منذ الإعلان عن هذا الكيان الإسرائيلي عام 1948 حدد قادة الحركة الصهيونية وحكومات إسرائيل عدداً من أهم عوامل القوة التي تضمن بقاء هذا الكيان وتحقيق سياسته التوسعية ومن بين هذه العوامل «استمرار هجرة اليهود من العالم إلى إسرائيل وتأمين الدعم الدائم من أكبر القوى العظمى أي الولايات المتحدة واليهود الأميركيين لأنهم يشكلون أكبر جالية يهودية في العالم».
وإذا نظرنا إلى هذين العاملين اليهوديين ومدى تلبيتهما لضمان بقاء إسرائيل في الظروف الراهنة، سنجد أولاً أن عمليات تهجير اليهود إلى فلسطين المحتلة بدأت خلال السنوات العشر الماضية تسجل انخفاضاً متزايداً سنة تلو أخرى، وسنجد ثانياً أن اليهود الأميركيين أصبح مؤشر دعمهم وتبنيهم للسياسة الإسرائيلية ينخفض بشكل متواصل، وهذا على الأقل ما يؤكده رئيس منظمة «الكونغرس اليهودي العالمي» رون لاودر في رسالة تحذير نشرها في صحيفة «يديعوت أحرونوت» بالعبرية يوم أمس تحت عنوان يخاطب فيه قادة الحركة الصهيونية وحكومة تل أبيب «استيقظوا لأن إسرائيل بدأت تفقد يهود العالم».
يقول في مقدمته: «إن الحلف اليهودي غير المقدس بين اليمين المتشدد في تل أبيب واليسار اليهودي المتشدد في الولايات المتحدة سيؤدي إلى مرحلة يتشكل فيها أخطر هجوم نشهده على إسرائيل».
ويسرد مثالاً على انخفاض تأييد اليهود الأميركيين لإسرائيل فيقول: «إن شابة يهودية أميركية مهمة دعيت في الآونة الأخيرة إلى عشاء في مدينة بروكلين قرب نيويورك (يقيم فيها كثيرون من اليهود) وكان نصف الحضور من اليهود وسادت في النقاش مواقف علنية معادية لإسرائيل وحين امتنعت الشابة عن التجاوب مع هذه المواقف سألها الحضور عما إذا كانت صهيونية فأجابت بنعم فطلب منها الحضور مغادرة القاعة»، ويضيف: «وهذه القصة الصغيرة تشكل أكبر القصص لأنها واحدة من آلاف الأحداث المماثلة اليومية التي تدل على تزايد التعامل المعادي لإسرائيل في الولايات المتحدة وأخطارها، ففي استطلاع رأي جرى في الربيع الماضي في أميركا تبين أن 34 بالمئة من الأميركيين يعدون معاملة إسرائيل للفلسطينيين عنصرية وأبارتايد، ووصف 25 بالمئة منهم إسرائيل بالدولة العنصرية وهذا يعني أن ثلث الأميركيين يعدون إسرائيل دولة غير شرعية».
ويستنتج لاودر من هذه الحقيقة أن جمهور الشباب الأميركي واليهودي الأميركي لا يرفضون الاحتلال والاستيطان فقط «بل يرفضون وجود دولة اليهود»، ويرى لاودر أن ظروف الوضع الأميركي بدأت تولد أفكاراً يحملها الشبان الأميركيون داخل الحزب الديمقراطي نفسه تتعارض مع سياسة الدعم الأميركي السخي والذي لا يتوقف لدولة الكيان الإسرائيلي.
يعترف لاودر وهو رئيس منظمة «الكونغرس اليهودي العالمي» أن تأييد الجيل الذي يمثله وهو في سن الثمانينيات لإسرائيل بدأ يتضاءل كثيراً عند جيل أبنائه وأحفاده لأسباب عديدة يعود بعضها للسياسة الإسرائيلية»، ويحذر بطريقة مباشرة من مضاعفات أي خلاف يمكن أن يطرأ بين واشنطن وتل أبيب لأنه في ظل انحسار الهجرة وابتعاد الجيل اليهودي الأميركي الراهن عن دعم الصهيونية وكيانها الإسرائيلي ستفقد الحكومة الإسرائيلية أهم عاملين لضمان بقائها.
بالمقابل لا أحد يشك أن إدراك المستوطنين في فلسطين المحتلة لانخفاض الهجرة وابتعاد نسبة لا بأس بها من اليهود الأميركيين عن دعم هذا الكيان وتراجع القدرة الأميركية في حمايته، سيولد بشكل مباشر انعداماً متزايداً في ضمان المستوطنين لأمنهم وبخاصة لأن الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الضفة الغربية إلى الجليل والمثلث داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948 ما زالوا صامدين فوق ترابهم الوطني ويقاومون الاحتلال وكيانه الغاصب من داخل وخارج حدوده.
وفي ظل استمرار هذه المقاومة وأشكالها المتعددة ستضيق خيارات المستوطنين بين أخطار المقاومة وبين ما يرافقها من أزمة في القوة البشرية العسكرية بسبب انخفاض الهجرة وسوف يزداد شعورهم بأنهم يخوضون حرباً لا مستقبل لها ضد سبعة ملايين فلسطينيي يقيمون بينهم يدعمهم محور مقاومة في جوار فلسطين من الشمال ومن الجنوب فيصبح بنظر هؤلاء المستوطنين، اليهودي الذي يعيش بلا حروب وأخطار هو اليهودي الأميركي والأوروبي، أي اليهودي الذي لا يقيم في هذا الكيان.
وقد بدأ هذا الشعور يزداد تأثيره بين المستوطنين وظهرت نتائجه جلية في تزايد نسبة الهجرة المعاكسة ومغادرة يهود كثيرين إلى أوطانهم السابقة في السنوات العشر الماضية.