك كله ولتفصيلات مشابهة يقول فريدمان: إن الاستهلاك على المدى الطويل هو جزء ثابت من الدخل الدائم، وإن هذا الجزء يعتمد على شروط وعوامل متعددة مثل معدل الفائدة المصرفية والدخل الآتي من دون جهد، كالإرث مثلاً وعلى الذوق الخاص للمستهلك الذي يعتمد على الطبيعة الاجتماعية للأسرة وأعمار أفرادها وغيرها.. لذلك يقول أصحاب هذا الرأي: إن الإنفاق الاستهلاكي لأي أسرة يتوقف على مستوى الدخل الدائم لها، ولما كانت هناك فروق خاصة بين أسرة وأخرى فإن ذلك الجزء من الدخل الذي تنفقه أي أسرة من الأسر على استهلاكها يختلف بين حالة وأخرى. أما إذا افترض أن الفروق التي تنجم عن عوامل مثل الذوق والعمر وغيرها متساوية، فحينئذ يصبح ذلك الجزء من الدخل الدائم الذي ينفق على الاستهلاك متساوياً بغض النظر عن كون الأسرة فقيرة أو غنية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدم أخذ فريدمان بالحسبان للاختلافات في النهج والتصرفات لطرائق الإنفاق لدى الأثرياء والمحرومين قد عرّض هذه النظرية للكثير من الانتقاد على الرغم من التجديدات التي أدخلتها على مسألة الاستهلاك بوجه عام:
وإذا كان ماتقدم يؤلف شرحاً مبسطاً ومختصراً لأهم المدارس أو الاتجاهات النظرية لمسألة الاستهلاك، فثمة تشعبات نظرية أخرى انطلقت من هذا الاتجاه أو من ذاك، ومازالت النصوص الاقتصادية تقدم باستمرار تجديدات في هذا الأمر، إلا أنه من الجدير ذكره أن لكل اتجاه من الاتجاهات النظرية المختلفة عدداً من الأبحاث الإحصائية والقياسية التي تدعم مقولته.
العوامل المؤثرة في الاستهلاك
إن العوامل المؤثرة في الاستهلاك هي العوامل التي تؤثر في العلاقة القائمة بين الدخل والإنفاق الاستهلاكي. ويركز أصحاب كل مدرسة من المدارس النظرية على «العوامل المؤثرة» التي تخدم التركيب البنياني لنظرياتهم. ولاشك في أن كينز كان أول من صنف تلك العوامل وأوضح العلاقة والدور لكل صنف. فهو يقول إنّ ثمة «عوامل ذاتية» Subjective Factors «وعوامل موضوعية» Objective Factors الأولى تنطلق من البنية النفسية للمستهلك ومن عاداته الاجتماعية ومن تأثره بأطر المؤسسات السائدة، والثانية تنطلق من متغيرات اقتصادية متنوعة. إلا أن عدم تبدل هذه العوامل، بصنفيها، في الأمد الآني والقصير يترك علاقة الارتباط المباشر قائمة بين مستوى الدخل ومستوى الإنفاق الاستهلاكي. ويتجلى أثر «العوامل الذاتية» في تجديد حجم الاستهلاك بالنسبة إلى مستوى الدخل المعين، وهو يؤثر في قرار المستهلك المتعلق بكيفية تقسيم دخله بين الإنفاق الاستهلاكي والادخار.
وهذه العوامل الذاتية التي تدفع المرء للإقلال من الاستهلاك تنطلق من دوافع أو نوازع ذاتية فدافع الحيطة يحدد الجزء الذي يحتفظ به المرء من دخله لمواجهة الحالات الطارئة، ودافع التبصر وبُعد النظر يجعل المرء يدّخر للمرض والشيخوخة، ودافع الاحتساب يخلق الاستشعار بالحاجات المستقبلية، ودافع تحسين المستوى المالي يجعل المرء يقلل من الاستهلاك في الحاضر ليستثمر ويزيد دخله في المستقبل، ودافع التبين والاستقلال المالي يجعل المرء يتعاطى الصفقات والمضاربات، ودافع التوريث يؤثر في سلوك الإنفاق، وأخيراً هناك دائماً عند بعضهم دافع الشح وحب تجميع المال. أما «العوامل الموضوعية» التي ذكرها كينز فهي متغيرات تنطلق من أسباب اقتصادية وتخلق ضغوطاً لزيادة درجة «نزوع الفرد نحو الاستهلاك» أو لإنقاصها بغض النظر عن المستوى العام لدخله. ويندرج تحت «العوامل الموضوعية» متغيرات مثل: الربح أو الخسارة الطارئة وغير المتوقعة في أصول رأسمالية يملكها المستهلك ولاتؤثر في العادة في دخله المنتظم، تعديلات في التشريعات أو الإجراءات الضريبية، وتعديلات ملحوظة في المعدلات العامة للفوائد المصرفية، وتبدلات في توقعات الأفراد فيما يتعلق بمستوى دخولهم الحالية واحتمالات ارتفاعها أو انخفاضها مستقبلاً.
وعلى العموم، وبغض النظر عن المنطلقات النظرية فقد دلت الدراسات الإحصائية والقياسية التي أجريت في عدد من المجتمعات أنه على الرغم من أن الدخل المتاح للمستهلك هو العنصر الأولي والأساسي الذي يتحدد بموجبه حجم الإنفاق الاستهلاكي، فثمة عوامل أخرى تؤثر في مستوى الإنفاق الاستهلاكي بشكل أو بآخر: كالمعدلات العامة للأسعار ولاسيما الفروق بين مستوى الأسعار الجارية وتوقعات تبدلها في المستقبل (أو فيما يتعلق بالمواد المتصلة بالزراعة موسمياً)، وطبيعة توزيع الدخل العام بين الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة إذ لوحظ أن معدل الإنفاق الاستهلاكي يكون أكثر ارتفاعاً في المجتمعات التي يكون توزيع الدخل العام فيها أكثر مساواة، ثم إن هناك العوامل المنبثقة عما بات يعرف بـ«السراب النقدي» money illusion الذي يصيب المستهلك عند حصول تفاوت في التبدلات بين معدل الأسعار والدخل النقدي المتاح، فقد يؤثر ارتفاع الأسعار الاسمي وكذلك زيادة الدخل الاسمي تأثيراً مختلفاً في سلوك المستهلك. كذلك فمن العوامل المؤثرة في الاستهلاك وجود قطاع مصرفي متطور يوفر تسهيلات ائتمانية للمستهلكين (قروض استهلاكية)، ثم إن معدلات الفوائد المصرفية السائدة هي من العوامل المؤثرة أيضاً، كذلك هو الحال فيما يتصل بعنصر الشراء لدى المستهلك إذ إن للموجودات أو للأصول الرأسمالية من أرصدة مصرفية ومطالب مالية وملكية عقارية وموجودات من السلع المعمرة وغيرها التي يمتلكها المستهلك، أثراً في مستوى الإنفاق (وقد بحث الاقتصادي البريطاني بيغو Pigou هذه المسألة بحثاً مستفيضاً)، وهناك أيضاً الانعكاسات الاستهلاكية الناجمة عن الطبيعة الديموغرافية للبلد المعني سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالزيادات السكانية أم في التركيب السكاني وشرائح الأعمار وأثر ذلك في الأذواق وطبيعة السلع المطلوبة، وأخيراً هناك العوامل المتعلقة بطبيعة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الناظمة وبالمستوى التقني للبلد المعني وسرعة تطوره.
الاستهلاك وآثاره في تجديد الإنتاج وتوسيعه
مع أن الاستهلاك هو عملية إتلاف سلع وخدمات فإن لذلك علاقة مباشرة بتجديد الإنتاج وتوسيعه. وعليه فإذا كان الوضع الاقتصادي في البلد المعني لم يصل بعد إلى درجة الاستخدام الكامل لكل الطاقات الإنتاجية المتاحة، فإن أي زيادة في مجمل الاستهلاك تؤدي إلى تجديد الطاقات الإنتاجية وتوسيعها وتقود إلى تحقيق زيادات في الدخل القومي للبلد المعني، وذلك كله إذا كانت كل الشروط الفنية اللازمة متوافرة.
وقد كان كينز من أوائل الذين اهتموا بإبراز هذا الأمر وفي الإلحاح على أهمية الدور الذي يقوم به حجم الطلب الكلي للسلع والخدمات. فقد جاء كينز في نظريته بمفهوم «الميل الحدي للاستهلاك» the marginal propensity to consume وبمفهوم «مضاعف الاستثمار» The investment multiplier [ر. المضاعف الاقتصادي]، وهذان المفهومان هما من ضمن «النظرية العامة» التي قدمها والتي باتت تؤلف ركناً مهماً في علم الاقتصاد الحديث. وقبل كينز تكلم كاهن R.F.Kahn عن مبدأ «المضاعف»، إلا أن طرحه كان محصوراً «بمضاعف العمالة» employment multiplier وليس «بمضاعف الاستثمار». لذلك وانطلاقاً من الإطار النظري الذي وفره كينز تتضح العلاقة بين الاستهلاك من جهة وتوسيع الإنتاج من جهة أخرى. فإذا ما بدئ بإقامة مشروع جديد وجرى تشغيل المزيد من الأيدي العاملة التي كانت عاطلة عن العمل سابقاً، وهذا ما يوفر لها مبالغ جديدة من المال، فإنها تقوم في العادة بإنفاق معظمه على السلع الاستهلاكية مما يزيد من الطلب على هذه السلع في السوق، ثم يدفع المصانع والمنشآت إلى التوسع ورفع الإنتاج لزيادة العرض لمواجهة الزيادة الحاصلة في الطلب. ولما كان هذا التوسع في الإنتاج يتم غالباً عن طريق زيادة الاستثمارات، ولما كانت أي زيادة في الاستثمار تؤدي، وفقاً لقوة «مضاعف الاستثمار» إلى زيادات أكبر في الدخل العام فإن الحركة الأولى تؤدي إلى سلسلة حركات متتابعة في العجلة الاقتصادية. كذلك، فإن الزيادة التي تحصل في الطلب على السلع الاستهلاكية تولّد، ضمن شروط معينة، تغييراً في حجم الآلات والتجهيزات اللازمة لإنتاج السلع الجديدة. ولما كان للتجهيزات الإنتاجية عمرٌ زمنيّ يفوق المرحلة الإنتاجية اللازمة لمواجهة الزيادة المباشرة في الطلب فإنه غالباً ما تكون قيمة الإنفاق اللازم لتوسيع التجهيزات، من أجل جعلها تلائم زيادة الطلب، أكبر من قيمة السلع الاستهلاكية المطلوبة نفسها. لذا، فثمة حركة جديدة تنتج من الإضافات الرأسمالية التي ترفد كتلة الأصول الثابتة المستثمرة أصلاً بغية زيادة الإنتاج لمواجهة الطلب الجديد. ومن هذه الحركة استنتج ما بات يعرف بـ«مبدأ المسرّع»[ر].
وقد استخدم كلارك J.M.Clark، في مطلع القرن العشرين، هذا المفهوم الاقتصادي في تفسير القوى المحركة للتقلبات والدورات الاقتصادية، إلا أن الاهتمام بهذا المبدأ قد تزايد بعد ظهور نظرية كينز إذ لوحظ أن تفاعل «المسرّع» مع «تابع الاستهلاك» يولد حركة تصاعدية ذاتية متنامية في الإنتاج وفي الدخل العام.
الاستهلاك في البلدان النامية
عند معالجة اقتصاديات البلدان النامية، يمكن النظر إلى المسائل المتعلقة بالاستهلاك من زاوية «الحالة الخاصة» إذ إن ما يصح من النظريات الاقتصادية في البلدان الصناعية المتطورة قد لا يصح في البلدان التي هي أقلّ نمواً، كذلك فإن لكل من البلدان النامية معطياتها الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بها. وعلى العموم، فإن البلدان النامية تعاني في العادة تدنياً في مستوى الدخل والإنتاج وغالباً ما يكون اقتصادها معتمداً على القطاعات الزراعية والخدمية، ثم إن المعطيات الديموغرافية والاجتماعية والمؤسساتية في البلدان النامية تختلف عن تلك السائدة في البلدان المتقدمة، لذلك غالباً ما تعاني البلدان النامية نقصاً في رؤوس الأموال القابلة للاستثمار وفي القطع الأجنبي، ويضاف إلى كل ذلك دائماً إشكالات تتعلق ببند أو بآخر من البنود التي يتكون منها ميزان المدفوعات[ر]. وإن هذه المعطيات العامة وما يتفرع عنها من ضغوط وعوامل مؤثرة، ومن حوافز وإمكانات وبدائل، تعطي لمسألة الاستهلاك في البلدان النامية أبعاداً إضافية لا نظير لها في البلدان المتقدمة.
وانطلاقاً من كل هذا، فإن الاستهلاك لا يولد في البلدان النامية القوى الاقتصادية الدافعة نفسها التي يولدها في البلدان المتقدمة اقتصادياً. بل على العكس، فإن جوهر مسألة النمو الاقتصادي في البلدان النامية تكمن في التقليل من الاستهلاك وفي رفع وتائر الادخار للتوسع في بناء الأصول الثابتة المنتجة، وتحقيق أعلى نسبة ممكنة من الزيادة في الدخل القومي. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن معظم البلدان النامية، على خلاف الدول المتقدمة، لا تصنّع معظم السلع التي تستهلكها بل تستوردها من الخارج ولذلك فإن زيادة الاستهلاك في الدول النامية لا تولّد في الغالب نشاطاً في عجلتها الاقتصادية بل تولّد النشاط في اقتصاد الدول الصناعية المصدرة لتلك السلع وتسبب في الوقت نفسه ضغوطاً إضافية في ميزان مدفوعات الدول المستوردة.
وعلى العموم، فإن البلدان النامية تسعى في العادة للحد من الاستهلاك، ولاسيما الاستهلاك الكمالي، وتحاول إيجاد البدائل المحلية للسلع المستوردة وتشجع الادخار والاستثمار وذلك كله بالتخطيط الاقتصادي والاجتماعي وباعتماد السياسات المالية والنقدية الهادفة إلى تحقيق أعلى نسبة من «النمو» الممكن في الدخل من جهة وإلى دفع حركة «التطوير» الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى. وقد حفلت النصوص المتخصصة «بالتنمية» بالمعالجات المتنوعة لكل الجوانب الاقتصادية وغير الاقتصادية المتعلقة بالبلدان النامية ومن ضمنها بناء «النماذج الرياضية» model building المعقدة والقادرة على احتواء «المتغيرات» الكثيرة المواكبة لعملية التنمية والمتفاعلة معها. ويكتفى هنا بالإشارة إلى أبسط هذه النماذج وهو ما يعرف بـ«نموذج هارود دومار للنمو» Harrod Domar Growth Model لأنه يعتمد على التفاعل المبسط «للمضاعف والمسّرع»، الذي سبق أن أشير إليه آنفاً، والذي ينتج منه في ظل شروط معينة نمو اقتصادي متصاعد ومستمر.
الاستهلاك في الجمهورية العربية السورية:
شهدت الجمهورية العربية السورية، وهي من أوائل بلدان العالم الثالث التي حظيت باستقلالها السياسي، نهضة اقتصادية واجتماعية واسعة. ولقد اهتمت الدولة بمشاكل الاستهلاك المختلفة، ولاسيما أن الزيادة السكانية في سورية التي تبلغ (3.7) بالمئة سنوياً هي من أعلى النسب في العالم. ثم إن التطور الذي تحقق في مجال الخدمات، ولاسيما الصحية منها، قد ترك التركيب الديموغرافي يميل باتجاه الكثافة بالأعمار الفتية التي تكون متطلباتها الاستهلاكية في العادة أعلى. لهذا، ولأسباب اقتصادية واجتماعية أخرى مختلفة فإن العبء الاستهلاكي هو عبء كبير نسبياً. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن مجمل الاستهلاك في سورية بلغ في عام 1985 ما يقارب (73.9) مليار ليرة سورية، أي ما نسبته (88.8) بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وأن هذا الاستهلاك تزايد بمعدل سنوي قدره (5.8) بالمئة ووصل إلى حدود (86.8) مليار ليرة سورية في عام 1988 وذلك بالأسعار الثابتة لعام 1985 (أي بعد استبعاد عامل ارتفاع الأسعار الجارية في السوق). كذلك تشير الإحصاءات إلى أن الاستهلاك الخاص يؤلف نحو (84) بالمئة من مجمل الاستهلاك في حين أن الاستهلاك العام يؤلف (16) بالمئة من إجمالي الاستهلاك تقريباً، ولما كان قطاع الدولة في سورية هو قطاع كبير نسبياً، فإن هذه الأرقام تدل على أن استهلاك الفرد مرتفع نسبياً، ولاسيما إذا ما ووزن بينه وبين متوسط استهلاك الفرد في بلدان العالم الثالث المختلفة. وقد راعت «الخطط الخمسية» المتعاقبة مبدأ زيادة الاستهلاك لرفع المستوى المعيشي للفرد، فقد هدفت الخطة الخمسية الخامسة (1981-1985) إلى زيادة مجموع الاستهلاك النهائي من السلع والخدمات بمعدل سنوي قدره (6.9) بالمئة، كذلك هدفت الخطة الخمسية السادسة (1986-1990) إلى زيادة سنوية في الاستهلاك النهائي بنسبة 6.4 بالمئة. إلا أن «الاستراتيجية العامة للاقتصاد الوطني» التي وضعت لعام 2000 كانت واضحة في التفريق بين زيادة الاستهلاك الضروري لرفع المستوى المعاشي للمواطن والهدر والتبذير، لذلك فقد تم اعتماد مبدأ ترشيد الاستهلاك والابتعاد عن تقليد أنماط الاستهلاك السائدة في البلدان الغنية وجعل الاستهلاك متناسباً مع طبيعة الاقتصاد السوري ومعطياته المختلفة. لذا فقد جرى تحديد استيراد أعداد كبيرة من السلع لأنها عُدّتْ «سلعاً كمالية» أو لوجود بدائل لها من الإنتاج المحلي، وإن الدولة تقدم دعماً لأسعار عدد من المواد الأساسية كالخبز والرز والسكر والشاي والزيوت النباتية لإيصالها للمستهلك بأسعار مخفضة، وتم فرض ضريبة على «الإنفاق الاستهلاكي التفاخري» تتحقق عند شراء عدد من المواد الكمالية كالحلي الثمينة والمجوهرات والرخام وخدمات الدرجة الأولى السياحية، كذلك جرى تشجيع إنتاج البدائل المحلية لكثير من السلع التي كانت تستورد من الخارج. ولما كانت الجمهورية العربية السورية قد نهجت منهج التنمية الاقتصادية والاجتماعية واعتمدت على التخطيط وفق أولويات معينة وضعت لتخدم قضاياها القومية والمحلية ووفق مبدأ «الاعتماد على الذات» في تحقيق أهدافها الاقتصادية، فقد لجأت إلى تشجيع الادخار وزيادة وتائر الاستثمار وترشيد الاستهلاك. وإن الدولة لجادة في الاستمرار في عملية البناء الاقتصادي وفي تذليل المشاكل المتعلقة بالاستهلاك.