1- عشتُ سنواتٍ في أبو ظبي كنائب سفير، ثم كرئيس بعثة.. وبِحُكم عملي كانت هناك لقاءات مع كل شيوخ آل نهيان الذين يشغلون مواقع وزراء في الدولة، وذلك في مناسبات متعددة.. بدءا من رئيس الدولة الشيخ خليفة، ومرورا بولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد.. الخ..
فهُم مشهورون بالكرَم، وبِالانتماء العروبي الذي لا يُمكن التشكيك به.. ولكن المصالح السياسية لا تعرفُ مبادئ..
كنتُ أشعرُ بارتياح تجاههم كعُرُوبي، ولاحترامهم لي، ولِما لمستهُ لديهم من تواضُع، وخاصّة تِجاهَ أبناء شعبهم ومدى اهتمامهم بهذا الشعب.. وكنتُ أتندّرُ، لماذا مسؤولي بلدنا ليسوا بهذا التواضُع والقُرب من الناس؟.
وسأتطرقُ لهذا المثل:
حينما قام نائب الرئيس في حينه (فاروق الشرع) بزيارة لأبو ظبي في أواخر أيار 2006 ، كان على موعدٍ في اليوم الثاني مع الشيخ محمد بن زايد الساعة الثالثة ظهرا، ووصلَ على الموعِد مع أعضاء الوفد، وكُنتُ من بينهم كقائمٍ بأعمال السفارة.. لم يكُن محمد بن زايد في الاستقبال ولا حتى ينتظر في المضافة التي أدخلونا إليها، وانتظرنا أكثر من عشرة دقائق إلى حينِ قدومهِ، وهذا وقتٌ ليس بالقليل حينما تكون في حالة انتظار.. وحينما دخل للمضافة تأسّف وصافحَ الجميع وقال أنّ سبب تأخُّرهِ هو اجتماعه مع بعض المواطنين والإصغاء إلى طلباتهم وهمومهم.. وأنّ هذا عُرفا مُنظّما يقوم به كل يوم ثلاثاء.. فسألهُ الشرع: المواطنين من كل الإمارات أم فقط من إمارة أبو ظبي؟. فأجاب من كل الإمارات..
هل من مسؤول سوري بخُمسِ حجم محمد بن زايد يلتقي مع مواطن إن لم يكُن مدعوما أو قريبا؟.
2- كنتُ ألمسُ أن الرُعبُ يُسيطرُ على كل المسؤولين الإماراتيين من إيران، ومن برنامجها النووي وصناعاتها العسكرية الصاروخية، وهذا لم يكُن سِرّا.. ويرون في ثورتها وأهدافها خطرا عليهم وعلى كل الخليج.. ويُزيدُ من خشيتهم تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين، في الماضي والحاضر, وليس أدلُّ على ذلك من تصريح قائد مقر خاتم الأنبياء، التابع للحرس الثوري، اللواء غُلام علي رشيد، في 25 أيلول 2021، من أن قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، كان قد أبلغَ قادة القوات المُسلّحة الإيرانية قبل ثلاثة أشهر من اغتيالهِ، أنهُ قام بإنشاء محورٍ من ستة جيوش خارج الأراضي الإيرانية، يبدأ من الحدود الإيرانية ويصل إلى حدود المتوسط.. وأنه في حال أراد العدو استهداف نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، فعليه أن يواجه هذه الجيوش أولا.. وأوضح قائد مقر خاتم الأنبياء أن هذه الجيوش هي: (حزب الله في لبنان، وحركة المقاومة الإسلامية ــ حماس ــ والجهاد الإسلامي في فلسطين، وقوات أنصار الله ــ الحوثيون ــ في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، والجيش السوري.. وأضاف اللواء رشيد إن هذه الجيوش هي “القوة الرادعة أمام الاعتداءات على إيران”) ..
التصريح موجود على غوغل لِمن يرغب بالتأكُّد منه..
3- في آخر تشرين أول 2005، بعد بضعة أشهُر من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصل(الراحل) وليد المعلم إلى أبو ظبي، في إطار جولة خليجية، وكان نائبا لوزير الخارجية، ويحمل رسالة لرئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد.. وكان شهر رمضان في أواخره، فدعاهُ في اليوم التالي أوّل تشرين ثاني، وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد إلى مائدة الإفطار، وكنَّا بِرفقتهِ السفير ونائب السفير حينها( أي حضرتي) .. وخلال الفطور جرى حديث طويل عن سورية ولبنان والمنطقة.. وفي نهاية الحديث توجّهَ المُعلِّم للشيخ عبد الله قائلا: أنتَ صديق للرئيس بشار الأسد.. فماذا تقولُ له؟. فأجاب الشيخ عبد الله على الفور: أقول لهُ أن يبتعد عن إيران، فنحن نعرفهم أكثر، وأن ينفتح على شعبه..
4-إذا كل تفكير أبو ظبي كان يتركّزُ على كيفية مواجهة ما يصفونهُ بالخطر الإيراني، ومن ثمّ برز لهم خطر الأخوان المسلمين المدعومين من تركيا.. وحاول شيوخ أبو ظبي جمْع المتناقضات.. فمِن جهة يتقربون من سورية، ومن جهةٍ أخرى يُصنِّفون حزب الله (إرهابي) وهو أكبر حليف وثيق لدمشق.. يتحالفون ضد تركيا ويرسلون لها عشرة مليون دولار مساعدة إنسانية.. يتجاهلون احتلال إسرائيل للجولان السوري ويقيمون أوثق العلاقات معها، ويُولِّفون على دمشق..
5-فعلى صعيد الإستراتيجية الإماراتية إزاء إيران، سعت أبو ظبي للتصدِّي للأحزاب والتنظيمات الموالية لإيران في المنطقة، في فلسطين واليمن ولبنان، وصنّفوا حزب الله بالإرهابي، وضغطوا على دمشق لفك الارتباط بإيران، ولكن كل ذلك لم يُحقق الغاية.. فاتّجهوا صوب إسرائيل (وهذا غير مُبَرّر)وأقاموا معها هذه العلاقات التي تجاوزت كل التصورات، ووصلت لدرجة التنسيق العسكري، فزار قائد القوات الجوية الإماراتية، اللواء الطيار ابراهيم ناصر العلوي إسرائيل في 25 تشرين أول 2021 ، لحضور مشروع عسكري إسرائيلي، وهو يعلم أن هذه القوات الإسرائيلية التي يحضر تدريباتها، هي من تحتل أراضٍ عربية سورية وفلسطينية ولبنانية.. وستقومُ باعتداءات على الشعب الفلسطيني ربما بعد انتهاء التدريبات مباشرة..
6-وعلى صعيد الإستراتيجية الإماراتية إزاء تركيا، الداعمة للأخوان المسلمين الذين تخشاهم الإمارات أيضا، أخذت أبو ظبي بِمحاربة الأخوان المسلمين في كل مكان، في مصر وتونس وليبيا والسودان.. الخ..
وبادرت بالتقرّب من كافة الدول التي لها علاقات متوترة مع تركيا، من مصر إلى قبرص إلى اليونان إلى سورية.. وبذات الوقت تتودّد لتركيا وتُقدِّم عشرة مليون دولار للمساهمة في إعادة تأهيل المناطق التركية التي تضررت من حرائق الغابات والفيضانات التي ضربت تركيا مؤخرا، تحت شعار تخفيف حدّة التداعيات الإنسانية، وكأن تركيا تحتاج للمساعدات، وليس سورية هي من تحتاج لهذه المساعدات بعد كل حرائق الجبال والغابات..
7-والشيخ عبد الله وصل إلى دمشق يوم الثلاثاء 9/ 11/2021 ، قادما من قبرص حيثُ تسعى الإمارات أن يكون لها دورا شرق المتوسط، في مواجهة أنشطة تركيا أيضا.. ولذلك كان اللقاء الرباعي بين اليونان وقبرص وإسرائيل والإمارات، في شباط 2021 ، في دافوس القبرصية، وتناولَت المُباحثات المصالح الإستراتيجية الإقليمية والملفات الاقتصادية والأمنية وتطوير القطّاع السياحي.. والإمارات ليست دول متوسطية.. وما زيارة الشيخ عبد الله إلى قبرص في 9/11/2021 قبل وصولهِ لدمشق، إلا لمتابعة تلك القضايا..
8-وهكذا ابتعدت الإمارات عن روابط العُروبة، التي اشتهرت بها سابقا، لاسيما في زمن الراحل الشيخ زايد..
فماذا عليها أن تفعل كي تُمرِّر هذه العلاقات التحالُفية الوطيدة مع إسرائيل، وهي تعلمُ مدى الغضب الجماهيري العربي( وأقول الجماهيري وليس الرسمي)؟..
كان لا بُدّ أمامهم من التقرُّب والاقتراب من دمشق، الدولة العروبية التي ما زالت في حالة عداء مع إسرائيل، والعضو المحوري في محور المقاومة، وذلك بهدف التغطية على تحالفهم مع إسرائيل.. فحينما دمشق تغضُّ الطرف عن هذا التحالُف الإماراتي الإسرائيلي، ولا تفضحهُ وتُفنِّدهُ سياسيا وإعلاميا، وتُحرِّض ضدّهُ فحينها يبقى الجميع صامتون، وحتى إيران تُخفِّف من لهجتها.. وهكذا تنتصر سياسات أبو ظبي..
ولذلك شاهدنا كيف أنّ أبو ظبي كانت تقترب من دمشق قبل زمنٍ من إقامة العلاقات مع إسرائيل في آب 2020 ، كتمهيدٍ للأرضية.. وسارعت بها بعد ذلك بموازاة الُمسارَعة في التطبيع مع إسرائيل.. وهذا بات واضحا اليوم أنه لم يكُن لوجهِ الله، وإنما لشراء صمت دمشق عن التطبيع المُتجاوِز لكل الحدود والتوقعات، بينما هناك أرضا سورية مُحتلّة، حتى لا نقول فلسطينية ولبنانية..
هل نجحت أبو ظبي في ذلك؟. يبدو نجحت.. فسورية لم يصدُر عنها أي موقف رسمي ينتقد علاقات التطبيع بين أبو ظبي وإسرائيل، في أي وقت.. وتجاهلت كل هذه العلاقة الإماراتية الإسرائيلية..
بل كم من أنباءٍ تحدثت عن أن أبو ظبي تقوم بدورٍٍ ما لشدِّ سورية نحو إسرائيل وإبعادها عن إيران.. ويبدو أن أبو ظبي تقوم بدور العرّاب في المنطقة العربية كلها للتطبيع مع إسرائيل دون أي حل سياسي للقضية الفلسطينية، ودون انسحاب إسرائيل من الجولان السوري..
9-وزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله، هو ذاته من طالبَ الرئيس بشار الأسد بالتنحِّي خلال ما يُعرفُ بمؤتمر( أصدقاء سورية) المُنعقِد في تونس في 24 شباط 2012، وفي مناسبات أخرى..
صحيحٌ أن الإمارات لم تكُن بِشدّة السعودية وقطر في دعمها للمعارضة المسلحة، ولكنها كانت ضد “الحُكم” السوري خطابيا وإعلاميا وسياسيا ودبلوماسيا، وتُراهِن على إسقاطهِ..
وشاركت مع الولايات المتحدة في دعمِ وتدريب “قوات سورية الديمقراطية”، وقدّمت أموالا لِما يُعرَفُ بالجبهة الجنوبية، ودعمت ما يُعرف بِتيار الغد السوري، وجناحهِ العسكري المُنخرِط مع قوات سورية الديمقراطية.. وشاركت في التحالُف الذي شكّلتهُ الولايات المتحدة في سورية عام 2014 لِمحاربة داعش، وكانت على تواصُل مع مركز العمليات العسكرية في عمّان المعروف باسم (موك MOC) ومن خلالهِ قدّمت الدّعم المادي..
إذا الإمارات تتحمّل مسؤولية في الدّمار السوري، ومن هنا من حق كل ذوي الشهداء في سورية، وأهالي المُصابين والجرحى في هذه الحرب، أن يُطالِبوا دولة الإمارات بدفعِ تعويضات لكل أولئك، وبِما لا يقلُّ عن عشرة آلاف دولار لكل أُسرةٍ فقدت أحد أبنائها، ولكل مُصابٍ ومُشوّهٍ وجريح حرب..
سورية بِحاجة للإمارات لأسبابٍ عديدةٍ، ولكن الإمارات التي تخشى على أمنها الوطني، بحاجةٍ إلى سورية أيضا لكل الأسباب المُشار إليها، ولذلك إذا ما طالبَتها القيادة السورية بِدفعِ هذه التعويضات، وأصرّت على ذلك، فإنها ستدفع.. ويجب أن تدفع المليارات..
لا ننسى الخطاب السوري سابقا، أنهم لن يُسامِحوا ولن يغفِروا لِكل من ساهموا في تدمير سورية.. فأرواح الضحايا لا تسمح..
10-لا أعتقد أن السوريين لديهم القابلية للترحيب بأي ضيف خليجي، فالإعلام السوري على مدى سنوات غرسَ في الأذهان أن أولئك متآمرون على بلدهم وكلهم شركاء في الدم السوري وتدمير سورية ودعمِ الإرهاب.. فكيفَ سنُقنِعهم اليوم بأن أولئك عادوا أشقاءً وأهلا وأحبّة..
هذا عدا عن أن الناس لا اهتماما لديها إلا بلقمة العيش وساعة ضوء كهرباء، وليتر مازوت وبنزين واسطوانة غاز، ولا يهمُّهم من يأتي ومن يذهب..
ولكن الدولة لها حساباتها، والسياسة أخت (… ).. والبَلوى على اللِّي راح.. وإذا كان الّلحم غالي فالصبرْ رخيص.. فاصبروا.. ولا تنسوا أنّ الخبز والماء أكل العُلماء.. وهذا متوفر للجميع.. فتشبّهوا بالعلماء..
11-عرِفنا عن العرب أنهم يفعلون أقسى وأسوأ وأشنع الأفعال ضد بعض ثم يحلُّونها أخيرا بتبويس اللِّحى، وبيكون اللّي مات مات والّلي عاش عاش..
رحِم الله نزار قباني:
لولا العباءات التي التفُّوا بها … ما كنتُ أحسبُ أنهم أعرابُ
قُبلاتُهم عربيةٌ مَن ذا رأى … فيما رأى قُبَلا لها أنيابُ