الأممية internationalism مصطلح يطلق على التعاون الطوعي بين أمم حرة. وقد أخذ في الأيديولوجية الاشتراكية معنى يدل على رفض النزعة العرقية والتعصب القومي ووحدة البروليتارية[ر] العالمية، وكان أول تعبير عملي له تأسيس «الأممية الأولى». ومن المفيد تمييز الأممية من النزعة الكسموبوليتية التي تروج لها الليبرالية الجديدة وتنحو نحواً توحد فيه العالم وتعيد تنظيمه ثقافياً واقتصادياً بما يتفق مع مصالحها.
الأممية الأولى (1864 - 1872)
ولدت فكرة الأممية الأولى في مرحلة نمو الرأسمالية في بلدان أوربة الغربية وتنامي نزعتها، إذ اشتد نضال الحركة العمالية في مواجهة البرجوازية وحكوماتها، وبدأت تتكون منذ عام 1848 نواة لقوة عمالية عالمية تضم اتجاهات إيديولوجية متنوعة، وعبّرت هذه القوة عن وجودها في اجتماع دعا إليه نفر من العمال الإنكليز والفرنسيين انعقد في 28 أيلول 1864 في سانت مارتينير هول بلندن، للاحتجاج على قمع قيصر روسية الثورة البولندية. وقد اشترك في هذا الاجتماع كارل ماركس[ر] وانتخب عضواً في المجلس العام، ثم عضواً في اللجنة الدائمة المنبثقة عنه.
مؤتمرات الأممية الأولى والخلافات الأيديولوجية: كانت الأممية الأولى منذ نشأتها تضم عناصر متباينة في اتجاهاتها الأيديولوجية وهي: أعضاء الاتحادات العمالية الإنكليزية المؤمنة بالاشتراكية التعاونية، وأنصار برودون الفرنسيون الذين يحذرون العمال من العمل في السياسة، وأنصار لاسال من الحزب الاشتراكي الألماني الذي يؤمن بالدولة العسكرية، ثم اللاجئون السياسيون القوميون أمثال الإيطالي «ماتزيني». ثم الشيوعيون الماركسيون. وقد تجلت هذه الخلافات الأيديولوجية بين العناصر المكوِّنة للأممية الأولى في مؤتمراتها، ففي المؤتمر الأول الذي عقد في جنيف 1866م كان الصدام بين الماركسيين وأنصار برودون، بشأن البرنامج الإصلاحي الذي قدمه برودون. وفي مؤتمر لوزان 1867م حقق الماركسيون انتصاراً عندما رفض المؤتمر اقتراح برودون إبعاد العمال عن السياسة. وفي مؤتمر بروكسل 1868م اشتد النزاع بين ماركس وبرودون، وبين ماركس ولاسال. وفي مؤتمر بال 1869م ظهر الصراع بين ماركس وباكونين بشأن مسألة الدولة التي طالب باكونين بإلغائها، وبشأن مسألة إلغاء الإرث، وبشأن طريقة العمل وتنظيم الأممية. وبعد مؤتمر بال كان من المقرر أن ينعقد المؤتمر اللاحق في باريس أو في مايانس 1870م، ولكن هذا المؤتمر لم ينعقد بسبب الحرب البروسية - الفرنسية (1870-1881م) بل انعقد مؤتمر مصغر في لندن سنة 1871م تفاقم فيه الخلاف بين ماركس وباكونين حول المركزية - التي رفضها باكونين، وتمسك بها ماركس - في قيادة الأممية. وبعد إخفاق كومونة باريس (التي قامت في 19 آذار وانتهت في 29 أيار 1871) أخذت الأممية الأولى تتفَتَّتُ بفعل صراعاتها الأيديولوجية. وبعد ذلك انعقد مؤتمر لاهاي 1872، وتمَّ فيه فصل باكونين، ثم الموافقة على تأليف حزب سياسي مستقل للطبقة العاملة. ونجح ماركس في حمل المؤتمر على التصويت لنقل مقر الأممية إلى نيويورك. لكي يمنع خصومه الأيديولوجيين من التأثير في المجلس العام للأممية.
النتائج الاجتماعية والسياسية للأممية الأولى: يرى المؤرخون الماركسيون أن الأممية الأولى حققت ما طمح إليه ماركس وهو إيصال فكره إلى جماهير العمال في البلدان الرأسمالية، ولكن بعض المؤرخين الغربيين يرى: «أن ماركس هيمن عليها بشخصيته القوية». وعلى كل حال فقد نتج عن مؤتمراتها، وصراع تياراتها الأيديولوجية قيام أحزاب اشتراكية جماهيرية، بعضها ذو اتجاه ماركسي، وبعضها ذو طابع يساري فوضوي متطرف.
الأممية الثانية (1889 - 1919)
الأممية الثانية هي الاتحاد العالمي للأحزاب الاشتراكية، وقد تشكلت في مرحلة انتقال الرأسمالية من مرحلة ما قبل الاحتكار إلى الاستعمار. وفي هذه المرحلة نفسها تزايد نشاط الحركة العمالية العالمية التي قامت بإضرابات عامة ما بين (1885 - 1889م) وتألفت عدة أحزاب عمالية، واشتراكية ديموقراطية، ما بين (1875 - 1888م) في ألمانية وفرنسة والنمسة. وكان ممثلو التيارات غير الماركسية يطمحون إلى السيطرة على الحركة العمالية فعقدوا مؤتمراً في باريس في 14 تموز 1889، وعقد الماركسيون، في اليوم نفسه وفي باريس أيضاً، مؤتمراً أعلنوا فيه تحديد يوم العمل بثماني ساعات، وجعل الأول من أيار عيداً عالمياً. وفي المؤتمرات اللاحقة التقى أعضاء مؤتمري باريس من مختلف التيارات الأيديولوجية.
مؤتمرات الأممية الثانية والخلافات الإيديولوجية: كان الشاغل الأساسي في مؤتمر بروكسل عام 1891 ومؤتمر زوريخ عام 1893، ومؤتمر لندن عام 1896 هو «تحديد الاتجاه العام للأممية الثانية، وللأحزاب الاشتراكية المرتبطة بها». وفي مؤتمر زوريخ أعطيت أهمية للعمل السياسي. في هذا المؤتمر قدم بليخانوف تقريراً حول الحرب وضرورة مناهضتها، وناضل الماركسيون بزعامة أنغلز[ر] لإنشاء أممية ماركسية شيوعية، ولكنهم أخفقوا في مؤتمر لندن في حمل المؤتمر على تبني ديكتاتورية البروليتاريا. وفي مؤتمر باريس عام 1900 طرحت مسألة اشتراك الأحزاب الاشتراكية في الوزارات البرجوازية، وأيد هذا الطرح «كاوتسكي». وقدمت روزا لوكسمبورغ اقتراحاً طلبت فيه من الأحزاب الاشتراكية أن تعارض في البرلمانات الاعتمادات العسكرية للحرب الاستعمارية. وفي مؤتمر أمستردام عام 1904 أدينت النزعة الإصلاحية، ورفض المؤتمر الاشتراك في الحكومات البرجوازية، كما قرر أيضاً ضرورة التكتل في حزب واحد لتكوين جبهة قوية ضد الرأسمالية.
وفي مؤتمر شتوتغارت عام 1907 احتلت قضية الحرب المركز الأول في جدول الأعمال. وفي هذا المؤتمر قدم لينين وروزا لوكسمبورغ مشروعاً يقضي بتحويل الحرب الاستعمارية إلى حرب أهلية، ولم يلق المشروع آذاناً صاغية، كما رفض بعض قادة الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية وعلى رأسهم «برنشتاين» اتخاذ أي قرار ضد النزعة العسكرية لحكوماتهم. وفي مؤتمر بال فوق العادي الذي انعقد سنة 1912م بمناسبة حرب البلقان، تبنى المؤتمر مقترحات ضد الحرب. وكان المؤتمر التالي سينعقد أيضاً في بال 1914م ولكن نشوب الحرب، حال دون انعقاده.
اتسمت مؤتمرات الأممية الثانية بالصراع الأيديولوجي بين ثلاثة تيارات: تيار «يميني» تزعمه إدوارد برنشتاين من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني واسكندر ميلران من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الفرنسي، وتيار «وسط» تزعمه كارل كاوتسكي من الحزب الديمقراطي الروسي، وتيار «ماركسي» تزعمه أوغست بيبل وكارل لييبكنخت، وروزا لوكسمبورغ من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني، ولينين من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الروسي.
النتائج السياسية للأممية الثانية: انقسمت الأممية الثانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية، ففي كانون الثاني 1919م ألف لينين الأممية الثالثة من الأحزاب الماركسية - الشيوعية وفي شباط من العام نفسه أسس بعض ممثلي الأحزاب الديمقراطية - الاشتراكية الذين كانوا أعضاءً في الأممية الثانية «أممية بِرن» ولكن بعض أحزاب هذه الأممية انفصل عنها، وأسس في شباط 1921 «أممية فيينة». وفي أيار 1923 توحدت أممية بِرن، وأممية فيينة تحت اسم «الأممية الاشتراكية الشمالية». وأيد بعض قادة أحزاب هذه الأممية السياسة الأنكلو - أمريكية في المماطلة من أجل الوقوف في وجه الفاشية. لكن قواعد هذه الأحزاب أسهمت في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الشيوعيين في النضال ضد الفاشية. وإبان الحرب العالمية الثانية وبعدها عندما توصل بعض مناضلي القواعد إلى قيادة أحزابهم، مع الأحزاب الشيوعية، كما حدث في بولندة وتشيكوسلوفاكية والمجر وبلغارية وألمانية الشرقية. وفي حزيران 1951م عقد الاشتراكيون اليمينيون من بلدان حلف الأطلسي مؤتمراً في مدينة فرانكفورت - على الماين وأنشؤوا «الأممية الاشتراكية» أو ما يسمى بالاشتراكية الدولية التي أخذت على عاتقها توعية الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، والوقوف كلياً مع المعسكر الرأسمالي.
الأممية الثالثة (1919 - 1943م)
الأممية الثالثة هي صيغة مركزية لتنظيم عمل الأحزاب الشيوعية وتنسيق مواقفها وسياساتها في العالم، وقد ولدت إبان الصراع الأيديولوجي بين التيارات الشيوعية في الأممية الثانية، وتهيأت الظروف لتأسيسها بعد نجاح ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسية وبعد حدوث عدة انتفاضات وثورات عمالية في العالم بين عامي 1918 - 1919م وإنشاء عدة أحزاب شيوعية في أوربة وأمريكة اللاتينية. في هذا الظرف تم بقيادة لينين في كانون الثاني 1919م عقد اجتماع ضم ثمانية أحزاب شيوعية ومنظمات ماركسية، ودعا هذا الاجتماع بقية الأحزاب الشيوعية إلى الاشتراك في المؤتمر التأسيسي الأول.
مؤتمرات الأممية الثالثة والخلافات الأيديولوجية: لم يظهر في مؤتمرات هذه الأممية صراعات أيديولوجية واضحة فقد سيطر فكر لينين في المؤتمرات الأربعة الأولى، التي عقدت على التوالي في الأعوام 1919 و1920 و1921 و1922م وأهم القضايا التي تناولتها على الترتيب هي: تبني ديكتاتورية البروليتارية وإقامة أحزاب بلشفية على غرار الحزب البلشفي السوفييتي. والنضال ضد بقايا الديمقراطية الاشتراكية في الأحزاب الشيوعية، ثم دراسة مشاكل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ونجاحاتها. وفي المؤتمرات اللاحقة (الخامس والسادس والسابع) التي عقدت على التوالي في صيف 1924 و1928 و1935، سيطرت الستالينية بزعامة ستالين وتبنت هذه المؤتمرات النضال من أجل بَلْشَفة الأحزاب الشيوعية، والنضال ضد الفاشية والتروتسكية والديموقراطية الاشتراكية. يضاف إلى ذلك أنه في المؤتمر السادس اتخذ قرارٌ بدعم الثورة الصينية، وفي المؤتمر السابع حين لاح في الأفق شبح الحرب العالمية الثانية، دعا المؤتمر إلى ضرورة التفاهم مع الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية للنضال ضد الفاشية.
كان المؤتمر السابع الذي انعقد في موسكو عام 1935م آخر مؤتمر تعقده الأممية الشيوعية - أي الأممية الثالثة - وفي أيار 1943م صادقت هيئة رئاسة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية على قرار حل الأممية الشيوعية. وذلك لأن هذا الشكل التنظيمي للحركة الشيوعية الذي كان يستجيب لمقتضيات المرحلة الأولى لنهوض الحركة الشيوعية لم يعد يتطابق مع المرحلة الجديدة التي شهدت ظهور أحزاب شيوعية في أغلب بلدان العالم.
النتائج السياسية للأممية الثالثة: نجحت الأممية الثالثة في بلشفة الأحزاب الشيوعية على غرار الحزب الشيوعي السوفييتي، وأسهمت في إيجاد أحزاب شيوعية جديدة في بعض بلدان المعسكر الرأسمالي، لكنها بعد وفاة لينين رَسَّخت الستالينية في تكتيك الأحزاب الشيوعية واستراتيجيّتها.
الأممية الرابعة
بعد المؤتمر الخامس للأممية الثالثة بدأ الصراع يتجلى في الاتحاد السوفييتي بين ستالين من جهة، وتروتسكي وزينوفييف وبوخارين من جهة أخرى، بشأن مسألتين، الأولى هي: هل يمكن بناء الاشتراكية في بلدٍ واحد - هو الاتحاد السوفييتي - في ظل التطويق الرأسمالي؟ كان تروتسكي على عكس ستالين، يرى أن ذلك غير ممكن. أما المسألة الثانية فهي: الموقف من الثورة الصينية، ويتهم تروتسكي في الأدبيات الماركسية السوفييتية بأنه وقف من الثورة الصينية موقفاً انتهازياً. لكن ستالين كان يرى أن الثورة الصينية ثورة فلاحية وبرجوازية ولكنها ضد الاستغلال والاستعمار، ويمكن أن تتحول إلى ثورة بروليتارية جماهيرية بقيادة حزب شيوعي يجب على الماركسيين الصينيين إيجاده، ورأى أن موقف تروتسكي انتهازي يلحق الضرر بهذه الثورة، لهذا فصلت اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة في كانون الأول 1926م كتلة «تروتسكي - زينوفييف» من صفوفها. ورد تروتسكي على ذلك بتشكيل الأممية الرابعة عام 1938م، ومقرها في باريس، وسميت «الأممية التروتسكية». رأى تروتسكي أن الخلاص غير ممكن إلا بالثورة الاشتراكية الأممية، بالثورة الدائمة، التي يجب أن تكون قومية وأممية، ولا يجوز بقاء الثورة ضمن إطارها القومي. والحزب هو منظم الثورة العالمية، والديكتاتورية هي ديكتاتورية الحزب. وقد وافق المؤتمرون على مقترحات تروتسكي، واتخذت هذه الأممية لها فروعاً في مختلف البلدان، إلا أنها بقيت من دون تأثير، وانقسمت على نفسها بعد اغتيال تروتسكي عام 1940م، ولا تزال لها فروع في بعض البلدان حتى اليوم.
إذا استثنيت الأممية الرابعة - التروتسكية - الضعيفة التأثير في الحركة العمالية العالمية، و«الأممية الاشتراكية» - أممية فيينة - جاز القول إنه لا يوجد حالياً - بالمعنى الذي سلف عن الأمميات - تنظيم للحركة العمالية العالمية، فبعد أن حلت الأممية الثالثة نفسها عام 1943، أخذت الأحزاب الشيوعية والمنظمات التقدمية على عاتقها قيادة الحركة العمالية. وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت بعض التنظيمات التي يمكن أن يضفى عليها طابع أممي (كاتحاد الطلاب العام العالمي، واتحاد المعلمين العام العالمي، واتحاد العمال العام العالمي).