لا شيء ثابت في ميزان الإدارة الأمريكية خلال تعاملها مع الأنظمة والجماعات والكيانات السياسية في العالم، فواشنطن بنَت سياستها منذ سنوات طويلة على قاعدة الهيمنة والاستحواذ والاستقواء على شعوب العالم، ومحاربة كل من يعارض هذه السياسة.
وبطبيعة الحال فكل من يوافق أمريكا في الآراء والمواقف والقضايا السياسية يعد حليفاً لها، ومبعداً من دائرة التصنيف الإرهابي أو العدائي أو ما شابه ذلك، والعكس صحيح، و الأمثلة على هذه العقلية الأمريكية في التعامل مع الآخر كثيرة ومتعددة، وحالتنا العربية هي الأبرز في التعامل الأمريكي معها، فعلى سبيل المثال ظلت السودان مدرجة على لائحة الدول الداعمة للإرهاب لنحو ٢٧ عامًا منذ ١٩٩٣م، لكن ترامب فجأة أعلن رفع السودان من القائمة في خطوة ارتبطت بقبول الخرطوم الانخراط في عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبعد أن قدم السودان خدمات جلية لأمريكا، وفي مقدمتها المشاركة في العدوان الغاشم على بلادنا، ولو أن الخرطوم لم تسلك هذا المسلك، لظلت في القاموس الأمريكي بلداً إرهابياً وفقاً للمفهوم الأمريكي إلى يومنا هذا.
وإذا ما نظرنا إلى الحالة السورية أو الإيرانية، فإن الموقف الأمريكي تجاه البلدين متصلب وعدائي، فما يحدث في سوريا من خراب وتدمير وحرب كونية لا يتم إلا تنفيذاً للرغبة الأمريكية التي ترى في دمشق عدواً خرج عن بيت الطاعة، ولو أن الرئيس بشار الأسد عدل عن صلابته قليلاً، وأعلن انحيازه وطاعته للبيت الأبيض، وقبل بالتطبيع مع كيان العدو الصهيوني، لتغير الحال تماماً، وكذلك الحال مع بلادنا ولبنان؛ ولهذا فإن واشنطن- ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م- وظفت «الإرهاب» لتحقيق مصالحها وطموحاتها الاستعمارية، فتغيرت المفاهيم، فانتقلت الدول غير الصديقة لواشنطن من خانة «الدول العدوة» أو «الدول المنافسة» إلى «مكانة الإرهاب»؛ ولهذا يقول الدكتور مصطفى عبد الرازق في مقال له نشرته العديد من المواقع والصحف العربية بعنوان :«التوظيف السياسي الأمريكي لمفهوم الإرهاب»: «إن الاتصاف بالإرهاب من عدمه أشبه بطابع دمغة يتم وضعه أو نزعه من جماعة أو دولة معينة لتوصيفها بهذه الصفة أو رفعها عنها».
أحداث سبتمبر:
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً بعد أحداث سبتمبر أيلول 2001م، والتي اكتسبت زخماً سياسياً وإعلامياً كبيرين، نجد أن ذلك كان مقدمة لخطة أمريكية مستقبلية لاحتلال بلدان العالم والسيطرة على خيراتها تحت مسمى «مكافحة الإرهاب»، وها نحن اليوم وبعد مرور عشرين عاماً على ذلك الحادث المشؤوم والمفتعل بعناية من قبل الأمريكيين نلمس وضوح هذه المخططات بجلاء.
لقد حدد الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن) أربعة مبادئ حكمت الاستراتيجية الأمريكية في مكافحة الإرهاب وهي:
1 – عدم تقديم أية تنازلات للإرهابيين، والضرب بدون إبرام أية صفقات.
2 – تقديم الإرهابيين للعدالة عن جرائمهم.
3 – عزل وممارسة الضغوط على الدول الراعية للإرهاب؛ لإجبارها على تغيير سلوكها.
4 – تعزيز قدرات مكافحة الإرهاب في تلك الدول التي تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هذا المنطلق سارع الأمريكيون لتوظيف هذا الحادث؛ لتشكيل تحالف دولي قوي يساندها في مواجهة ما يسمى «الإرهاب»، ووظفت هذا التحالف لتحقيق مصالحها العليا، فأقدمت على احتلال أفغانستان بمساندة هذا التحالف الدولي، ومن بعدها احتلت العراق، وأعطاها هذا التحالف الحق للتدخل في شؤون الدول الأخرى بطريقة استبدادية لا تستند لأي أساس قانوني، وتتنافى مع المبادئ العامة للدول، والتي ترتكز في العلاقات الدولية على مبدأ عدم التدخل.
لقد اتضحت الأهداف الأمريكية في مواجهتها «للإرهاب» الخفي سريعاً، فاحتلال أفغانستان كان مقدمة لاحتلال العراق؛ بهدف السيطرة على خيراته ونفطه وثرواته الهائلة؛ ولإحداث شرخ في المنطقة العربية لا يزال يؤلم الجسد العربي إلى يومنا هذا، واستطاعت واشنطن وبكل فظاظة أن تتدخل في شؤون الدول العربية بعد احتلالها للعراق، وتعين من تشاء في المناصب، وتسقط من تشاء، وعلى سبيل المثال كان السفير الأمريكي بصنعاء هو الحاكم الفعلي، وهـو الذي باستطاعته تغيير الحكومة والمجيء بحكومة أخرى، وهــو الذي يشرف على أجهزة الاستخبارات، ويعين على رأسها من يشاء، ومن ثمار هذا التوظيف للإرهاب أن أتاح لواشنطن استباحة الأراضي اليمنية بالطائرات بدون طيار؛ لتقتل النساء والأطفال، وتقصف القرى تحت مسمى «مكافحة الإهاب».
ومن بعد أحداث سبتمبر 2001م رسمت واشنطن مخطط «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، واستطاعت إدارة بوش توظيف «الحرب على الإرهاب» من أجل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
وبينما كان الكيان الصهيوني يشن عدواناً على لبنان عام 2006م جاءت كونداليزا رايس في يونيو 2006م لتعلن عن ولادة مشروع الشرق الأوسط الجديد من قلب «تل أبيب»، وهو مشروع يهدف إلى خلق الفوضى وعدم الاستقرار في الدول العربية، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ما تزال منطقتنا تعيش في الفوضى والخراب وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
سياسة ناعمة:
وبعد ثمان سنوات من حكم إدارة جورج بوش الابن التي اتسمت بالطابع الهجومي العسكري، بدأت تتشكل جملة من التبديلات في عهد إدارة باراك أوباما التي ركزت على أن الحرب العسكرية في الشرق الأوسط قد خرجت عن المسار ؛ ولهذا استبدلت بسياسة أخرى أكثرمرونة في مخاطبة الجمهور العربي والإسلامي في الظاهر، لكنها في الباطن عملت على مواصلة شرخ الجسد العربي بطريقة ذكية جداً، فجلعت العربي يقتل العربي، وأحدثت انقسامات كبرى في جسد الأمة العربية لا تزال تعاني من ويلاتها إلى يومنا هذا.
لقد وظفت الإدارة الأمريكية موجة الربيع العربي للنيل من الأنظمة التي لا تواليها، فتدخلت في سوريا، وحاولت إسقاط نظامها، وأرسلت الإرهابيين من مختلف أنحاء العالم، وعدَّتهم «ثواراً» مقاومين للنظام، وأحدثت في سوريا دماراً وخراباً لا يمكن تخيله.
وفي عهد أوباما وجدت «داعش»- وباعتراف المسؤولين الأمريكيين أنفسهم وعلى رأسهم وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون- أن أمريكا هي من أوجدتها؛ بهدف إتاحة المجال لواشنطن للاستمرار بالتدخل في شؤون الدول تحت هذا المسمى «مكافحة الإرهاب»، والحقيقة التي اتضحت بجلاء أن هذه التنظيمات الإرهابية كانت صنيعة أمريكا، وتدار من قبل أجـهزة الاستخبارات الأمريكية؛ ولهذا رأينا (القاعدة وداعش) تقاتل أبطال الجيش واللجان الشعبية خلال العدوان الأمريكي السعودي على اليمن والمستمر للعام السادس على التوالي.
محور المقاومة:
والآن، وبعد انقشاع الغبار ووضوح الحقائق، فإن الوطن العربي أصبح منقسما إلى فريقين، محور عربي موالٍ لأمريكا ومنبطح لتوجيهاتها وأوامرها كدول الخليج ومصر، ومحور آخر معادٍ لها وهو محور المقاومة كسوريا واليمن.
وصنفت أمريكا في عهد ترامب محور المقاومة وفصائل المحور وقادته ضمن «لائحة الإرهاب»، وعدَّتهم العدو لها ولإسرائيل، ولهذا يستمر العدوان الأمريكي السعودي على اليمن؛ لأنه خرج عن دائرة الوصاية إلى الحرية والاستقلال ومواجهة مشاريع الاستكبار العالمي أمريكا وإسرائيل، ولا عجب أن يتم تصنيف «أنصار الله» منظمة إرهابية في آخر عهد للراحل ترامب، واستبعاد السودان الذي ارتمى للحضن الصهيوني من القائمة.
لقد خسرت أمريكا الكثير والكثير بفعل إشهار ورقة «الإرهاب» في وجه خصومها، في حين كان للوطن العربي النصيب الأوفر من الدمار والخراب والآلام والمتاعب بسبب هذه السياسة، ونرجو أن يتشكل وعي عربي جامع لمناهضة أمريكا، ومواجهة مشاريعها الاستبدادية في المنطقة.