درجت الموضة مؤخرا، على الاستخفاف بأي حديث عن الموآمرة، وأن كل مصيبة تصيب الشعوب لا تأتي من الخارج حكما. لا أحد يقول غير ذلك، ولكن بما أن كل مسألة في أي بلد فيه مصالح يعتبرها الغير مفيدة له، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، فلا يمكن فصل ما هو محلي عما هو إقليمي ودولي. لبنان له تاريخ من التدخل الدولي جماعيا أو إفراديا. وفي كل مرة يوجد هناك في الداخل من يتعامل مع الإقليم أو الخارج، بغية حماية نفسه تجاه المكونات الاخرى أو تجاه قوى إقليمية أو خارجية، بفعل عدم تكون دولة ثابتة، مؤسسة على شعب ذو ميول سياسية واحدة.
ما يمر به لبنان اليوم هو شبيه بما مر به على مر العصور، تنافس في تدخل أجنبي لحماية المجموعات التي يتكون منها الشعب اللبناني، حسب الشعار المعلن.
سيقول قائل فرنسا لا تتدخل اليوم مع طرف ضد طرف، بل هي تحاول دعم الشعب اللبناني، والجواب أن الدول ذات الأطماع الأقليمية والأجنبية لن تترك الميدان حرا للفرنسيين، ستتدخل علنا بعد أن كان تدخلها سرا نوعا ما، وسريعا سيوجد لكل دولة من يتشبث بأذيالها.
الأزمات الداخلية المتلاحقة منذ ما بعد الطائف، والذي كان يفترض أن يضع نظاما جديدا للبنان، مهدت الطريق للتدخلات الأجنبية من جديد. صحيح أنه لا يمكن الكلام عن دولة مؤسسات فعلية في لبنان، غير أن المنظومة الحاكمة كانت تدبر الامور، كي يستمر سكوت الناس التي تغتنم الفرص بين الحروب كي تعيش، وطالما أن الناس متلهية بهمومها المعيشية، يخلو الجو لمكونات المنظومة بالبقاء في السلطة، ونهب موارد البلد وهي آمنة على وضعها من الحساب والعقاب.
ما وصل اليه الوضع حاليا من تأزم على كل الصعد الأمنية والمعيشية، واختلاف الرؤى السياسية، والتجاذبات الخارجية، سيفسح المجال أمام المكونات السياسية المختلفة بأن تصنع لنفسها نوعا من الاستقلال الذاتي، على نحو ما كان سائدا خلال الحرب الأهلية. ما يشير إلى رغبة الفرقاء في ذلك هو تباطؤهم في الوصول إلى حل يخرج البلاد من الأزمة، أو عدم اتفاقهم على ذلك، مما يوحي بأن هناك اتفاقا ضمنيا غير معلن بالوصول إلى نوع من فدرلة الدولة. السبب في عدم إعلان ذلك من أي جهة هو الخوف من ردة فعل الناس.
ما نقوله هو تصور مبني على ما يحصل في الواقع، والأيام ستثبت ذلك، إذا لم يحصل تدبير ما يوقف هذا السير نحو فرض نوع من التقسيم الاداري السياسي، فاذا كان يراد أن يبقى لبنان كدولة، سيكون التقاسم محدودا، واذا لم يرد ذلك، فإن كل قسم سيضم إلى دولة من دول الجوار لأن الطوائف ذات السياسات المتعاكسة لن يكون بمقدورها أن تنشأ دولا مستقلة، على الأقل من ناحية مساحة الإقليم الجغرافي، حيث أن لبنان بأكمله لا يساوي سوى ١٠٤٥٢ كلم مربع.