عندما دفعت أميركا حكومة أوكرانيا الى الخروج من غير مبرّر من اتفاقات مينسك وتشكيل استفزاز مقصود لروسيا كانت تريد أن تضع روسيا أمام أحد خيارين إما السكوت والقبول بتهديدات أمنية واضحة تترجم لاحقاً بوجود الحلف الأطلسي على حدودها بانضمام أوكرانيا إليه مترافقاً مع نشر منصات وقواعد للصواريخ والقواعد العسكرية في شرقي أوروبا، او الرفض ومعالجة الوضع بعمل عسكري يقود الى خروج روسيا على أحكام القانون الدولي العام باحتلال دولة مستقلة ثم إغراقها في وحول أوكرانيا بما يذكر بحالة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، حيث كان التورّط الذي ساهم في تفككه.
بيد أنّ الرئيس الروسي بوتين خرج عن التوقع الأميركي في الخيارين أعلاه وقام بما يفاجئ أميركا ويسحب بعض ما كانت تهدّده به من أوراق، وخاض معركته بحكمة وحنكة بعدما ألقى الحجة على الأطلسي وطلب منه رداً على الهواجس الأمنية الروسية التي لا تستطيع روسيا التنازل عنها او المساومة عليها لتعلقها بالأمن القومي الروسي بشكل عميق، فلم يستسلم كما هو التوقع الأول ولم يغامر عسكرياً ويحتلّ دولة مستقلة ذات سيادة وينفذ عدواناً عليها، بل قام بتنفيذ خطة أخرى جمع فيها السياسي مع الأمني والعسكري ودفع جمهوريتي إقليم الدونباس (دونيتسك ولوغانسك) الى الانفصال عن أوكرانيا وإعلان استقلالهما الذي سارع بوتين الى الاعتراف به وأتبعه بمعاهدة تعاون وأمن مشترك يسمح للقوات الروسيّة بالعمل على أراضي الدولتين المستقلتين حديثاً بما يتطابق مع أحكام القانون الدولي العام.
في هذا السلوك نقل بوتين المأزق والفخ وبدلاً من أن يكون منصوباً لروسيا جعله منصوباً لحكومة كييف التي وجدت نفسها أمام خيارين إما القبول بالأمر الواقع وبعد ان خسرت جزءاً من أراضيها كما خسرت شبه جزيرة القرم سابقاً، او المجازفة الى الردّ العسكري مع تحمّل تبعاته القاسية مع ابتعاد فرص النجاح في المواجهة. وبالفعل اختارت الحلّ الثاني وهو ما كان بوتين قد استعدّ له، حيث انّ جمهوريتي (دونيتسك ولوغانسك) الحديثتي الاستقلال سارعتا الى طلب الحماية الروسية بموجب الاتفاقية الحديثة المعقودة بينهما وبين روسيا التي لم يتردّد رئيسها لحظة واحدة في الاستجابة للطلب وإطلاق «عملية عسكرية خاصة رشيقة» للدفاع عن الجمهوريتين ولكسر التوجه الأوكراني لاستعادتهما.
لقد تصرّف بوتين بشكل يمكن تفسيره او تأويله بأنه هجوم في معرض الدفاع عن دولة اعترف باستقلالها وتربطه معها معاهدة تعاون ودفاع مشترك، ودفع بقواته المسلحة مع إدراكه لاختلال الميزان العسكري لصالحه (بمقدار عشرة أضعاف) خاصة أنه على يقين بانّ الجيش الأوكراني لن يصمد في الميدان وانّ بعض وحداته لن ينفذ أوامر حكومة كييف لأكثر من اعتبار، وأنّ الأطلسي عامة وأميركا خاصة لن يجازفا بإرسال قوات عسكرية منهما لقتال روسيا، أما قول رئيس أوكرانيا بأنه في صدد بناء تحالف دولي لقتال روسيا فهو قول غير واقعي وغير قابل للإعمال، خاصة أنّ الدول التي تفكر أوكرانيا بانضمامها اليها تخشى من ردّ فعل روسيا التي لن تبدي تساهلاً او تسامحاً مع أيّ عمل يمسّ بأمنها القومي او بأمن قواتها في الميدان.
والآن ومع الأيام الأولى للعملية العسكرية الروسية في إقليم الدونباس على الحدود الروسية الغربية سيكون هناك في الذهن أكثر من سؤال حول مدى العملية ومدتها ونتائجها والمتأثرين بها وأخيراً تداعياتها على العلاقات الدولية والنظام العالمي الذي عملت ولا زالت تحلم أميركا بان يكون أحادي القطبية بقيادتها.
فمن حيث المدى والمدة فإنه من المنطقي ان تشمل العملية كامل أراضي إقليم الدونباس سواء في ذلك ما هو تحت سيطرة جمهوريتي (دونيتسك ولوغانسك) او خارج سيطرتهما، فهذا الإقليم بشكل خاص يصفه بوتين بأنه يشترك مع روسيا بالدين والتاريخ واللغة الواحدة ما يعني أنّ حمايته والدفاع عنه تعني بالنسبة لروسيا الدفاع عن النفس واستراتيجياً هو دفاع فعلي عن روسيا التي لن تقبل بتطويقها بالحلف الأطلسي مهما كان الثمن. اما الاندفاع خارج الإقليم والدخول الى الاراضي الأوكرانية فإنه متوقف على التصرف الأوكراني، فروسيا لن تسمح باستدراجها الى حرب استنزاف عبر خطوط تماس ولا يمكن ان تتقبّل فكرة الوقوع في حرب من الجيل الرابع ومواجهة خلايا الإرهاب او حرب عصابات وستكون مضطرة لوضع كلّ ثقلها لحسم سريع للمواجهة عبر تدمير البنى التحتية العسكرية الأوكرانية وتحييد سلاح الجو وتدمير او شلّ المنظومات الصاروخية وحرمان الجيش الأوكراني من أيّ إسناد ناري ما يؤدّي الى كشفه ويعزز نزعة الاستسلام لديه خاصة أنّ روسيا دعته الى إلقاء السلاح حفاظاً على الأرواح لان لا طائل من مواجهة محسومة النتائج.
أما من حيث المشاركين او المتدخلين في هذه الحرب، فإننا نكرر ونؤكد على قولنا بأننا نستبعد إقدام أميركا خاصة والأطلسي عامة على إرسال قوات تقاتل الى جانب الجيش الأوكراني الذي سيكون انهياره في الميدان أكثر توقعاً واحتمالاً من صموده فيه لاعتبارات عسكرية مادية ومعنوية أيضاً، انما يمكن ان تحفظ أوروبا وأميركا ماء الوجه حيال حكومة كييف بإرسال الأسلحة والذخائر والمساعدات العسكرية الأخرى التي نعتقد بانها لن تصل الى يد من سيستعملها، اما الحلف الدولي الذي يحلم الرئيس الأوكراني به فإني أعتقد بأنه لن يقدم له اكثر من طائرة تحمله من كييف الى مكان آمن حتى ينجو من القصف الروسي بالصواريخ العالية الدقة والفائقة القوة التدميرية والتي بدأت موسكو باستعمالها.
وفي المراحل نعتقد انّ روسيا ستكتفي عسكرياً في مرحلة أولى بالسيطرة على كامل إقليم الدونباس ثم تتوقف وتقيم حزاماً دفاعياً حوله وتنتظر نتائج عملياتها التي قد تكون واحداً من ثلاثة احتمالات نذكرها ادناه مع استبعادنا الآن لتطور المواجهة واندفاع القوات الروسية لاحتلال كامل الأرض الأوكرانيّة مع ما في ذلك من مخاطر قد تقلب المشهد في غير مصلحتها، اما الاحتمالات حاضراً فهي:
ـ الاول: انقلاب سياسيّ في كييف، اذ قد يؤدي الضغط العسكري في الميدان الي تحرّك أطراف داخلية في كييف مستغلين هزيمة الرئيس عسكرياً في الدونباس والإقدام على تشكيل حكومة ترضى عنها موسكو وتتعامل مع المسألة بشكل واقعي يناسب موسكو.
ـ الثاني: هزيمة عسكرية تنزلها القوات الروسية بالجيش الأوكراني الذي لن يجد من يقف معه في الميدان، وهنا قد نتصوّر العودة بأوكرانيا الى الحال الذي كانت عليه قبل الانقلاب الأخير الذي جاء الى الحكم بمن تسمّيهم موسكو بالنازيين الجدد.
ـ الثالث: تعذّر الحسم العسكري وتعثر العمل والتغيير السياسي ما يقود الى المراوحة وفوضى في الداخل الاوكراني يقابله إحكام السيطرة على إقليم الدونباس في كامل الأراضي التي تنتشر فيها القوات الروسية التي يبدو انها على يقين بأنّ أحداً من الخارج لن يجرؤ على الاعتداء عليها في الدونباس او عبر الحدود الروسية مع أوكرانيا.
ـ إحياء الحلّ السياسي الدولي من النقطة التي وصلت الأمور اليها ميدانياً، حلّ يضمن لروسيا مصالحها الأمنية والاستراتيجية، مع ما في هذا الأمر من صعوبات حالياً.
وأخيرا لن يغيب عن البال الأثر المؤكد لهذه العملية على العلاقات الدولية والدفع أكثر نحو النظام العالمي المتعدد المجموعات والأقطاب. وهذا ما عبّرت عنه الخارجية الأميركية عندما أفصحت عن هواجسها من “انّ الصين وروسيا تعملان على تطوير نظامهما العالمي الخاص بهما معاً وهو نظام غير ليبرالي ويتناقض مع النظام الذي بنته الدول في العقود الماضية”، نظام هو بالفعل بات حقيقة ستتأكد في الواقع ولكن ليس كما تدّعي أميركا بل خلافاً لظنها وتوقعها، تطوّرات قادمة ومتوقعة سترخي بظلالها على أكثر من مسرح عمليات من مسارح الصراع الدولي وفي طليعتها الشرق الأوسط، وتحاكي في مضامينها فكرة الهزيمة الغربية أمام قوى الشرق الصاعدة.