جاءت هزيمة "العدالة والتنمية" بزعامة سعد الدين العثماني في المغرب كخاتمة للإسلام السياسي الديمقراطي ونموذجه التركي الذي أراد له إردوغان أن يساعده لتطبيق أجندته.
الإسلام السياسي.. من "العثماني" في المغرب إلى العثماني في تركيا
ها نحن نعود إلى نقطة الصفر بعد تجربة "داعش" و"النصرة" ومثيلاتها في سنوات "الربيع العربي".
بعد عام من الاحتلال الأميركي للعراق، أعلنت واشنطن وحليفاتها الغربية عن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" في قمة "سي أيلاند" في أميركا في 9 حزيران/يونيو 2004، وبدأ الغرب بعدها يسوّق لتجربة حزب "العدالة والتنمية" ذي الأصول الإسلامية في بلدٍ مسلم وديمقراطي وعلماني إلى دول المنطقة وشعوبها، بعد أن دخلت تركيا الجغرافيا العربية عبر البوابة السورية، بعد زيارة الرئيس الأسد التاريخية لأنقرة في 4 كانون الثاني/يناير 2004.
وجاء حديث مهندس السياسة الخارجية آنذاك أحمد داوود أوغلو عن "تصفير المشاكل مع دول الجوار"، ليدفع العواصم الغربية إلى تشجيع أنقرة في مسارها الجديد الذي اكتسب طابعاً عملياً مع ما يُسمى "الربيع العربي". وكشفت قيادات "العدالة والتنمية" منذ البداية عن نيّتها وأهدافها في هذا "الربيع"، وخصوصاً بعد أن شجَّعت واشنطن وحليفاتها إردوغان على أقصى حدود التدخل في المنطقة العربية.
بدوره، استغلّ إردوغان هذا الضوء الأخضر الغربي ليطبق من خلاله أجندته الخاصة عقائدياً وسياسياً وقومياً وتاريخياً، مستحضراً أمجاد الإمبراطورية العثمانية. وجعل كلّ ذلك من تركيا اللاعب الأهم في مجمل تطورات المنطقة العربية، بعد أن تحوّلت إلى طرف أساسي في كل التفاصيل الدقيقة للأزمة السورية التي ساعدت إردوغان على تحقيق الحد الأقصى من أهدافه في المنطقة وعبرها في مناطق عديدة.
وقد أراد إردوغان لها جميعاً أن تساعده لإحياء ذكريات السلطنة والخلافة والإمبراطورية، تارةً بعناصر دينية مذهبية، وتارة أخرى قومية تاريخية، ليصل صداها إلى حدود الصين، حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى المجاورة لأفغانستان.
وجاءت الانتكاسة الأولى للنموذج الإردوغاني عندما أطاح العسكر حكم الإخوان بعد عام من استلامهم السلطة في مصر، مسقط رأس الإسلام السياسي منذ العام 1928، وبعد 5 سنوات من قيام جمهورية مصطفى كمال أتاتورك العلمانية. ولم يحرك إردوغان أي ساكن عندما أطاح العسكر حليفه العقائدي عمر البشير في السودان، وهو ما دفع قائد هذا الانقلاب عبد الفتاح البرهان إلى زيارة أنقرة الشهر الماضي، بعد الحديث عن احتمالات تسليم البشير للمحكمة الدولية.
وجاءت إجراءات الرئيس قيس سعيد التي استهدفت في معظمها حركة "النهضة" وزعيمها راشد الغنوشي، حليف إردوغان وصديقه، منذ أن كان رئيساً لبلدية إسطنبول، لتضع النموذج التركي أمام تحديات جديدة قد تدفع إردوغان إلى إعادة النظر في تحركاته الإقليمية، لولا حساباته العقائدية داخلياً، فهو يسعى للتخلص من إرث أتاتورك حتى يتسنى له أسلمة الدولة والمجتمع، بعد أن سيطر على جميع مرافق هذه الدولة وأجهزتها، فأصبح حاكمها المطلق بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016، وساعده ذلك على تغيير النظام السياسي برمته في نيسان/أبريل 2017، من دون أي اعتراض من حلفائه في الغرب.
وجاءت هزيمة "العدالة والتنمية" وزعيمه سعد الدين "العثماني" في المغرب كخاتمة للإسلام السياسي الديمقراطي ونموذجه التركي الذي أراد له العثماني التركي إردوغان أن يساعده لتطبيق أجندته الدينية والقومية والتاريخية. ولم يخطر على بال أحد أن هذا الإسلام لم يطرح أي برامج سياسية واقتصادية واجتماعية ناجحة وناجعة تكسب ود وتعاطف وتضامن الجماهير التي ابتعدت عن الأحزاب الإسلامية وتجاربها خلال السنوات العشر الماضية، فقد تحول النموذج التركي الذي أراد الغرب تسويقه إلى شعوب المنطقة إلى نموذج كارثي بعد أن قضى إردوغان على الديمقراطية بكل عناصرها، وهو الذي كان يوصي الرئيس الأسد بها قبل ما يسمى بـ"الربيع العربي"، فقد تخلص إردوغان من جميع رفاقه المؤسسين لـ"لعدالة والتنمية"، وفي مقدمتهم عبد الله جول وعبد اللطيف شنار وعلي باباجان وأحمد داوود أوغلو، وهم الآن جميعاً ضده، ويقولون عنه "إنه تحول إلى مستبد وديكتاتوري وفاسد، وخصوصاً بعد أن نجح في تغيير النظام السياسي، ليصبح الحاكم المطلق للبلاد في كل صغيرة وكبيرة".
وقد غابت لغة الديمقراطية في محافل النقاش، لتحل محلها لغة السلاح، كما هو الحال في ليبيا وسوريا، ولم يعد يهم قيادات الفصائل الإخوانية بمختلف اتجاهاتها وميولها سوى مصالحها وعلاقاتها المظلمة مع أطراف إقليمية ودولية، وهو حالها منذ ميلادها عندما كانت في خدمة المستعمر البريطاني، فأصبح الأميركيون أسيادها بعد الحرب الباردة ضد الشيوعية واليسار والعلمانية وقومية عبد الناصر.
يفسر ذلك وقوف واشنطن والعواصم الغربية وحليفاتها الإقليمية خلف جميع الأنظمة الرجعية الاستبدادية التي استنفرت كل إمكانياتها المادية والدينية والطائفية خدمةً لما يسمى بمشاريع الإسلام السياسي، المعتدل منه والمتطرف، وهذا هو حالها جميعاً مع ميلاد حركات المجاهدين الأفغان، ومنها إلى "القاعدة"، فحركة "طالبان". وها نحن نعود إلى نقطة الصفر بعد تجربة "داعش" و"النصرة" ومثيلاتها في سنوات "الربيع العربي".
يبحث الكل لنفسه عن دور بطولي في "الربيع الأفغاني" الذي لم يبدأ بعد، من دون أن يتحدث أحد منهم عن الديمقراطية والحرية، بل وحتى عن أبسط حقوق الإنسان التي غابت عن قواميس السياسة الإقليمية والدولية التي عادت إلى نغمتها التقليدية، وهي تقول "إن الشعوب العربية والإسلامية لا تستحقّ الديمقراطية"، وهي تعتقد أنها على حقّ، لأنها نجحت، وبذكاء، في إلهاء هذه الشعوب عبر أنظمتها العميلة والمتآمرة بقوت يومها، بعد أن حطمت معنوياتها بالقتل والتشريد والدمار خلال سنوات "الربيع العربي" الدموي الذي يسعى البعض لتكراره الآن في أفغانستان، وإلا لماذا هذا التهافت على هذه "الصيدة" الأفغانية بين قطر والإمارات وباكستان وقطر والسعودية، وهي جميعاً رهن الإشارة الأميركية؟ ولمَ قال وزير الدفاع خلوصي آكار منذ يومين: "إذا كانت أميركا تريد أن تبقى في الشرق الأوسط، فما عليها إلا تتعاون مع أنقرة، لأنها حليف قوي وفعال وموثوق به، وتأثيرها يزداد يوماً عن يوم في المنطقة والعالم"؟
هذا هو حال الأنظمة الأخرى في المنطقة التي تتسابق في ما بينها لإثبات ولائها لواشنطن التي هزمت في كلِّ مكان، وآخر مثال على ذلك سوريا، وليس أفغانستان، فقد كانت سوريا، وما زالت، هدفاً لكلِّ المؤامرات الإقليمية والدولية التي سقطت على أسوار دمشق وسقطت معها كلّ نماذج الإسلام السياسي، من الاعتدال، إلى التطرف، فالإرهاب!