فترض أنَّ النظام العائلي مع التربية والمثل العليا القادمة من مبادئ العبادة واللغة والرموز المتنوعة تؤثر إلى حدٍّ ما في بناء الشخصية البشرية، وتحدد سماتها وانتماءاتها إلى دين معين أو مجتمع أو أمة، وترتبط بموروثها الذي يمايزها عن بقية المجتمعات أو الأمم، وتأخذ صبغة تعبير تكون خاصتها، فنقول: ألمان وفرنسيون وهنود وأفارقة وصيني وروسي وعربي وسوري، وفي الوقت ذاته، ينتج المجتمع الواحد كي يظهر كوجود من تنوع صفات مكوناته؛ الكاهن والعابد والتاجر والسياسي الفارس والصعلوك والخيِّر والمبدع والشرير بتدرجاته، كما تظهر طبقاته الغنية والمتوسطة والفقيرة، ويكون للكل ثقافة أو ثقافات تندمج في العام، وتنفصل في الخاص، ومن العبث إضفاء صبغة قومية لنتاج الماضي، فمحاولة إبراز ثقافة الماضي كثقافة قومية أعتبره مضيعة للوقت وهدماً للحاضر، أو لما هو منطقي وواقعي.
لا ينتبه، ولا يبقى في الواقع إلا الندرة التي ترى الأشياء، تحللها، ومن ثمَّ تُعرّفها، ليستفيد منها المتطلعون إلى التحرر من سواد مجتمعاتنا المنشغلة بالضيق والتقوقع واللهاث خلف البناء الفردي بسبب الأنا وعدم المرونة في التعامل مع المجموع وحتى الانفصال عن الواقع، الذي لا يريدون رؤيته.
إذاً هي الندرة التي تتطلع إلى عالم أفضل، تضعف فيه التناقضات العامة والخاصة، وتلغي به نفوذ الهياكل الدينية إلى حدود معينة، التي تتقوى بضعف السياسة، وتتغذى وتنتشر على حساب مريديها وجلد من يخالفها، لأنها تناهض كل أفكار تحرير العقل، الذي يجسد بشكل خاص الواقع مع تطلع إلى الغد، وتقف أمام طروحات العصرنة والحداثة، وإن قبلت نوعاً ما التطور، فهي تدعو إلى الخلط الفكري، مع التركيز على خلطه مع الماضي بدلاً من إعداده للغد، وتعتقد أنها بذلك تخدع الندرة المثقفة والمفكرة وحتى السياسية، بينما تكون معززة لدى الاقتصاديين، الذين لا يستطيعون الخروج من عباءة الدين ادعاءً أو التزاماً بحكم المصالح، والسبب أن جميع الفتاوى القادمة من الكهنوت الديني تصبُّ من مصالحهم، وكذلك الفائدة مشتركة، فكانت الأديان مناصرة لرأس المال، وفاصلاً بين الفقراء والبسطاء وبين الأغنياء، ولاجماً لتطلعاتهم، فالكثرة يجب أن تبقى ضمن عجلة العمالة بكل أشكالها، فهي تعمل من أجل أن تستهلك، دققوا في الذي أسير معكم إليه.
مادامت الوطنية ضعيفةً في نفوس الناس، والشعور القومي العلمي يرفع من مستوى الوطنية، ويؤمن بالالتقاء مع الآخر بالمصالح العليا للجماعة أو للدولة التي تنتمي إلى أمة، وكذلك الإنساني الجمعي مُغّيب أو غير مُفعّل، فإن الأفكار الأخرى التي تنتمي إلى الشعبوية والأممية والدينية تتابع تغلغلها في عقول التخلف، ما يظهر الاضطرابات بأشكالها المختلفة في الحاضر والمستقبل.
هل من مخرج يمنع الرجوع إلى الماضي؟ البديهي أن يكون الواقع، لكن الذي يجري هو أن تبرير مواكبته يعود في تبريره إلى النصوص القديمة، ولذلك لا يحقق الإقناع، لأنه لم يؤمن بمشروعية الاختلاف بين الماضي والحاضر المسؤولين عن إنجاز المستقبل، الذي لن يتقبل اللغة القديمة، ويبحث في العلوم الإنسانية العصرية، التي تسهم في تطوير ثقافة التطور ومواكبة التكنولوجيا، مع إرادة تهذيب مضمون الإنسان وشكله، ومع إدراكنا وفهمنا لهذه الصبغة، نجد أن جميع الأبحاث تدور حول ثقافة التطور والحداثة، هذه التي تنتج علاقات بين المجتمع ومع المحيط.
تحرير الحاضر لا يحتاج إلى التاريخ، إنما لدراسة الأحداث وكشف أسبابها، لأن الماضي الحقيقي دمرته الأديان أولاً ومستعمرو الشعوب ثانياً، الذين انتقموا من حضارات الأمم السابقة، ليتدارسوا ما وصلوا إليه، وما أرادوه أن يكون.
لذلك أقول: إن اعتماد المعرفة العلمية أساسٌ لتحرير الشعوب في حاضرها من كل ما تملكه من آثار الماضي السلبية والمتعلقات على الحاضر، ومنه أجد أنه لا مفرَّ من اعتناق فلسفة التأمل والتدقيق، ومن ثمَّ التحليل، وهذا ما فعله الرسل والأنبياء والعلماء والحكماء والساسة الواقعيون، إذا أردنا أن نصل إلى المستقبل بنزاهة ووعي قادر على تطوير الحاضر وتحريره.