الأهداف تمثل الغايات التي يُسعى للوصول إليها وتحقيقها، أما الاستراتيجية فتمثّل نظرية العمل الأساسية التي يُراد منها تحقيق الهدف أو الأهداف. ويأتي التكتيك ليمثل مجموعة الأساليب اليومية أو التطبيقية الجزئية التابعة للاستراتيجية.
في العلم العسكري، وهو أصل استخدام كل من الاستراتيجية والتكتيك، ومنه استعير مفهوم الاستراتيجية منفرداً، أو أحياناً مع التكتيك، إلى دنيا الأعمال وصولاً إلى الجمعيات والمؤسسات. ومن هذه (الثانية) استُخدمت في علم الإدارة كلمة استراتيجية لتُعطى السمات التي تخصّ عالم الشركات والاقتصاد وما يخصّ الوزارات المختلفة.
كل دولة، وكل جيش، وكل جهاز أمن، وكل حزب سياسي، يحدد أهدافه أو، في الأدق، يحدد هدفه الرئيس، ثم يحدّد الاستراتيجية التي سيتبناها لتحقيق تلك الأهداف أو الهدف الرئيس. ومنها ينحدر إلى التكتيك الذي يدير المعارك الجزئية والعمل اليومي، الذي هو جزء من نظرية العمل الكلية التي تتبعها "هيئة الأركان/مجلس الإدارة". (الاستراتيجية تتناول التحركات الكبرى والمعارك الفاصلة، والتكتيك: المناوشات والمعارك الجزئية أو اليومية).
من هنا ليس هنالك من دولة أو جيش أو مؤسسة أو حزب أو حتى فرد إلّا وله (عنده) عملياً، استراتيجية وتكتيك، لتحقيق الهدف/هدفه. وسواء أكان واعياً لهما أم لم يعِ، وسواء أسمّاهما استراتيجية وتكتيكاً أم لم يسمهما.
ولهذا ليس لأحد أن يُباهي، أو يظن، أن عنده استراتيجية وغيره "عفوي" ليس عنده استراتيجية.
على أن المهمّ ليس أن تكون عندك استراتيجية، أو تضع خطة، أو خريطة طريق، وتسميها استراتيجية مستنداً إلى استراتيجية ما، من الاستراتيجيات التي عرفتها الدول والجيوش في الحروب، من الذي تطرق إليه كارل فون كلاوزفيتز إلى ليدل هارت، وليس المهمّ أن تكون عندك استراتيجية مستندة إلى مايكل بورتر وصولاً إلى وبستل.
المهمّ أن تكون استراتيجيتك صحيحة وألّا تكون خاطئة، فما من واضع استراتيجية وتكتيك في الحرب والسياسة، أو في الاقتصاد أو النشاط الاجتماعي إلّا معرَّض للاختيار الخاطئ، ولا سيما في الحرب والسياسة والصراعات الاجتماعية أو الدولية.
أكان في داخل البلد أو مع خارجه، أو مع عدو، أو منافس، وذلك لأن هذا المجال هو المجال الأصعب والأكثر تعقيداً في تداخل العوامل المؤثرة فيه، وكثرتها وتعقيد حسابها وتقدير أهميتها.
ففي هذا المجال/المجالات حدثت الكوارث الكبرى، والأخطاء التي لا تعوَّض، والنتائج التي تمتدّ آثارها عشرات السنين، ناهيك بالتعاطي مع الحياة والموت، ومستقبل البلاد والشعب والقضية.
وفي التاريخ حتى الآن لم ينجح أحد من منظّري علم الحرب بما في ذلك سون تزو وكارل فون كلاوزفيتز أو هيلموت-فون مولتكيه، والأساتذة الذين يدرّسون علم الاستراتيجية والتكتيك في الأكاديميات، أو في الجامعات من مايكل بورتر وفليتشر إلى سوات.
وذلك لسبب بسيط هو أن الحرب والمعارك وإدارة الصراع تحتاج إلى مواهب وأصحاب تجربة خاصة وعامة، من قِبَل أفراد أكثرهم لم يتخرجوا في الأكاديميات، ولم يمارسوا تدريس علم الحرب أو الإدارة أو علم السياسة. وقد ينسحب هذا أيضاً، مع الحذر حتى على علم الاقتصاد، أو عالم الاقتصاد.
يقول هيلموت-فون مولتكيه، وهو أحد منظّري علم الحرب، وممن مارسوا القيادة (جنرال)، ما معناه "كلما فكرت بثلاث طرق سيأتي منها العدو كان يأتي من الطريق الرابعة".
إذاً لم تكن المشكلة في أن تكون عندك استراتيجية، وإنما المشكلة في أن تكون صحيحة، سواء أكان باختيار نوعها ونظريتها وخطوطها العريضة أم كان من ناحية تحديد الأولوية.
وإن المعيار النهائي في صحة الاستراتيجية التي حُددت، وعُمل بموجبها أو الخطأ فيها، يتمثل في النتائج. ولا عذر إذا جاءت النتائج سلبية أو كارثية، فستكون قد أخطأت. فما عليك إلّا الاعتذار أو الاعتزال أو حتى، أحياناً، الإدانة الصارمة إذا ما تعلق الأمر بالدماء، أو بالخراب أو بإضاعة وقت، وفرص لا تعوّض.
ولعلّ من أهمّ الأمثلة لخطأ الاستراتيجية وما مثّلته من أولوية كانت استراتيجيات الولايات المتحدة من عهد بيل كلينتون 1993 إلى عهد جورج دبليو بوش 2001-2009، وذلك حين اعتبرت في العهدين أولويتها إعادة بناء شرق أوسط جديد، واعتبرت أن روسيا في طريقها للانهيار التامّ، وأن مصير الصين سيكون كمصير دول أوروبا الشرقية (ثورات "الربيع") وانتصار الديمقراطية الليبرالية التابعة لأمريكا والغرب. فلم تكمل انتصارها على الاتحاد السوفييتي بمحاصرة سلاحه النووي، وعدم السماح لبوتين بإعادة بناء الدولة القوية، ولم تكمل عملية احتوائها للصين (استراتيجية الاحتواء) كما في مرحلة الثمانينيات. وتركتها تفلت بحرية لغزو أسواق العالم، وتعزيز قوة الدولة، وتطوير الداخل اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً وعلمياً.
وحتى في ما حددته من أولوية في استراتيجيتها الشرق أوسطية باءَ بالفشل، فلم يُبنَ شرق أوسط جديد يقوده الكيان الصهيوني تحت سيطرتها.
وكانت نتيجة هذا الخطأ الاستراتيجي العالمي، أن أمريكا أصبحت تواجه منافساً صينياً، راح يتهددها بالتفوق عليها اقتصادياً وينافسها تقنياً. ولم يعد ضمن قدرتها، كما في السابق، أن تحتويه، أو تكبح جماحه. كما أصبحت تواجه منافساً عسكرياً، يجب أن يُحسب له ألف حساب (روسيا)، وهو يطوّر سلاحه الصاروخي والجوي والبحري والفضائي والسيبراني الاختراقي.
وكان من نتائج الفشل الأمريكي الاستراتيجي العالمي والإقليمي، أن نَمَت قدرات كبرى في عدد من أقاليم العالم، أصبحت ذات شأن في ميزان القوى الإقليمي، مثل إيران وتركيا وجنوبي إفريقيا والهند والبرازيل.
أما السبب في ارتكاب هذا الخطأ الاستراتيجي، فيعود إلى الغرور المبالغ به والانتفاخ الوهمي اللذين حصلا مع سقوط الاتحاد السوفييتي، وما أصاب البُلدان الاشتراكية في آسيا وأوروبا الشرقية من انهيارات داخلية، مما قلّل أهمية ما تدّخره روسيا المهزومة والصين من إمكانات وقدرات، وسمح للصهيونية الأمريكية أن تأخذ الاستراتيجية إلى الشرق الأوسط، لتعمل في مصلحة الكيان الصهيوني لبناء شرق أوسط جديد على قياسه، سواء الشرق الأوسط الجديد الذي رسمه بيريز في عهد كلينتون، أم الشرق الأوسط الذي رسمه المحافظون الجدد، ودعمهم لشارون لشن الحرب على مناطق (أ) من الضفة الغربية عام 2002، وعلى العراق عام 2003، ومن قبل على أفغانستان عام 2001، وشنّ الحرب العالمية على "الإرهاب" (ويقصدون العالم الإسلامي).
المهمّ، أمامنا مثل صارخ على الخطر الذي تشكّله الاستراتيجية الخاطئة بالنسبة إلى دولة كبرى (الدولة الكبرى الأولى)، التي هي أكثر من غيرها تحمُّلاً لارتكاب الأخطاء، فكيف بالنسبة إلى الدول الأخرى أو إلى قيادات الشعوب المستضعفة، في مرحلتَي التحرر من الاستعمار كما مرحلة الاستقلال والبناء. وكيف من ناحية أكبر لشعب يقبع تحت الاحتلال كالشعب الفلسطيني، بخاصة، في المرحلة الراهنة التي أصبح لنا فيها قاعدة مقاومة جبارة في قطاع غزة، فيما ازدادت مخاطر الاحتلال واستشراء الاستيطان في الضفة الغربية والقدس ومشاريع التسوية التصفوية.