على مسافة ايام معدودة من مغادرته منصب الرئاسة ، خطا الرئيس الاميركي المنصرف دونالد ترامب خطوة إستراتيجية بنقل "اسرائيل" من منطقة عمليات القيادة الاميركية في اوروبا ، اي من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الى منطقة عمليات القيادة الاميركية المركزية الوسطى "سنتكوم" ومقرها قطر.
هذا القرار في واقعه ومآله يعني نقل بلاد العرب ، وليس "اسرائيل" فقط ، من منطقة أمن الغرب الأطلسي الى منطقة الأمن الصهيواميركي في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطيء البحر الابيض المتوسط غرباً الى شواطيء بحر قزوين شرقاً ما يشكّل في الواقع "ناتو" إقليمياً توأماً لـِ "ناتو" الغرب الاطلسي الاميركي-الاوروبي.
ما دوافع هذا القرار الإستراتيجي ؟
"البنتاغون" الاميركي عزاه الى "خفض التوتر بين "اسرائيل" وجيرانـها بعد إتفاقات ابراهام التي اتاحـت فرصـة جمـع الشركـاء ضد التهديدات وذلك مـن شأنـه إحداث تحوّل عسكـري لتحفـيز التعـاون العربي-الإسرائيلي في مواجهة ايران"، بحسب ما كشفه مسؤولون اميركيون لصحيفة "وول ستريت جورنال".
الباحث في "معهد القدس للإستراتيجيا والامن" عومر دوستري لم يكن اقل صراحةً من القائد السابق للقيادة الاميركية المركزية "سنتكوم " الجنرال انطوني زيني الذي يشاطره الرأي بقوله إن من شأن قرار ترامب "تحصين قوة اسرائيل ومكانتها(...) وتعزيز مجالات التعاون الإقليمي بينها وبين دول المنطقة بما في ذلك إشراك الجيش الإسرائيلي في تدريبات عسكرية تنظمها القيادة المركزية الاميركية في الإمارات ". غير ان الدلالة الابرز لقرار ترامب الإستراتيجي هي المشاركة في تشكيل أجندة الامن القومي التي سيرثها الرئيس المنتخب جو بايدن بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال". مع العلم ان ترامب كان اعلن في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي قراره خفض الحضور العسكري الاميركي في العراق وافغانستان. وها هو وزير دفاعه بالوكالة كريستوفر ميلر يعلن بدوره "ان التقدّم الذي تحقق على مسار السلام في البلدين يتيح تقليص عديد القوات المنتشرة هناك من دون خفض مستوى الامن للاميركيين ونظرائهم".
ثمة دلالة اخرى لتوقيت قرار ترامب إذ جاء متزامناً مع حدثين لافتين: الاول ، تصعيد اعتداءات "اسرائيل" على سوريا بدعوى منع ايران من التموضع فيها ، وقد تجلّى آخرها بضرب مواقع ومخازن عسكرية قائمة بين دير الزور والبوكمال في منطقة قريبة من الحدود السورية-العراقية . الثاني ، اعلان الاتحاد الاوروبي عن توسيع قائمة عقوباته ضد سوريا بإدراج وزير خارجيتها الجديد فيصل المقداد فيها بدعوى انه يتحمّل كعضو في الحكومة قدْراً من المسؤولية عن اعمال القمع العنيفة ضد السكان المدنيين.
ماذا يعني قرار الاتحاد الاوروبي ؟
هو لا يعني بالضرورة وجود تنسيق بين اوروبا وادارة ترامب المنصرفة بقدْر ما يعني ان هذا التنسيق قديم وثمرة تعاون وثيق بين الدولة العميقة في اميركا ومختلف دول اوروبا الاعضاء في حلف شمال الأطلسي. ولأنه كذلك فمن المرجّح ان يبقى معتمَداً في ظل ادارة بايدن المقبلة.
أيّاً ما سيكون موقف بايدن وادارته المقبلة من ردّ ايران المحتمل على تصعيد اسرائيل العسكري الاخير ضد مواقع سورية وايرانية على الحدود بين سوريا والعراق ، فإن السؤال الاكثر إثارة للقلق والترقّب في هذه الآونة هو ما يمكن ان يفعله ترامب في الساعات القليلة التي تسبق انتهاء ولايته : هل يشنّ حرباً على ايران بغية تفعيل نصٍّ دستوري يقضي بتمديد ولاية الرئيس الاميركي الحاكم حتى لو كانت موشكة على الإنتهاء اذا وجدت الولايات المتحدة نفسها في حال حرب ؟
بعض المراقبين في اميركا لا يستبعد ان يفعلها الرئيس المنصرف الأحمق والمتهور. بعضهم الآخر يستبعدها مرجحاً ان يراهن ترامب على مفاعيل التظاهرات التي يؤمل ان تكتسح عواصم جميع الولايات بالإضافة الى العاصمة واشنطن فتعطِّل مراسم تنصيب جو بايدن .
غير ان ثمة مَن يعتقد في اميركا و"اسرائيل" ايضاً ان ايران قد تغتنم فرصة إنشغال المنظومة الحاكمة في واشنطن بإضطرابات الداخل المقلقة فتُقدم ، قبل ساعات معدودة من إنتهاء ولاية ترامب ، على تسديد ضربة شديدة لأميركا و"اسرائيل".
لكن ، سواء كانت الولايات المتحدة (ومعها اسرائيل) او ايران هي البادئة بشن الحرب فإن نتيجتها المرجحة ، في رأي خبراء عسكريين متعددين ، ان ايران في مقدورها تدمير قواعد اميركا العسكرية ، اقلّه في منطقة الخليج وجوارها .
ازداد هذا الإحتمال ترجيحاً بعد التصريح الذي ادلى به قائد القوة الجوية الفضائية الإيرانية العميد امير علي حاجي زاده بأن ايران قادرة في لحظة على تدمير قواعد اميركا العسكرية في المنطقة على شعاع مداه 2000 كيلومتر .
تقديري ان ايران لن تلجأ الى العنف في سياق تنفيذ وعيدها بالإنتقام لشهدائها او بالردّ على أية هجمة تقوم بها اميركا او اسرائيل إلاّ بعد إنتهاء ولاية ترامب وتسلّم بايدن مقاليد السلطة وإتضاح موقفه من مسألتيّ العودة الى الإتفاق النووي وصواريخ ايران البالستية بعيدة المدى.
اما بايدن فتقديري ان اولويته ستكون مواجهة مضاعفات جائحة كورونا على صعيديّ الشعب والإقتصاد الاميركيين ، وانه يفضل استخدام القوة الناعمة وليس القوة الخشنة خلال مفاوضته ايران للتوصل الى تسوية تكون مقبولة من الطرفين.
غير ان اعتماد بايدن هذا الخيار لن يمنعه من الإستمرار في مخطط توريث "اسرائيل" وجود اميركا بمعظم وجوهه في المنطقة والإرتقاء بتسليحها لتصبح بمثابة اميركا صغرى قادرة على ان تنوب عنها في صون مصالحها وحماية حلفائها. وما نقل "اسرائيل" من منطقة عمليات القيادة الاميركية في اوروبا الى منطقة عمليات القيادة الاميركية المركزية الوسطى في الخليج إلاّ الدليل الساطع على وظيفة "الناتو" الإقليمي الجديد وتكامله مع توأمِه "ناتو" الغرب الأطلسي الاميركي-الاوروبي .
وعليه ، ينهض سؤال : كيف سيردّ محور المقاومة وأين ؟