يواجه لبنان حالياً تحديات من نوع مختلف، ليست مرتبطة فقط بوضعه الداخلي، إنما بوقائع واستحقاقات إقليمية ودولية، هي بمثابة زلزال جيوسياسي ضرب المنطقة مركزه في بيروت وارتداداته على مساحة الإقليم، ويمكن أن يوصف في علم السياسة والعلاقات الدولية بالحدث الذي يراد منه نتائج حرب إقليمية واسعة بأبعاد دولية لم تقع، أقلها إعادة رسم نظام إقليمي يؤسس لتوازن دولي مفترض، وهو أمر يعمل عليه منذ بدايات الألفية الثالثة، من خلال محطات مختلفة في خلال العقدين المنصرمين.
زلزال بيروت، أعاد إنتاج تموضع دولي شرق أوسطي لم تشهده المنطقة ولبنان منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، وما أعقبه من قوات متعددة الجنسيات تموضعت في لبنان وأخرجت عنوة لكنها أسست لأحداث كبرى ، يقال إن تفكك الاتحاد السوفييتي وتداعياته آنذاك كان نتاج المواجهات الكبرى السوفييتية الأمريكية في الشرق الأوسط وتحديداً لبنان، وكان أبرز نتائج تلك المرحلة مؤتمر مدريد للسلام 1991وما أعقبه من اتفاقيات سلام عربية إسرائيلية. اليوم تتحضر المنطقة لوقائع متشابهة ومتماثلة مع ظروف تلك الفترة ومن البوابة اللبنانية تحديداً، حيث بدأت ملامح الشد والجذب الإقليمي والدولي تتضح بهدف الوصول لأحداث كبرى تنتج وقائع محددة تسهم في تحريك ملفات كبرى من بينها مشاريع السلام العربي الإسرائيلي.
فمنذ خمسينات القرن الماضي ولبنان ظل محوراً وساحة مركزية لإدارة أزمات المنطقة، باعتباره ساحة تمتلك وسائل وأدوات ضغط فعّالة وباتجاهات متعددة ومختلفة. وما يجري حالياً يؤسس لمرحلة حاسمة في مسارات عدة، سيكون لبنان أحد أذرعها الرئيسية التي تتطلب مواقف محددة غالباً ما اختلف حولها اللبنانيون، والتي كانت سبباً رئيسياً لمحطات احتراب طويلة في تاريخه الحديث والمعاصر، فهل سيتمكن لبنان من مجاراة هذه الوقائع وما تفترض من مواقف، أو بالأحرى هل له القدرة على تحديد ما يريد؟ في المبدأ لم يكن لبنان في يوم من الأيام طرفاً رئيسياً مقرراً فيما يجري فيه وفي المنطقة، واختلفت نسبة تأثيره باختلاف العديد من العوامل الداخلية والخارجية، فيما هو اليوم يمر بأصعب الظروف الحالكة منذ نشأته قبل مئة عام، وضع اقتصادي ومالي سيئ جداً يقترب من الانهيار الشامل، ظروف اجتماعية يتفشى فيها الفقر والعوز والبطالة، وسط نظام سياسي يتآكل بفعل أزماته الوطنية المتلاحقة وآخرها استقالة الحكومة في ظروف لا إجماع وطني على الكثير من القضايا التي تتطلب إجابات ومواقف واضحة.
لبنان اليوم مطالب بمواقف وإجابات عن أسئلة كبرى تتحضر لها منطقة الشرق الأوسط، بدءاً من صراعات ممتدة لأكثر مـــن قرن، مروراً بتحديات اقتصادية إقليمية لها علاقة بالموارد الطبيعية وموقعه ودوره فيها، وصولاً إلى نظامه السياسي الهجين الذي يبدو أنه قد يتآلف مع العديد من الأنظمة الفيدرالية التي بدأت تتشكل ملامحها في المنطقة كالعراق واليمن وسوريا وغيرها العديد من الدول التي تتوفر فيها ظروف الفيدرالية والتي لم تعلن بعد. إضافة إلى موضوع الحياد الذي لا تتوفر شروط تبنيه ونجاحه حتى الآن إقليمياً ودولياً.
قبل مئة عام تجمعت ظروف إقليمية ودولية وتقاطعت مصالح أدت إلى إنشاء ما سُمي بدولة لبنان الكبير بإخراج دولي وأممي، جمع بين طياته تناقضات بدت متآلفة حول مسائل محددة حكمت استمرارها عوامل كثيرة، مع دوام تسجيل اختلالات كثيرة أيضاً، واليوم ثمة حشد دولي حوله وفيه غير مسبوق لجهة الإعداد والخلفيات والأبعاد، إذ يقدر وجود أكثر من ألف محقق ينتمون لعشرين دولة، وسط حشود عسكرية تتحضر للمشاركة واقعياً عبر بوابة الإعمار والمساعدات وغيرها. فهل سيتمكن اللبنانيون هذه المرة من اقتناص الفرص لتقطيع الوقت والخروج بأقل الخسائر الممكنة؟ أم سيكونون مثل العادة وقوداً وغطاءً لمشاريع كبرى لن يكونوا مؤثرين فيها؟.