لاأدري من الذي يغيّر الآخر في الشرق الاوسط .. أهي تغيرات الأحداث تغيّر الفلسفة أم أن تغيرات الفلسفة هي التي تغير الأحداث .. ربما ينفرد الشرق الأوسط بكونه المكان الذي تتغير فيه الأحداث كما تريد الفلسفة ..
وبغض النظر عن أمنياتنا في انتخابات تركيا فان علينا النظر اليها بعيون ليس فيها أمنيات بل حصافة ومعرفة بماهية الأشياء .. دون الغرق في خداع النفس أو الوقوع في خديعة العدو والاستسلام لنظرياته وفرضياته ..
فمن لايفهم فلسفة الحرب على سورية لن يفهم نتيجة الانتخابات التركية .. ففلسفة الحرب على سورية قائمة على حيوية الدور التركي فيها واي غياب له يعني تغييرا حيويا في الاحداث .. ولذلك فان انتخابات تركيا لم تكن داخلية بل كانت - ان صح التوصيف - انتخابات المتحاربين في المنطقة داخل تركيا لتغيير الدور الحيوي لتركيا في الحرب السورية .. أي خاض المتحاربون على الأراضي السورية حربا انتخابية على الأرض التركية لأن انتخابات تركيا ستؤثر في مصير المعارضة السورية ومشروع الاسلاميين الى حد كبير وتؤثر في مجريات الحرب التي ستقرر ربما سهولة أو صعوبة مفاوضات فيينا التي يتابعها الغرب والناتو والاسرائيليون والسعوديون والروس والايرانيون .. فانكسار الاسلاميين عسكريا في سورية وتراجعهم سياسيا في تركيا فيما لو حدث سيعني طي المرحلة الاسلامية في المنطقة وتراجع طموحات الغرب من لقاء فيينا .. وسيعني أيضا تحول الاسلاميين الى أحزاب تكميلية وديكورات ديمقراطية أو أحزاب الظل البارد في بيات شتوي طويل ..
في الانتخابات التركية كان خصوم أردوغان من حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي وغيرهما يمثلون فيما يمثلون سورية ومحورها وحلفاءها .. فيما كان أردوغان وحزبه الاسلامي يمثلان الولايات المتحدة والسعودية واسرائيل والتحالف الاسلامي الغربي .. لأن نتيجة الانتخابات التركية هي الاحتكاك الديبلوماسي بين الأعداء الذين يتبارزون بالسيف على الأرض السورية وبمثابة استعراض عضلات للقوة السياسية .. وهذه الانتخابات هي التي ستقرر خروج أهم حلقة في الحرب السورية أو بقاءها وانفراط عقد الربيع العربي بعد انقطاع الخيط التركي الذي يجمعه .. وكل المماحكات عن القضايا الداخلية التي تم التبارز بها كانت في لبها الحقيقي حول نتائج الحرب في سورية التي ان انتهت بانتصار سوري انعكست على تركيا بشكل ثقيل حيث سترسو القضية الكردية في الأراضي التركية وسترسو معها الجهادية الاسلامية المهزومة التي خرجت من سورية ودخلت تركيا بكل ثقلها كملاذ أخير .. كما أن الاقتصاد التركي تراجع بفعل تأثره بالأزمات في المنطقة وخاصة بسبب القلق من نتائج الحرب في سورية وعدم الاستقرار حيث شظايا النار صارت تلفح وجه أنقرة .. اضافة الى أن الحالة الأمنية داخل تركيا كانت هاجسا مصدره نتيجة تطاول الحرب في سورية .. والحقيقة أن سورية هي التي كانت محور كل الانتخابات التركية وان لن يقل أحد ذلك ..
ولذلك دخل السعوديون بمالهم ودخل الايباكيون الاسرائيليون الخبراء في فن الانتخابات وأساليب سبر أغوار الكتل الانتخابية .. لأن المعركة مصيرية بالنسبة لهم .. وقد مارس مخططو الحملة الانتخابية نفس ألاعيب التخويف التي مارسها المحافظون الجدد أثناء انتخابات الولاية الثانية لجورج بوش عام 2005 دون زيادة أو نقصان .. حيث أظهر فجأة أسامة بن لادن في رسالة متحدية الى الجمهور الأميريكي يطلب فيها عدم التصويت لبوش لضمان أمنهم والا "فان الحرب ستستمر" .. وتبين لاحقا أن هذه الرسالة هي التي ساعدت بوش والجمهوريين في كسب الانتخابات ومعالجة التراجع الذي أصاب حملة بوش بعد فضيحة حربه في العراق حيث كثر اللغط الشديد حول شرعية الحرب وظهور كذب بوش في ادعاءاته حول أسلحة الدمار الشامل ودور صدام حسين في دعم القاعدة .. ناهيك عن وصول طلائع جثث الجنود الاميريكيين التي بدأت تشغل الرأي العام وتطرح أسئلة حول مغامرة بوش وادارته وأسباب استمرارها رغم عدم وجود أسلحة دمار شامل عراقية ..
الخوف والتحدي هو الذي استعملته الحملة الانتخابية الأميريكية لفريق جورج بوش بقيادة مدير الحملة "اليهودي كارل روف" الذي يلقب بـ (مخ بوش) لانجاح بوش في الدورة الثانية بعد أن كانت حظوظ الأخير متراجعة كثيرا وفق استطلاعات الرأي لصالح جون كيري الديمقراطي والذي خسر الانتخابات بشكل غير متوقع .. كارل روف لمس في سبره لأغوار المجتمع تراجع مستوى الخوف والقلق الذي أعقب أحداث سبتمبر وتراجع الثقة بجورج بوش والتشكيك بنزاهته .. فقرر احداث صدمة الخوف الثانية .. وكانت خطة كارل روف هي اثارة سلطان الخوف لدى الاميركييين من جديد .. الخوف من ترك الساحة لعدو اميريكا المتمثل بالقاعدة وبن لادن الطليق .. حتى أن لورا بوش ظهرت في الحملة الانتخابية وهي تقرأ من ورقة كتبتها لها ادارة الحملة وتحكي للناس كيف أنها عاشت طفولتها تتدرب على النزول الى الملاجئ وتترقب الانفجارات نووية وغيومها الفطرية .. أما اليوم فانها تعيش في أمان في عهد جورج بوش ونسيت تجربة النزول الى الملاجئ .. وقالت بأنها لاتريد النزول الى الملاجئ مجددا اذا مابقي بن لادن طليقا الذي قد يفجر أسلحة نووية لأن من سيصطاده هو جورج يوش الذي هزمه في أفغانستان ثم سجنه في مغارات تورا بورا .. واذا ماغاب بوش عاد بن لادن من تورا بورا ليضرب ثانية ..
وكانت نتيجة النصر الذي ساعد فيه خطاب بن لادن هو اقتحام الفالوجة واعلان شعار أجوف هو البقاء مئة سنة في العراق .. ولكن عمليا كانت الانتخابات نصرا شخصيا لبوش وهزيمة لمشروعه وكانت معركة الفلوجة آخر معاركه .. لأن طبيعة النقاش والجدل في الانتخابات كانت تقول بشكل لالبس فيه أن مرحلة بوش وطموحات المحافظين الجدد قد وصلت الى نهاياتها وأن الرئيس لم يحصل في الانتخابات على تفويض شعبي بتطوير الحرب بل بالبقاء عاقلا حيث هو وبتجنب المغامرات لأن نجاحه كان فقط بسبب الخوف من غياب عدو بن لادن والقاعدة وكذلك بسبب التحدي الذي طرحه تهديد بن لادن ..
وكما قلت فان بوش انتصر في الانتخابات ولكن مشروعه الطموح الامبراطوري انتهى في لحظة اعلان فوزه .. لأن الجدل الحاد حول الحرب أثناء الحملة الانتخابية كان يعني أنها انتهت كمشروع يتفق عليه الاميريكيون ويوحدهم حتى وان فاز بوش ثانية لأن نصف الشعب لايريده ولايريدها .. ولذلك كان بوش بعد فوزه في ولايته الثانية أكثر حصافة وأكثر حذرا رغم ادراكه أن أحمدي نجاد والرئيس بشار الأسد صارا يوجهان اللكمات العنيفة اليه في العراق دون مبالاة بغضبه حتى أذاقاه الاذلال ولكنه لم يجرؤ على المغامرة لأن الرسالة الانتخابية كانت واضحة بأنه وحزبه لم ينتخبا ليفوضا بقيام حرب ثانية .. ولذلك فانه حاول اطلاق حرب ثانية عن طريق اسرائيل عام 2006 دون أن يقدر أن يتدخل بنفسه ..
اذا النتيجة الحقيقية لتلك الانتخابات التي أجريت عام 2005 ظهرت عام 2009 والتي انتهت بخروج المحافظين الجدد وهزيمة مرشحهم جون ماكين ودخول عهد أوباما .. فالانتخابات الاميركية كانت حادة جدا وقسمت المجتمع الاميريكي الى نصفين تماما .. كما فعلت الانتخابات التركية التي يفهم منها أن المجتمع التركي انشطر تماما الى نصفين ..
الانتخابات التركية يمكن النظر اليها بنفس المقارنة بل ان التشابه بينهما كان مثيرا للدهشة .. فالدولتان أثناء الانتخابات متورطتان بحرب خارجية كبيرة .. وفي أميريكا كان هناك مشروع المحافظين الجدد المجنون الذي يقابله مشروع العثمانيين الجدد المجنون .. وكلا الحزبين الجمهوري الاميريكي وحزب العدالة والمساواة عاشا في فترة الانتخابات التوتر الانتخابي نفسه والجدل حول منطق الحرب ونتائجها وعدالتها والحكمة من تأجيجها .. كما أن استطلاعات الرأي رجحت تراجع شعبيتيهما قبل الانتخابات .. بوش في أميريكا واردوغان في تركيا .. والنتيجة الانتخابية في البلدين هي ذاتها فوز مشطور لأنه مشروط بعامل الخوف والقلق .. وربما وسط نفس المعطيات والظروف .. الانتخابات كانت انتصارا شخصيا للرجلين بسبب نفس اللعبة الانتخابية في اثارة سلطان الخوف .. والغريب الملفت للنظر هو أن كلا المشروعين كانا حول منطقة سورية والعراق .. وفي كلا الحربين كان هناك نفس اللاعبين .. سورية وايران .. وفي نفس الحربين كان هناك الرئيس بشار الأسد نفسه يواجه بوش وأردوغان .. الرئيس الأسد الذي كان شعبه ينتظر هزيمة بوش الانتخابية عام 2005 وأحس بخيبة أمل عند فوز بوش الثاني لأن فوزة يعني استمرار الحرب ومشروع المحافظين الجدد وربما تطورها .. وشعب الأسد اليوم يرى أردوغان يفوز بانتخابات كان السوريون يريدونها أن تكون نهاية لهذا الرجل المجرم الذي يشبه في سيرته جورج بوش .. لكن كلا الحربين (حرب بوش وحرب أردوغان) قد دخلتا مرحلة الخسارة والانحسار بعد نفس الانتصار الانتخابي الثاني وبعد أربع سنوات من خوض الحرب ..
لماذا بقي اردوغان؟؟
المال السعودي والخليجي دخل داعما قويا لحملة اردوغان كما صار معروفا ولكن التكنيك الانتخابي الايباكي الأميريكي كان له اثر واضح .. بل قال البعض ان كارل روف أو أحد معاونيه قد زار تركيا عدة مرات في الأشهر الاخيرة وقد نقلت توجيهاته ونصائحه (التي دفعت كلفتها السعودية كاملا) الى ادارة حملة أردوغان التركية الى مستوى القلق من عدم وضوح الرؤية بعد تفجيرات سوروج وأنقرة واندلاع الحرب مع الأكراد وتهديدات داعش .. والنتيجة هي أن المجتمع التركي صار منقسما بشكل حاد الى نصفين متساويين .. نصف مؤيد لأردوغان ويرى فيه رجل تركيا القوي المنقذ من القلق والذي يبعث العثمانية من رقادها .. ونصف معارض بشدة له ويراه مصدرا للقلق .. ولم يبق هناك لون رمادي تركي .. وهذا ماعكسه حجم الانفعال من جمهوره الذي بلغ حد الهستيريا بعد اعلان النتائج .. وهذا الاحتفال المبالغ فيه يعكس قلقا فائق الحدة من الخسارة ومن الغموض حول مصير البلاد اذا ماخسر زعيمهم .. وقد تفجر بانفعالات تعبر عن الخلاص .. ولكنها تعبر عن استقطاب حاد في المشاعر ..
بقي أردوغان لأن السعوديين والاميريكين والاسرائيليين يريدون بقاء أردوغان في هذه المرحلة لا لخوض حروب مباشرة ولامن اجل اجتياح سورية فهذا صار محالا بل من أجل استمرار الحروب اللامباشرة عبر ابقاء شريان داعش والتيارات الاسلامية التي تلعب دورا حيويا ومفصليا في مشروع أميريكا في الشرق الاوسط وفتوحاتها .. كما أن بقاءه سيشكل ازعاجا دائما للقيادة المصرية وتهديدا مستمرا لها اذا ماتمددت نحو الروس أكثر .. وسيبقى أردوغان دعامة معنوية للمعارضة السورية التي سيبقى لها أمل أنها عندما تفاوض السلطة فانها تستطيع الادعاء أن خلفها حزبا قويا تركيا ولديه تفويض لأردوغان بالمضي قدما في المشروع الداعم لها .. كما أنها تنتظر منه أن يعيق تحرير حلب عبر الزج بكل طاقته في دعم المسلحين ..وتحويله الى هراوة تهدد بنفاذ الصبر عند الحاجة ..
لكن أردوغان الآن وبخلاف مايمكن أن يتوقعه الانسان أضعف مما كان لأنه يعرف أنه مقيد بشعار الاستقرار وابعاد الخوف .. والنصر الانتخابي ليس تفويضا بتطوير الحرب ولا الدخول في مغامرات عسكرية بل بالانكفاء عنها .. حال تشبه حال جورج بوش بعد فوزه الثاني ..
ولكن مايخشى منه هنا هو أن الرجل يعرف أيضا انه مدين للمال السعودي والخبرة الايباكية في النجاح والبقاء على قيد الحياة السياسية .. وقد يكون ثمن ذلك دفعه أن يسدد الفاتورة بخلاف رسالة الناخبين .. فيقدم تحت الضغط الى الحد الذي يخطئ فيه جدا بحساباته .. وربما يتصرف باندفاع نحو تأجيج المواجهة مع السوريين بسبب الغرور والصلف الذي يقع فيه أمثال هؤلاء بعد انتصارات مفاجئة .. وسيكون مطلوبا من أردوغان التحرش بالسوريين واحراج روسيا وايقافها عند حدها في سورية عبر تسهيل عمليات مؤذية للروس وخوض حرب ضروس في شمال سورية عبر مجموعاته المسلحة .. ولكن الحقيقة التي ستواجهه هي أنه الآن في مواجهة روسيا في الجنوب التي وضعت أصفادا جوية في يديه .. كما ستكون معركة حلب القادمة قاسية جدا بسبب الفاعلية الروسية على المعارضة المسلحة والتي لن يمكن لها الانتصار الا بدعم مباشر تركي عبر الجيش التركي .. وهذا سيضع الجيش التركي في مواجهة الجيشين السوري والروسي اللذين يريدان حلب بأي ثمن .. وهنا لن يكون حصيفا أن يواجه اردوغان الغضب الروسي في حلب لأن قواته ستتعرض لأشرس الضربات داخل سورية وسينفجر الخوق والقلق الذي وعد باسكاته .. وهو لاشك يعرف أن حلف الناتو لن يقدم على مواجهة مع روسيا من أجل تركيا مهما كان وسيختلق الأعذار لتجنب ذلك طالما أن روسيا لاتغزو أرضه بل تضربه بعنف تحت الحزام .. وقد قال لي أحد المتابعين الغربيين بأن الناتو لن يبخل عليه بالمساعدة التقنية في حال مواجهة كهذه .. لكن حتما سيتجنب الدخول المباشر وخاصة مع روسيا وسيعتبر الصراع خارج ميثاق الناتو .. وسيتركه يحارب وحيدا .. واذا ماأخذ أي خيار بالتصعيد في الجنوب بوجود الروس فان كل الخوف بين الاتراك الذي ساعده في الوصول سيتحول بسرعة فائقة الى توتر بين النصفين المتناقضين .. اللذين لن يكونا مثل النصفين المتناقضين في اميريكا حيث هناك قوى عملاقة عميقة تتحكم بعواطف واعصاب المتخاصمين ..
ومع هذا فان أردوغان وان لم يقم بمغامرة غير محسوبة فانه في وضع لايستهان به .. فهو في جمهورية منقسمة على ذاتها كما كانت ولاية جورج بوش الثانية .. والتناقضات التي فجرتها الحرب السورية لن تهدأ بعد اليوم .. فقد صعدت الكردية التركية السياسية ولن تعود وستحمل معها حزب العمال الكردستاني تحت ثيابها .. وصعدت الى جانبها الطائفية السياسية والسنية السياسية .. وهذه توترات لاترحل بين عشية وضحاها في مجتمع مصاب بالعدوى العرقية والمذهبية .. الا بعد دفع ثمن باهظ ..
الانتخابات التركية التي كانت انتخابات عن سورية خيبت آمال البعض ولكن يجب أن تقرأ في سياقاتها الصحيحة .. وأن لاتفرح كثيرا المعارضين الذين فهموا الرسالة على انها انتصار تركيا الاردوغانية سلفا في الحرب في سورية وسارع البعض منهم الى اعلان اعتماد العملة التركية بدل السورية في الشمال حيث تسيطر المعارضة الموالية لتركيا .. وهي قراءة متفائلة للغاية .. وساذجة للغاية .. لأن نتيجة الانتخابات التركية الحقيقية يجب قراءتها في معركة حلب القادمة التي ستشق الشعب التركي اذا ماأخطأت حسابات اردوغان .. وهناك اما أن يسقط حزب العدالة والتنمية سقوطه الحقيقي واما أن تسقط كل تركيا .. في الفوضى .. نتيجة لتفكير حزب الفوضى .. حزب أردوغان ..
ان الانتخابات تعني لمن يشرحها تركيا مشطورة كما أن هناك رجلين انفصلا في شخصية رجب طيب اردوغان .. ولاأدل على ذلك مثل عبارة أن "رجب فاز بالانتخابات .. فيما خسر أردوغان مشروع تركيا العثمانية" ..