شق مصطلح التعايش السلمي طريقه إلى مجموعة مصطلحات التاريخ المعاصر والعلاقات الدولية سنة 1946 في أثر الحرب العالمية الثانية، وكثيراً ما كان رديفاً أو بديلاً عن مصطلح «الحرب الباردة»[ر] الشائع أو «حمى الحرب» الأقل شيوعاً.
تعود جذور هذا المصطلح إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ يمكن اعتبار الكتاب الشهير الذي ألفه الجنرال البروسي، كارل فون كلاوسويتز (1780-1831) وجعل عنوانه «في الحرب»، ونشر سنة 1831، أول بحث يعالج فيه المفهوم الدال على تعايش سلمي ما بين قوى متزاحمة متصارعة.
إلاّ أن الزعيم السوفييتي لينين كان أول من ابتدع تطبيق المفهوم في الواقع، فقد كانت الحرب العالمية الأولى في أوج احتدامها سنة 1915 حين كان لينين يضع الحواشي لكتاب كلاوسويتز هذا، ويستشهد بما جاء فيه في بعض المواقف الحاسمة في معرض تسويغ انشقاقه عن الأممية الثانية، وانتهاجه استراتيجية الثورة والتمرد، وتنظيمه النشاط العسكري والدبلوماسي للدولة السوفيتية الجديدة؛ وكان يقول إن كلاوسويتز هو أعظم مفكر في فلسفة الحرب وتاريخها. حتى إنّ منظري الاستراتيجية النووية من بعده (استراتيجية الردع) كانوا يستشهدون بكلاوسويتز ليدعموا مفهومهم في موضوع «معادلة القوى»، وهي المعادلة التي مهدت لولادة مقولة «التعايش السلمي» وما تلاها من مصطلح «الحرب الباردة» وما يحمله من مجابهة بين استراتيجيتين في زمن واحد.
وفي الواقع إنّ الحرب الباردة تعني نزاعاً بين أطراف تستنكف فيه عن اللجوء إلى السلاح. كان أول من لمّح في التاريخ إلى مثل هذا الوضع هو الأمير الإسباني خوان مانويل في القرن الرابع عشر، ومن بعد تبناه رجل المال الأمريكي برنار باروخ في بدء سنة 1947، وعمّم نشره الصحفي الأمريكي وولترليبمان. فكان كل منهما إنما يشير إلى المجابهة الأمريكية ـ السوفييتية التي أعقبت، في سنة 1945، انحلال الائتلاف الذي قام في وجه ألمانية الهتلرية. بيد أن تعبير الحرب الباردة طُبِّقَ فيما بعد على النزاع الصيني ـالسوفييتي أيضاً، ثم اتسع معناه فقد قيل عن أحداث فرنسة سنة 1968 إنها كانت حرباً باردة مدنية. أما في الوقائع فقد كان المتخاصمون يحاولون الحصول على أقصى ما يمكن من النفوذ والتفوق عن طريق التهديد أو الدعاية واستخدام الأعمال التدميرية حتى داخل بلاد الخصم أو ضد مصالحه الخارجية، أو إثارة الحروب المحلية أو تشجيعها، مع تجنب المجابهة المباشرة والتحرر الفائق من الانجرار إلى الحرب المباشرة بين الخصمين أو إلهاب فتيل الحرب الشاملة؛ وهذا التحرّز الذي يستبعد الحرب إنما يرمز له بمقولة «التعايش السلمي».
والتعايش هو بالنسبة لحالة السلم ـ أي استبعاد الحرب ـ مثيل لما تعنيه «الحرب الباردة» بالنسبة للحرب الحقيقية: أي إنه بديل عن حالة الحرب، يفرضه منطق الواقع. فقد جعل السلاح النووي من باب الاستحالة تسوية الخلافات بالدم ـ أي بالحرب ـ كما كان يقول كلاوسويتز. لكن هذا التعايش لا يكفي لاستقرار سلام حقيقي بين دول عظمى تعتنق أيديولوجيات على نطاق عالمي. وعلى هذا يصبح التعايش السلمي عبارة عن وجود متزامن لمعسكرين يدركان تمام الإدراك أنه لا يمكن أحدهما، في المنظور من الزمن، تقويض الآخر. ومن هذا المنطلق من عجز أي من الطرفين عن تدمير الطرف الآخر، فإنه لا يعود من الممتنع على الطرفين، مع العنت في خصومتهما، التوصل إلى اتفاقات تعاون فيما بينهما في بعض الميادين، أو حتى قيام نوع من تفاهم ضمني، ضد امتداد خصم كبير مشترك لهما.
وجاء التطور التاريخي للعلاقات بين الاتحاد السوفييتي و«العالم البورجوازي» ـ حسب التسمية السوفييتية ـ يعطي المثال الأول على كنه هذا التعايش. فإن خيبة حلم السوفييت بانتشار مذهبهم في أنحاء المعمورة بسرعة البرق، من جهة، وإخفاق محاولات الدول الرأسمالية للقضاء على النظام السوفييتي في مهده، من جهة أخرى، قادا آنئذ إلى تعاون وثيق بين اتحاد سوفييتي كان يبني آنئذ صرح الاشتراكية في بلد واحد وبين ألمانية في عهد نظام جمهورية وايمار. ثم جاء عهد النازية فقلب الموقف رأساً على عقب. فكان اهتمام الزعيم السوفييتي ستالين ينصب على حماية بلاده من عدوان نظام مجاور ناشط يطمح لإخضاع جاره الواسع الغني بالموارد، فلجأ ستالين إلى التحالف مع فرنسة، وكانت آنئذ على رأس الدول الامبريالية، ووجّه الأحزاب الشيوعية المنتشرة في أرجاء العالم إلى التفاهم مع المنظمات والأحزاب البورجوازية التي كانت تناهض الفاشية. وجاءت سنة 1938 فشهدت انقلاباً جديداً في الوضع الدولي. فقد دخلت بريطانية وفرنسة في اتفاق مع هتلر توافقان فيه على اقتطاعه «السوديت» من أراضي تشيكوسلوفاكية، فاعتبر ستالين إبعاد الاتحاد السوفييتي عن هذا الاتفاق بمنزلة حلف موجه ضدّه، وعمد من منطلق الحفاظ على التوازن، إلى عقد ميثاق عدم اعتداء مع ألمانية النازية. بل إنّ ألمانية والاتحاد السوفييتي آنئذ لم يتأخرا عن الاتفاق على اقتسام أوربة الشرقية بينهما، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، فكان الكرملين يتعاون مع الرايخ، وظلّ هذا التعاون قائماً مدى سنتين إلى أنّ أخلَّ العدوان النازي على الاتحاد السوفييتي بالميثاق وبالتوازن الجديد سنة 1941، فأضحى الاتحاد السوفييتي حليفاً لبريطانية والولايات المتحدة الأمريكية، وأعدّ الحلفاء معاً المخططات لتنظيم عالم ما بعد الحرب. لكن هذا التفاهم لم يدم طويلاً بعد أن انحسر الحظر النازي، وخرجت ألمانية من الحرب خاسرة مهدمة.
ولمّا تسلّمت إدارة الرئيس ترومان الحكم بعد موت الرئيس روزفلت، حذّرت من سوء نوايا ستالين ومن مطامعه بالتوسع، وكان ترومان يشعر بالقوة لما امتلكته الولايات المتحدة من قدرة ذرية. ومن أولى أمارات هذه السياسة الأمريكية الجديدة لاحتواء التوسُّع السوفييتي ما أقدم عليه الرئيس ترومان من مساعدة لتركية ضد التهديدات السوفييتية ولليونان لمقاومة النفوذ الشيوعي فيها، ثم انتشال أوربة من أزمتها الاقتصادية التي سبَّبتها ويلات الحرب ونفقاتها بتنظيم منهاج مارشال للمساعدة، ومن بعد تقوية حسّ الأمن فيها بعقد حلف معاهدة شمال الأطلسي، وإعادة تسليح ألمانية الغربية. وبالمقابل، كانت المواقف السوفيتية تزداد تصلباً وتشبثاً ببسط النفوذ السوفييتي على بلاد أوربة الشرقية وتشكيل حلف وارسو، وحصار برلين، ومن بعد بناء جدار برلين ضد النفوذ الغربي، وكذلك تأييد كورية الشمالية في حربها ضد كورية الجنوبية والجيوش الأمريكية الأوربية المتحالفة. كل ذلك كان من مظاهر الحرب الباردة، ضمن إطار مفهوم التعايش السلمي تجنيباً للإنسانية ويلات الحرب الشاملة، فكان الخصوم يحذرون من الانجرار إليها ولاسيما أن الاتحاد السوفييتي كان قد توصل هو أيضاً إلى امتلاك السلاح الذري، وأضحى ما سمي بـ«توازن الرعب» يسير جنباً إلى جنب مع مفهوم التعايش السلمي، بل يملي ضرورة هذا التعايش إملاءً.
وعند وفاة ستالين سنة 1953 تبدل جوّ العلاقات نوعاً ما، وأمكن التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب الكورية وحرب الهند الصينية. وكذلك انتهى احتلال النمسة، وبدا أن تصفية إرث التوتر الذي خلفته عهود ستالين وترومان في طريقها إلى الإنجاز، وقامت آنئذ حركة عدم الانحياز التي انضمت إليها أكثرية بلدان العالم الثالث تنادي بنزع السلاح وتدعو إلى التعايش السلمي واحترام حق الشعوب بتقرير مصيرها والسيادة على مواردها. لكن هذا الانفراج النسبي لم يدم طويلاً فقد شهدت سنة 1956 قمع انتفاضة هنغاريا بالقوة (تشرين الأول 1956) فيما كادت أزمة السويس في تلك الأوقات بالذات ووقوع العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسرائيلي على مصر تعصف بالسلم العالمي. فعادت الحرب الباردة إلى اشتدادها في جميع الأرجاء إلى أن أدت إلى أزمة الصواريخ الروسية التي ركّبت في كوبة (1962)، والحصار الذي ضربته الولايات المتحدة على السواحل الكوبية (عهد الرئيس كندي)، وكانت المجابهة المباشرة تبدو وشيكة، لولا تعقُّل الطرفين، وإيجادهما حلاً وسطاً، كان من شأنه أن يفتتح عهداً جديداً من التعايش السلمي مبنياً على نوع من الهدنة بين العملاقين الأعظمين، فكانا منذ ذلك الحين يجهدان في تجنب أزمة جديدة فادحة بأي ثمن.
على الرغم من النزاع الفييتنامي والصراع العربي الإسرائيلي، انخرطت الدولتان العظيمتان في مفاوضات الحدّ من السباق على التسلح النووي والاستراتيجي. وتزامن هذا الانفراج الجزئي المتجدّد مع خشية الصين ـ وألبانية التي كانت تشاطرها الرأي ـ من أن يكون هذا التقارب بين العملاقين ممهّداً لحلف أمريكي ـ سوفييتي للإبقاء على وضع سيطرتهما الراهن. بيد أن هذه النظرة كانت متسرّعة فقد ظل العملاقان ـ مع هذا التقارب ـ يتزاحمان على السيطرة، فيمد السوفييت يد العون إلى جمهورية فيتنام الديمقراطية ودول المواجهة العربية في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، ولاسيما بعد حرب 1967، ويُقدم سنة 1968 على غزو تشيكوسلوفاكية خشية أن تنقلب رياح الليبرالية إلى نذير بتفكك الامبراطورية السوفييتية، فيما كانت الولايات المتحدة تمدُّ إسرائيل بأحدث الأسلحة وبالأموال، ويزور الرئيس نيكسون بوخارست في آب 1996 ليشجع ميول رومانية على الخروج من دائرة النفوذ السوفييتي، ممّا يعني أن التعايش الذي قام بين البلدين لم يكن يعني نهاية التسابق بينهما، حتى إنّ هذا التسابق كان على من يصعد إلى القمر أولاً وحققت الولايات المتحدة هذاالسبق سنة 1969.
وظلت علاقات القطبين بين مدّ وجذر، تتوتر تارة كما جرى خلال حرب تشرين سنة 1973 واستنفار الأسطول السادس الأمريكي في المتوسط واستنفار فرق سوفييتية لإمكان التدخل السريع، لولا أن مبدأ التعايش السلمي أوجب على الفريقين التفاوض لتجنب المواجهة حتى إنَّهما قدَّما معاً لمجلس الأمن مشروع القرار 338 الذي أمر بوقف القتال والتفاوض على تنفيذ أحكام القرار 242، فكانت سابقة مثيلها في تعاون القطبين في مجلس الأمن دفعاً لشبح الحرب.
ثم جاء عهد غورباتشوف ودعوته للانفتاح (بيروسترويكا)، وتوجّهه للإصلاح الديمقراطي، فتبدلت الأوضاع بدءاً من سنة 1985، ونشطت النزعات الليبرالية والاستقلالية في بلاد شرق أوربة وبلاد البلطيك، فأخذت كل هذه الدول تستقل الواحدة تلو الأخرى عن السيطرة السوفيتية. وانتهى الأمر ببلاد البلطيق بالتحرر التام من الوجود السوفييتي. لكن هذه الإشارات لم تكن إلا مقدمات لتفكك الاتحاد السوفييتي ذاته فأخذت الجمهوريات الداخلة في تركيبه تنفصل الواحدة تلو الأخرى عنه، ولو أنّها دخلت فيمل بعد في تجمع دعي بكمونولث الدول المستقلة، وصار للروس كيانهم الخاص، وهو الأكبر سعة وعدد سكان وموارد من باقي الجمهوريات باسم روسية الاتحادية.
وبذلك لم يعد التنافس الأمريكي ـ السوفييتي هو السمة البارزة في الموقف العالمي. وقد تتمكن الصين بعد زمن يطول أو يقصر من تغيير هذا الوضع الجديد والبروز قطباً ثانياً في معادلة القوى، لكن إمكان حدوث مجابهة صينية روسية قد تقلّص، كذلك تقلّص احتمال قيام حلف أمريكي ـ روسي ضد الصين، في عهد تتحرر فيه التجارة العالمية وينشط دور الأمم المتحدة، ويتجه فيه العالم نحو نظام عالمي جديد.
وقد يقال إنّ المجتمع الإنساني ما فتئ يشهد في كل تطوراته تعاقب الحرب والسلام، وإنّ هذا من سنن الطبيعة التي لا تتغير، وبإمكان أصحاب هذا الرأي من القدريين سوق الأدلة التاريخية المتتالية للتدليل على صحة تشاؤمهم. إلا أنه ليس من الضرورة المحتمة أن يكون الحاضر أو المستقبل تكراراً للماضي. وقد تملي ويلات الحروب التي تعاظمت في العصور الحديثة، لما حملته الأسلحة المتقدمة من طاقات التدمير الشامل، وقد تملي على الجماعة الدولية ضرورة تجنب الحرب بأي ثمن بعد أن ثبت أنها تلحق الأضرار الفادحة بكل المتحاربين بحيث لا تسفر عن غالب ومغلوب فالكلّ، بشراً وموارد وحضارة معرض للتصدع الكامل. وقد يمضي زمن طويل قبل أن يتخلص المجتمع الدولي من الحروب المحلية، أو الخلافات العرقية، ولكن الحرب الشاملة أضحت بحكم المستبعد. وقد تنشأ معادلات جديدة في ميدان التزاحم على النفوذ الاقتصادي والسياسي والعلمي، ويتأخر قيام نظام عالمي جديد مبني على العدل والمساواة والرخاء الإنساني، ولكن الأغلب أن تظل دائرة المزاحمة ضمن حدود التعايش السلمي. فالتعايش السلمي ليس بحد ذاته مذهباً أو عقيدة أو شعاراً بقدر ما هو انعكاس لواقع راهن لا مجال لتجاهله وهو أن الحرب الشاملة، مع مكتشفات العلم والتقنية الحديثة، أضحت تحمل في طياتها بما لا يدع أي شك فناء الحضارة الإنسانية برمتها.