كثير من رؤساء الدول الكبرى يتعاملون مع قضاياهم الداخلية والخارجية ضمن منظومة أخلاقية تعبر عن سياسة تلك الدولة تجاه أبناء شعبها أو مع الدول الأخرى، وشاهدنا كثيراً من المواقف المتغيرة بين فترات زمنية وأخرى، وكيفية التعامل تجاه القضايا الاجتماعية كالعدالة والعنصرية وغيرها من قبل كثير من الدول.
فهل القيمة الخلقية مطلقة ثابتة أم إنها نسبية متغيرة؟!
إن كل رئيس دولة، كإنسان، يقيم سياسة دولته على جملة من القيم والقواعد الأخلاقية والسلوكية، ويجد أن هناك مبررات يستعين بها لتغيير سياسته حسب مقتضيات الأمور.
فمنهم من يأخذ بمصالحه الشخصية والمكتسبات المالية، ومنهم من يحابي دولاً أخرى على حساب تلك القيم الأخلاقية للتعامل، ومنهم من يحافظ على السلوكيات والقواعد الأخلاقية ضارباً بالمصالح الشخصية أو المحاباة السياسية عرض الحائط مقدماً المصلحة الاجتماعية الوطنية على أي مصلحة أخرى، ولعل هذه الأخيرة تنطبق تماماً على شخصية الرئيس بشار الأسد، وبدا ذلك واضحاً من خلال تمسكه بالمبادئ والثوابت الوطنية القائمة على أسس القيم الاجتماعية والتاريخية للوطن، لذلك نرى تأكيده لهذه المسألة في لقاءاته الحوارية أو كلماته وآخرها كلمة القسم.
فأي تطور أو ازدهار وتقدم للأمم في حضارتها لا يتحقق ما لم تكن للأمة ثوابت أخلاقية وسلوكيات وطنية مبنية على قواعد صحيحة وثابتة، وإذا بحثنا عن أسباب انهيار الإمبراطوريات الكبرى واندماج الحضارات العظيمة في جميع المراجع التاريخية المختلفة فلن نجد سوى سبب رئيس لهذا الانهيار وهو «قلة الضمير واندماج القيم الأخلاقية».
ولنأخذ مثالاً الحضارة الإغريقية، فنجد الفيلسوف اليوناني العبقري، أرسطو، وبجانب ما دشنه من مجالات معرفية مهمة، فإنه جعل من الأخلاق «Ethica» علماً مهماً، ثم انطلق إلى تدشين علم المنطق «Logic» ليضعهما تاجاً فوق رؤوس كل مجالات وأدوات المعرفة الأخرى، مثل علم الطبيعة «Physica»، وما بعد الطبيعة «Metaphysica»، وعلم النفس «Psychologia»، والسياسة «Politica»، إلى آخر هذه العلوم.
إذاً، الأخلاق والمنطق فضيلتان جوهريتان تتأسس عليهما كل أدوات ومجالات العلوم والتقدم والازدهار، ودونهما لن تكون هناك حضارة تترسخ وتتجذر في عمق التاريخ، وإنما بديلها الفوضى والخراب.
ونأخذ مثالاً آخر من واقعنا الحالي، الأمة اليابانية، لم تتمتع بأي مقومات طبيعية، وثروتها الحقيقية الاستثمار في البشر، واستطاعت أن تضع قدمها بين الكبار بسلاح العلم، وتدشن لنفسها حضارة المستقبل، فانظر إلى أخلاقيات الشعب الياباني، وضميره الحي واليقظ، فستجد المواطن فيها ينزعج لو ارتكب خطأ بسيطاً، وربما يصل إلى حد الانتحار، ولا يمكن أن يتأخر دقيقة واحدة عن عمله، ولا يحتاج لرقيب لكي يؤدي عمله هذا بأمانة، ومن فرط أمانة الشعب الياباني في عمله، دفعت الدولة لتتوسل له أن يحصل على إجازات ويستمتع بحياته في السفر وخلافه، كما رأينا اليابانيين في بطولة كأس العالم بروسيا، مؤخراً، وعقب إحدى مباريات منتخبهم، قاموا بجمع ما خلفوه من قمامة في أكياس، ما يؤكد القيم الأخلاقية الرفيعة المستوى، والضمير الحي، حتى صارا سلوكاً يسكن جيناتهم الداخلية!
لذلك، إذا أراد الأعداء والخونة هدم وطن، فما عليهم إلا تدمير القيم الأخلاقية، وتخريب الضمائر، وهو ما أكده توماس شومان، عميل جهاز المخابرات السوفيتي السابق «كي جي بي»، الذي شرح صوتاً وصورة، خطوات تخريب المجتمعات، موضحاً أن المجتمع المستهدف تخريبه وتدميره، حتى ولو يتمتع بديمقراطية راسخة، يبدأ الأعداء في البحث عن عديمي الضمير والقيم الأخلاقية، ومتعددي الولاءات، وعن المجرمين البسطاء، والمختلفين سياسياً وإيديولوجيا مع الدولة، وبعض المضطربين نفسياً، المعادين لكل شيء، علاوة على مجموعة صغيرة من عملاء الدول الأجنبية، يتم تجميعهم في بوتقة واحدة، وتحريكهم في اتجاه واحد، وبقوة دفع واحدة، وما هو إلا وقت قليل حتى يبدأ المجتمع في الانزلاق التدريجي في مستنقع الفوضى.
عندها يبدأ الأعداء في الترتيب لبدء مراحل التخريب، وأبرزها، كما يشرح عميل المخابرات الروسي توماس شومان «مرحلة تدمير الأخلاق» بمنح الضوء الأخضر للمجموعات السابقة، للسير عكس كل القيم الأخلاقية، وانتهاك شرف المنطق والحكمة، ولا يعلو صوت فوق أصوات السفالة والشتائم البذيئة، وتخريب الذمم والضمائر.
ولن يتسنى نجاح تدمير القيم الأخلاقية، إلا بتشويه وتدمير الدين، وإحياء النعرات الطائفية، وإشعال نار الفتنة، ثم يتم الدفع بجماعات وتنظيمات، ترتكب من الخطايا ما يسهم بشكل فاعل في تشويه الدين، والنفور منه، وتشويه الكيانات الدينية الراسخة المنوطة بالدفاع عن صحيح الدين.
أيضاً الدعوة لتدمير الوعي المستمد من التعليم، عن طريق التسفيه والتسخيف من العملية التعليمية، ودفع الناس للانصراف عن التعليم البناء، مثل الرياضيات والكيمياء والفيزياء والتاريخ، إلى الدعوة لتعليم الحياة الجنسية، والأبراج الفلكية، للإيمان بالغيبيات، والسحر والشعوذة واستخراج الجان، وغيرها من المجالات المدمرة للمجتمع!
كذلك من أسباب التراجع عن القيم الأخلاقية غياب الدور التنويري للمنتج الإبداعي، خاصة الدراما والسينما، وتحكم الإعلان في بعض صور الإعلام، وتحول مضمار المنافسة إلى صراع، في كل المجالات، حتى رأيناه يتسلل إلى الرياضة التي كانت ترفع شعار «الرياضة أخلاق» إلى تعصب بغيض شاهدناه جميعاً.
ما سبق يستلزم عدداً من التوصيات للحفاظ على المنظومة القيمية والأخلاقية، أبرزها وضع خريطة للدولة السورية نرصد فيها مواضع الانفلات الأخلاقي والخلل القيمي، لوضع الرؤى وخطط المعالجة، وتنفيذها، لإحياء منظومة القيم والبناء الأخلاقي للمجتمع.
وعلينا ألا نغفل الدور النهضوي والتنويري للجامعات في صيانة الأمن الأخلاقي والقيمي للمجتمع.
وعلينا أن نتعظ ونتعلم من أولئك الذين كانوا أول من دشن للسفالة والانحطاط الأخلاقي في سورية، كانوا نشطاء وأدعياء الثورية في 2011، ونشطاء المال والأجرة والحركات الفوضوية، وسار في ركبهم جماعات التجهيل والرجعية، لإسقاط البلاد في وحل الفوضى، بسلاح تخريب القيم الأخلاقية، وإفساد الضمائر، والمؤلم أن كل الأديان السماوية نادت بترسيخ القيم الأخلاقية، وما قول المولى عز وجل في كتابه العزيز إلا نبراساً وهدى، عندما وصف رسوله الكريم في سورة القلم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».. صدق اللـه العظيم!
لذلك، من يلجأ إلى تدمير القيم الأخلاقية، وتدشين السفالة والانحطاط، والشتائم البذيئة، واغتيال وتشويه سمعة الشرفاء الأبرياء، يسير في مخطط تدمير المجتمع، ومن ثم إسقاط الدولة، سواء بقصد، أم من دون قصد، ويجب التصدي لهؤلاء بقوة القانون المفرطة.