التلاعب بالمياه تكلف مصر وجودها على الخريطة وهى سابقة خطيرة. فإصرار الحكومة المصرية على تجنب الاعتماد على الحقوق القانونية المستندة إلى ترسالة قانونية معتبرة يعرض مصالح مصر المائية لخطر محقق ويطرح فكرة التحالفات السياسية. فى هذه المقالة أوضح أن مصر لا يجب أن تترك تحت رحمة الدول التى تسقط فيها الأمطار حيث يجري نهر النيل لأن كل هذه الدول سوف تتحالف ضد مصر وإفنائها ونظرا لعامل الوقت الحاسم، فقد أضاعت مصر وقتا تمنيا جدا أملا في غير محله فى تعاطف إثيوبيا، فإذا بها تفاجأ بموقف السودان الذى نسق مع إثيوبيا وإسرائيل. والحق أن قضية المياه يجب أن تؤخذ بكل الجدية. ولا شك أن عدم الاعتماد على حقوق مصر القانونية يعرضنا لتقلب أمزجه الدول النيلية وأخطرها السودان ذلك أن السودان يمكن أن تسير مع أثيوبيا مدعومة من إسرائيل خاصة بعد تفاهم البرهان نتانياهو فى التخلى عن معاهدة 1959 الخاصة بتقسيم حصة المياه بين البلدين. والمسألة ببساطه هى أن أثيوبيا والسودان وغيرها من الدول التى تنوى بناء سدود على أعالى النيل لا تكترث بالقانون الدولى الذى لا تتمسك به الحكومة المصرية فى معالجتها للأزمة وهذه المعالجة يغلب عليها عدم الجدية بما لا يتناسب مع الخطورة وضغط عامل الوقت خاصة وأن جفاف النيل لن يعوضه أى بدائل مما تطرحه الحكومة المصرية منذ عام 2014 وربما كان هذا الموقف هو الذى دفع كل هذه الدول إلى الاستخفاف بمصر بل وتحديها علنا ولذلك فإن أمننا المائى مهدد بشكل دائم.
فالاعتماد على القانون الدولى وهو لصالحنا يحقق أربعة مزايا: الأولى هى أننا لسنا فى حاجة مطلقة إلى تحالفات سياسية وإنما تسند هذه التحالفات سلامة موقفنا القانونى. فالسودان هام للأمن القومى المصرى بالتأكيد ولكن تقلب المصالح والنظم أو عدم الاهتمام لدى مصر أحيانا، يمكن أن يجعل موقف السودان متقلبا، فهى حرة فى أن تنحاز إلى إثيوبيا سياسيا، ولكن السودان إن نحن ارتكزنا على القانون سيكون انحيازه إلى إثيوبيا مشاركة فى انتهاك القانون الدولى والميزة الثانية هى أن ارتكازنا إلى القانون يجبر السودان على احترام اتفاقية 1959، خاصة وأن إثيوبيا تحرض السودان على الانفلات منها، وهى لم تعترف بها وتعد عقد مصر والسودان هذا الاتفاق دون التشاور مع دول حوض النيل سابقة تعتمد عليها فى سلوكها ضد مصر فى سد النهضة. ولكن الاتفاق أبرم بين طرفين لاقتسام المياه التى تؤول إليهما من بقية دول المنابع، فهو لايؤثر على أحد ولا يحتاج عقده إلى التشاور مع أحد.
والميزة الثالثة لارتكازنا إلى القانون هى ترسيخ هذه الحقوق قبل الجميع بدلا من الدخول فى منازعات مع دول المنابع إذا فكرت أن تقيم مشروعات من شأنها أن تؤثر على حقوقنا المائية.
الميزة الرابعة هى أن مصر هى دولة المصب الوحيدة ولاتشاركها السودان فى هذا الوضع، فهى دولة وسيطة بين منبع ومصب، ثم أن بالسودان موارد مائية خاصة. ودولة المصب دائما هى أضعف أطراف النهر الدولى، ولذلك خصها القانون الدولى للمياه بضمانات قوية تجبر هذا الضعيف وهذه الضمانات هى خمسة الأولى هى أن دولة المصب لاتحصل على أى ميزه بسبب موقعها على النهر والثانية هى أن توزيع مجمل المياه فى النهر الدولى يتم وفق معايير محددة ليس من بينها موقع الدولة على النهر ووضعها كدولة مصب أو غيره والضمانة الثالثة هى أن النهر كله مصلحة مشتركة لاملكية لأحد فيه والكل ملزم بالاستخدام الرشيد لمياهه والتعاون لمكافحة التلوث وفى مشروعها تنمية وتطوير موارد النهر أو حصته من المياه.
والضمانة الرابعة هى التزام دولة المنبع بالتشاور والتعاون مع بقية الدول خاصة دولة المصب إذا كانت مشروعاتها المزمعة يحتمل أن تؤثر سلبا على حقوقها المائية أو على سلامة المياه أو تلوثها ولابد أن تعرض كل المعلومات عن هذه المشروعات وألاتبدأ فيها إلا بعد موافقة صريحة من دولة المصب واشتراط هذه الموافقة لايمس سيادة دولة المنبع وإنما هو امتثال لأحكام القانون الدولى العرفى فى قضايا الأنهار الدولية. وإذا تذرعت إثيوبيا بأنها ليست طرفا فى اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 الخاصة بالاستخدامات غير الملاحية للمجارى المائية الدولية، فليست ملتزمة بأحكامهاكما أن مصر ليس من حقها التمسك بهذه الحقوق/ الالتزامات فيها مادامت ليست طرفا هى الأخرى فيها/ نقول أن محكمة العدل الدولية أكدت أن الالتزام بالأحكام الواردة فى هذه الاتفاقية لايشترط أن تكون الدولة طرفا فيها، كما أنه لايلزم لمصر أن تكون طرفا حتى تستفيد من ضماناتها لدولة المصب. وقد فصلنا ذلك فى كتابنا حول "الحماية القانونية لحقوق مصر المائية فى نهر النيل فى القانون الدولى".
أما الضمانة الخامسة فهى أن الدول الكبرى والبنك الدولى يمتنعان عن تمويل أية مشروعات لدول المنابع مالم تتم موافقة دولة المصب عليها.
وإذا كانت مصر أفرطت فى حسن الظن بأثيوبيا وتجاهلت النذر وظلت حتى الآن تتصور أن المجاهرة بحسن النية يحرج إثيوبيا دوليا فهى سذاجة سياسية دعونا إلى تغيير الموقف منها فى هذه القضية الخطيرة التى لا تحتمل مثل هذا السلوك.