بقلم: الدكتور محمود حمد سليمان
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 11-06-2020 - 1373 إذا نحن تعمقنا في حضارات الأمم والشعوب، قديمها وحديثها، فسنجد أن لكل حضارة سماتها ومميزاتها الخاصة بها، وهي حضارات متباينة في منطلقاتها وخلفياتها وأهدافها .. فهناك حضارة وثنية وهناك حضارة عسكرية أو عنصرية أو مادية، أو اقتصادية، أو ما أشبه.. بخلاف معظم حضارات العالم تقوم الحضارة العربية على فضائل النفس ومكارم الأخلاق .. وهي فضائل ومكارم رافقت الإنسان العربي ولازمت الأمة العربية منذ بدء تكوينها وعلى مرّ العصور والأزمان .. ومنها : الكرم، والشجاعة، والمروءة، والشرف، والوفاء، والإخلاص، والصدق، والصبر، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، وحماية الجار، وعزة النفس .. وإلى ما هنالك من قيم عربية ومُثـُل عُليا حفلت بها قصائد الجاهليين وخطبهم وأقوالهم وأمثالهم .. حتى إذا جاءت المسيحية ثم الإسلام فقد رسَّخا هذه القيم وأضافا إليها قِيماً ومُثلاً أخرى جديدة، ومن أهمها : ولهذا كان قول السيد المسيح :" ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان" 1 ولهذا أيضاً كان الحديث النبوي : " إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق" 2 علماً أن هذا التشذيب وهذا الترسيخ وقعا في نفسية عربية خام لم تلوّثها أدران حضارات سابقة، ولم تزغلها أفكار فلسفات وعقائد راسخة .. فكان العرب كما وصفهم القرآن الكريم : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ..)3 وحين وصف النبيّ الكريم قال:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وعليه، فإن هذه القِيم هي المساحة الانسانية الجامعة التي حملتها حضارتنا للناس كافة، ولذلك فإننا لا نكاد نرى مكرمة من المكرمات إلا ولها إشارة في الإنجيل أو في قول من أقوال السيد المسيح .. ولعلَّ الوصايا العشر تعبِّر تعبيراً دقيقاً عن هذا التوجه وهذه المنطلقات : وكلُّها كما نلاحظ، تهدف إلى تهذيب النفس بأوامر ونصائح تحضُّ على بناء الإنسان بناءً فاضلاً وصالحاً في إطار إنساني شامل .. وفي الوقت نفسه، فلن نجد فضيلة من الفضائل إلا ولها صدى في آية قرآنية أو أكثر، وفي غير حديث من الأحاديث النبوية الشريفة كقوله تعالى في عزة النفس : وقد ترد أكثر من فضيلة في آية واحدة كقوله : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)13 وكثيرة هي الآيات، في المسيحية والإسلام، التي تحدثت عن الأمان، والرحمة، والمودة، والإحسان، والصبر، والبِرِّ، والمعروف، والوحدة، والحرية، والمحبة، والسلام . ولعلنا نلاحظ أن أغلب هذه الفضائل مرتبطة مباشرة بالله سبحانه وتعالى وبالإيمان به، ثم أنّها مقدَّمة في إطار إنساني شامل .. ومثل هذا وذاك نجده أيضاً في الحديث النبويِّ وفي سيرته، صلى الله عليه وسلم، كقوله في الكرم : ولقد استوعب الصحابة الأوائل هذه الأهداف الحضارية للرسالة فعضّوا عليها بالنواجذ ومارسوها ممارسة عملية في مختلف الظروف والأوضاع .. فها هي أمُّ المؤمنين السيدة خديجة تصف الرسول (ص) فتقول : وهذا عمربن الخطاب ينتصر لكرامة القبطي مِن والي مصر وابنه، ويطلق صيحته الشهيرة : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحرارا " (23) .. وها هو يؤدِّبُ أحدَ الشعراء ويسجنه لأنه قال : " دعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها .." ولم يطلق سراحه إلا بعد أن أخذ عليه عهداً بعدم التعرض للفضائل ولأعراض الناس..(24) وهذا الإمام عليّ تجمَّعتْ فيه الفضائل والمكارم قولاً وعملاً .. نظريةً وتطبيقاً، حتى لقد جمع له العلماء العديد منها فألـَّفوا فيها كتباً عديدة، منها : فضائل أمير المؤمنين لإبن حنبل، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي، وعمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار لإبن بطريق .. ونحن لو أخذنا ما فعله الإمام بواقعة واحدة لأغنتنا عن كثير من فضائله التي لا تُعدُّ ولا تُحصى .. والواقعة هي أنه والزهراء وخادمتهما كانوا صائمين وليس عندهم من الطعام سوى ثلاثة أقراص مشويِّة من الطحين .. وقبيل موعد الإفطار طرق البابَ مسكينٌ يطلب طعاماً فدفعوا إليه بأحد الأقراص .. وما لبث أن جاءَ بعده طارق يقول إنه يتيم جائع، فدفعوا إليه بالقرص الثاني .. ليعقبه ثالث يقول بأنه أسير محرر وغريب، فدفعوا إليه بالقرص الثالث .. وهكذا أفطروا على الماء ليس إلا .. وفي عصور لاحقة، كان تطبيق العدل هو سِمة القضاء حتى ولو على صاحب السلطان نفسه، فهؤلاء هم أهالي سمرقند يشكون قائد الجيش "قتيبة بن مسلم" إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز لأن الجيش دخل مدينتهم عنوة وغدراً ودون تفاوضٍ أو سابق إنذار، فاحتكم الخليفة إلى القاضي "جميع بن حاجي الباجي" الذي قضى بإخراج الجيش من سمرقند .. فخرج .26 وفي العصر العباسي ، يحكم القاضي المشهور "أبو يوسُف" على الخليفة المهدي في قضية اغتصاب رجال المهدي لصالحه بستاناً لرجل نصراني .. فلما حضر الخليفة مجلس القضاء أو ما نسميه اليوم قاعة المحكمة، فقد استمع القاضي لحجة الطرفَيْن فرأى أن البيِّنة مع الخليفة ولكنه في قرارة نفسه كان مقتنعاً بأن الحق للرجل .. فطلب من الخليفة أن يحلف بأن شهوده صادقون .. فأبى . وعندها أصدر حكمه بإعادة البستان إلى النصراني .28 وفي قضية أُخرى، فلعل قصة القاضي "أبي يوسف" نفسه والوزير الأول لهارون الرشيد "الفضل بن الربيع" تحمل في طياتها دلالة هامة على قول كلمة الحق حتى ولو خالفت رأي الحاكم أو مصلحته .. لقد ضجت بغداد يومها بخبر أن " أبا يوسف" ردَّ شهادة "ابن الربيع" ورفض الاستماع له في قضية أمامه .. مع ما يعنيه ذلك من تأثير سلبي على الخليفة نفسه .. ومرت الأيام حتى التقى الخليفة بأبي يوسف صدفةً فسأله عن سبب رفضه الاستماع لشهادة الوزير الأول، فأجاب : يا أمير المؤمنين، لقد سمعتـُه مرة في مجلسكَ يقول لكَ : أنا عبدك .. فإن كان صادقاً فلا شهادة لعبد .. وإن كان كاذباً فلا شهادة لكاذب ..29 وهذا القاضي "خير بن نعيم" قاضي مصر، يأتي إليه رجلان يتنازعان في جمل تبايعاه واكتشف الشاري علة فيه بعد أن كان قد دفع ثمنه .. وإذ كان الوقت مع صلاة المغرب فقد أجَّلَ الحُكْمَ في المسألة إلى صباح الغد. وبسبب هذا التأجيل فقد حكم القاضي على نفسه بثمن الجمل للشاكي لأن الجمل مات ليلاً وقبل معاينته.30 هذا غيضٌ من فيض المكارم والفضائل التي قامت عليها أسسُ حضارتنا العربية منذ فجر التاريخ والتي شكَّلت بدورها رافداً إنسانياً راسخاً للبشرية جمعاء، كما قلنا سابقاً. ولو نحن أسهبنا في رصد مثل هذه القبسات في تاريخ أمتنا لاحتجنا إلى مجلدات ومجلدات ولن نستطيع الاحاطة بها كلَّها .. وحسبنا ما تركته الحضارة العربية من تأثير في الانسانية جمعاء .. ولعل الدليل الأبرز أن دساتيرَ وقوانينَ العالم كله مستمدةٌ من روحية هذه الفضائل وأحياناً بحرفيتها، وفي طليعة ذلك قوانين ومبادئ الأُمم المتحدة وغيرها من المنظمات والجمعيات الدولية والإنسانية .. ناهيك عن تأثر المجتمعات البشرية كلها بهذه القيم في العادات والتقاليد والسلوك والمفاهيم . وما تجب الإشارة إليه هو أن فضائل النفس ومكارم الأخلاق شكَّلت في الوقت نفسه أهم مميزات وسمات هويتنا العربية الإنسانية المؤمنة، ولذلك كان التعبير دقيقاً في الوصف عندما نقول : "العروبة الحضارية" التي تجرَّدتْ من الكره والتعصُّب والعنصرية والعرقية والامتيازات القومية كما هي عليه الحال في الفكر القومي الأوروبي والغربي بشكل عام . وهذا ما عناه الحديث النبوي بقوله، عليه السلام : " أيها الناس، إن الربّ واحد والأبَ أبٌّ واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان، فمن تكلَّمَ العربية فهو عربي "31 وهكذا نرى كيف جرَّدها من التعصب العرقي والعنصرية، وجعلها قائمة على الأخوَّة الانسانية الشاملة .. ولأن العرب هم المكلفون بحمل هذا النهج وهذه الفضائل فقد خصَّهم بمكانة مميزة فقال : " أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي "32 وقال : "حبُّ قريش إيمان وبغضهم كفر، وحبُّ العرب إيمان وبغضهم كفر، فمن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني " 33 وأخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سلمان؛ لا تبغضني فتفارق دينكَ . قلتُ : يا رسول الله كيف أبغضك وبكَ هدانا الله..!؟ قال: تبغضُ العرب فتبغضني " قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد . وهكذا نرى أنه عليه السلام، أضاف إلى الدعوة الحسنة محاسن الدعاة لها وصِلتهم به رابطاً بين الدعوة والدعاة للمساهمة في تقبُّلِها عند الشعوب الظامئة للحق والخير والعدل والحرية والسلام .. في المعمورة كلها . إننا ونحن نكتب هذه الدراسة ونستخلص هذه النتائج، نشعر، في الوقت نفسه، بالأسى عندما نلاحظ هذا التراجع الرهيب لهذه الفضائل والقيم في نفوس بعض الناس في مجتمعنا، وفي علاقاتهم وتصرفاتهم ومواقفهم .. والممارسات . وهو ما يدفعنا إلى تساؤلات لاعدَّ لها ولا حصر.. أين هي عزة النفس، عندما ينتخب البعضُ منا الفاسقَ والفاجرَ والسارقَ .. من أجل حفنة من المال لا تغني ولا تسمن متنازلاً عن كرامته التي جبله الله عليها..!؟ وربما يبرر فعلته هذه بالفقر والعوز .. وكأن المقترع لم يسمع بقوله تعالى : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) 34 أين هو العدل عندما ينتظر القاضي أوامر الحاكم لكي يحكم بالقضايا والمسائل التي أمامه وكأنه لم يسمع بقوله تعالى : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ ) أين هو الإيمان الحقيقي وبعض الناس ينخرُ عقولَهم الاصطفافُ الطائفي أو المذهبي أو العشائري أو المناطقي .. وكأنهم ما سمعوا بقوله تعالى:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) 35 أين هي الأمانة وبعض التجار ورجال الأعمال وأكثر الحاكمين يكدِّسون الأموال المنهوبة والمسلوبة وكأنهم ما سمعوا بقول السيد المسيح : ( مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ) 36 أين نحن من الوحدة الوطنية والوحدة العربية .. وهذه التجزئة والإنقسامات هي المولـِّد لكل ضعفنا وهواننا وهمومنا .. والمشاكل بل أين .. وأين .. وأين نحن من فسادٍ يعشعش في دوائرنا .. وجهلٍ يتفشى في مؤسساتنا .. ورياء وكذب ونفاق .. وكله يسود في علاقاتنا وتصرفاتنا ومسلكياتنا .. والأساليب . ولو نحن استطردنا في التفصيل لرأينا هذا التراجع في كل فضيلة ينتشر كالوباء المعدي عند غير فئة وفي غير منطقة وناحية .. وعليه، فإن تمسكنا بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا الحضارية المميزة يُفضي بنا إلى الحفاظ على قوتنا ومكانتنا وهويتنا وبالتالي، على مصالحنا ودورنا الإنساني الرائد بين الأُمم والشعوب .. وَلْيَعُد كيد الكائدين إلى نحورهم .. وما الله بغافل عما يعملون . خلاصة القول، إن المسيحية والإسلام شكّلا رافداً حضارياً واحداً استهدفا به الإنسان في كل أرجاء العالم . ولقد صبَّ هذا الرافد في بحر الإنسانية جمعاء وأنتج في نهاية المطاف حضارة عالية الأفنان، وارفة الظلال، راسخة الجذور، إنسانية التوجه والمنطلقات والأهداف ..
....................................................... الحواشي 1- إنجيل متى،4/11 ؛ سفر التثنية الإصحاح الثامن
لا يوجد صور مرفقة
|