فى مقال تحت عنوان «عندما يخضع كل المجتمع للهيمنة» بينا كيف استطاعت الغالبية الساحقة من الدول العربية تجييش كل قدراتها المالية والأمنية وعلاقاتها الزبونية للاستباحة والهيمنة على كل مؤسسات الدولة ومجتمعها المدنى، بحيث لم يعد يوجد أى وجود للمجتمع يذكر، وإنما تنمر جبروت مؤسسات الحكم والإدارة وسلطات الأمن.
شاءت الصدف العجيبة أن تظهر الوجه الآخر لتلك الصورة التى رسمنا فى ذلك المقال. فغدا وجه التنمر يحل محله وجه الحذر المرعوب، وقلة الحيلة والمروءة والالتزام بأدنى المسئوليات القومية والإسلامية والإنسانية. لقد أزاح القناع عن ذلك الوجه شباب وشابات وشيوخ وعجائز وأطفال القدس وفلسطين وهم يتحدون جنود الاحتلال الصهيونى ويبذلون الغالى والرخيص من أجل الحفاظ على قدسية رمز عربى وإسلامى، يخص جميع المسلمين والمسيحيين، رمز المسجد الأقصى المبارك.
ولقد أظهرت تلك الصورة البائسة غيابا مخجلا للحساسية الإنسانية تجاه صيحات الجرحى وأنين المحاصرين وآهات المقبوض عليهم لإدخالهم فى سجون التعذيب والقهر والإهانات. وكل ما رأيناه وسمعناه لم يزد عن شجب من هنا ودعوة للهدوء من هناك، وسميت المذبحة أحداث عنف بين طرفين متخاصمين.
ولم يستدع سفير واحد، ولم يهدد بقطع هذه العلاقة أو تلك.
صورتان بائستان للوضع السياسى فى بلاد العرب تدفعان للتساؤل من قبل الكثيرين: «وما الحل؟» والجواب لن يكون سهلا، ولكن لا بد من رسم بعض الخطوات الأولية المحورية فى طريق ذلك الحل. هنا يجب أن يتوجه الخطاب إلى أجيال المستقبل بعد أن أصبح عبثا التوجه نحو الأجيال السابقة التى ارتكبت الكثير من الأخطاء والحماقات التى سهلت الوصول إلى الحالة العربية الراهنة، بوجهيها المتقابلين المتناقضين اللذين وصفنا: وجه التنمر ووجه العجز.
فى اعتقادى أن من أوائل الخطوات هى فهم جيل شباب المستقبل الصحيح الموضوعى لموضوع مكانة ودور الإيديولوجيا فى ممارسة الحياة السياسية، وفهم ما يترتب على غيابه.
من الضرورى أن يدرك شباب وشابات هذه الأمة أن هناك محاولات مستمرة لتشويه صورة وتاريخ كلمة «الأيديولوجية» كجزء من حملة نيوليبرالية عولمية وإصرار متنام من قبل دوائر الحكم والامتيازات لإبعاد الشباب عن الاهتمام بالسياسة وممارستها ورفع شعاراتها التقدمية التحررية والحقوقية العادلة.
هذه الحملة ليست معنية بمراجعة نقدية موضوعية علمية لممارسات خاطئة وقعت فيها بعض الحركات السياسية الإيديولوجية ولا لإعادة النظر فى بعض الجوانب الفكرية فى المفاهيم الأيديولوجية التى كتبت منذ قرنين وتحتاج الآن لإعادة الكتابة، وذلك على ضوء مستجدات علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتاريخ، وإلا لكان الأمر سيكون طبيعيا، فكل الأفكار تحتاج لمراجعة دورية.
لكن المقصود هو إنهاء ظاهرة الأيديولوجيات النضالية التى ساهمت عبر القرنين الماضيين على الأخص فى ضبط معانى كلمات وشعارات السياسة، وفى الإصرار على أن تكون تلك الكلمات والشعارات متناغمة مع القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية، وفى جعل الفكر السياسى فكرا شاملا غير مجزأ إلى نتف من الأفكار والجمل والخطابات والكلمات غير المترابطة والمنسجمة مع بعضها البعض. وهذا يقود إلى حلول آنية مؤقتة لهذا المطلب السياسى أو ذاك، دون التوجه إلى إزالة الأسباب الحقيقية التى قادت إلى ذلك المطلب، وبالتالى إبقاء الوعى السياسى مجزءا وغير مترابط فى مكوناته وأهدافه التى يناضل من أجلها.
إن مثل تلك الخطوات، وهى عدة ومترابطة ومتناغمة، هى التى ستعيد إلى النضال السياسى عمقه الفكرى الذى بدونه سيظل نضال الشباب والشابات العرب السياسى يتعامل مع الآنى المؤقت على حساب التغيير الأساسى العميق الضرورى. ولنا عودة إلى الموضوع مستقبلا.