عندما أفكّر في كتابة التّاريخ، أشعر بامتعاض شديد. المهمّة سهلة على من يريد أن يكتب تاريخا افتراضيا، أي ما أسهل أن يخضع المؤرّخ لغواية الأيديولوجيا. هنا فقط لا حاجة للوثيقة، يكفي التحشيد والعناد.
حين يصبح التاريخ أشبه ما يكون برواية أدبية أو سيناريو، يمكن أن نغيّر حقائقه، تلعب السياسة دور الخيمياء المناسب لتحويل الكدورة إلى توهّج: خيمياء التّاريخ.
لا ينفع السياسة إن هي ضلت طريقها، أي إسعافات تتريخية، المعضلة في البنية العميقة، لا يصلح التتريخ الخيميائي ما أفسده الدّهر، حين تفسد البنية يتوقّف الزّمن، ونصبح أمام سرديات فولكلورية. ترى، لمن نكتب تاريخنا؟ من نستهدف بالدّجل؟ ماذا في وسع غبيّ جاك بريفير سوى أن يمحو كل شيء: الأرقام والحروف، ويقول لا للمعلم، نعم لما يهوى.
التاريخ محفوظ في خزائن الأمم، في أرشيف من له أرشيف، لكن من يحفظ المعنى والإنسان إن هو بالفعل فقد آخر شعور بالوفاء للحقيقة؟ إن كائن المستقبل لم يعد يأبه بالتّاريخ، لأنّ السفر في الزمن بات مسألة وقت، كي يتحقق الحيارى من الحدث مباشرة، وتندثر مهنة المؤرّخ والوسيط غير الأمين. سيتحقق ذلك يوما ما، كما يملك من علا ومن تدنّى، أن يخاطب اليوم الرأي العام بالكائن وغير الكائن، فقريبا سيتحقق حلم التعرّف على تلك الآنات التي مضت من تاريخنا الذي بات عرضة للرأي والرأي الآخر.
المجد في التّاريخ حكاية، وهو كإحساس أنطولوجي لا يفتر، سيصبح التتريخ عُصابا، تعويضا مستحيلا، أي قيمة لمجد مفقود تحت الرماد، متصرم، المجد إذن، هو المجد لم يغب.
الأمم التي تصنع تاريخها لا تكذب على ماضيها، بل تنطلق من العدم في تصالح مع الزّمن ووفاء للمكان. التاريخ ليس للتسلية، ليس للعلاج، التّأريخ علم.
ما الوثيقة؟ مرّة أخرى يبدو السؤال ملحّا. الوثيقة أوّلا. لكن ماذا لو أصبحت الوثيقة ثانوية بعد أن تكتمل صورة هذا التاريخ في المخيال، ثم تصبح الوثيقة عبارة عن قرينة فاقدة للإقناع، بل أحيانا تصبح قرينة لفهم وضع تناقضي.
يستهويني اليوم شيء آخر، أعني تأمّل الكتابة التاريخية أكثر من التّاريخ. يهمني تتبع أفعى الأيديولوجيا المجلجلة، حين تلتفّ على الأحداث، كيف يصبح التّاريخ صناعة مشبوهة.
كلّ ما يمكن أن أقول، إنّنا في شرط تاريخي يفرض علينا الفعل في التّاريخ أكثر من الإلتفاف على الماضي. أمّة يتآكل مستقبلها أمام عينيها، لن تتداركه بعمليات استدراكية زائفة. وجب أن نكتب تاريخنا الآن، ونكفّ عن العويل.
لا زال البعض وفيّا لنمط في التأريخ يشبه أقاصيص جحا، نمط يُسلّي البهاليل. ومن قال أنّ الخطاب التّاريخي عانق رشده، من قال أنّنا لا نفعل سوى البحث عن الزّمن الضّائع في لعبة التّتريخ؟
التّواهم في التّسارد، والضحية علم التاريخ، علم بالماضي الذي يجب أن يكون واقعا هناك، وليس نوبة تخييل، الوثيقة أحفور وليست ورقا للفّ الحشيش. التّاريخ والاعتراف، لا ينفصلان. انفث دخان الماريخوانا حتى آخر نفس، ففي نهاية المطاف، سنسافر حتما في الزّمن، ونمسك رُفات الحقيقة.