بقلم: منير شفيق ✅
استعرض مقالات الكاتب | تعرف على الكاتب 09-01-2020 - 1368 من يدقق في موقع أمريكا في ميزان القوى العالمي من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انتهاء الحرب الباردة، يجد فرقاً شاسعاً بين موقع السيطرة العالمية الذي تمتعت به أمريكا مقارناً بين تلك المرحلة، وموقعها المتراجع في المرحلة الراهنة. يمكن إلقاء الشكوك على وضع أمريكا في ميزان القوى ما بين 1991-2010، وذلك بدحض القول بأن نظاماً أحادي القطبية قام تحت رايتها خلال العقدين المذكورين. فالظاهر الذي بدا كأن نظاماً أحادي القطبية قد تشكل مع سقوط القطب السوفييتي، لم يكن يعكس حقيقة ميزان القوى العالمي، لأن أمريكا، مع انهيار حلف وارسو، وما حل في الصين من متغيرات، أصبحت أعجز من أن تقيم نظاماً أحادي القطبية تحت قيادتها، وذلك بسبب عدم تمكنها من السيطرة على كل دول العالم. فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي صارت أمريكا أضعف وليس أقوى، بالرغم من انفرادها بالقوة الأولى عسكرياً واقتصادياً. ففي مرحلة الحرب الباردة والصراع بين القطبين كان لديها حلفاء أقوياء تحت أمرها، وكانوا بحاجة ماسة إليها خوفاً من الاتحاد السوفييتي: أوروبا الغربية واليابان وعدد كبير من دول آسيا وأمريكا اللاتينية. ولكن بعد خروج الاتحاد السوفييتي ومعسكره من المعادلة نشأ وضع حرر أولئك الحلفاء من الخوف والخطر. بل نشأ وضع عالمي يبدو في الظاهر أنه أحادي القطبية، ولكن من دون نظام دولي أحادي القطبية، وذلك بما يشبه الوضع العالمي الراهن. فعدم وجود نظام دولي يعني الانفلات والانفلاش والفوضى والسيولة. فالنظام يعني الضبط، ويعني أن كل دولة تعرف موقعها وحدودها، كما تعرف إن كانت داخل النظام أو خارجة على النظام إن كان قائماً ومكرساً. فما بين 1991-2010 كانت أمريكا الدولة الكبرى رقم 1، ولكنها كانت أقل سيطرة ونفوذاً على سياسات الدول، ولا سيما الدول الكبرى أو الكبيرة أو الإقليمية. فمنذ 1995 أخذت تخرج من فرنسا وروسيا والصين همهمات الحديث عن تعدد القطبية. ولكن الأهم جاء بعد 2000، حيث اختطت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين سياسة استعادة قوة دولتها داخلياً وعسكرياً، متذكرة أنها ما زالت تملك النووي وإمكانات نقله حيث تشاء. ثم جاء بروز الصين خلال العشر سنوات 2000-2010 اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً.. وكذلك الهند. وقد برزت دول إقليمية مثل إيران وتركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل، ودعك مما بلغته المقاومتان اللبنانية والفلسطينية من قوة. لقد جاءت هذه التطورات في ظل السيولة وعدم السيطرة والتحكم الأمريكيين على العالم، وإلاّ كيف يمكن تفسيرها؟ إن السنوات العشر الأخيرة (2010-2020)، أكدت بما لا يقبل الشك أن أمريكا فقدت مكانتها التي تمتعت بها بالسيطرة على الوضع العالمي في المرحلة ما بين 1945 و1991، طبعاً منقوصاً منه ما كان يعتبر المعسكر الاشتراكي وإلى حد ما بعض دول حركة عدم الانحياز. من هنا جاء رفع الكونغرس، بتوصية من وزارة الدفاع، الميزانية العسكرية إلى 738 مليار دولار لمواجهة ما حققته روسيا، وإلى حد ما الصين، من تطوير للأسلحة الصاروخية المتفوقة على سرعة الصوت. وأشار ترامب إلى ضرورة بناء القوات الفضائية، الأمر الذي يعني أن أمريكا تواجه سباقاً خطيراً في التسلح في مواجهة روسيا والصين. أما من الناحية السياسية، فالصورة أشد وضوحاً من حيث انفراط سيطرتها على حلفائها السابقين وانفلات قوى دولية وإقليمية، من سماع تهديداتها، أو الرضوخ لضغوطها. وهنا يمكن أن يسجل توتر علاقاتها بتركيا، ولا سيما بسبب صواريخ "إس 400" الروسية، فضلاً عن التوتر بخصوص قضية الجيب الكردي في شمالي سوريا. بل يمكن أن يسجل أن إدارة ترامب دخلت في "حروب" اقتصادية مع اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وعدد من الدول الأوروبية. فمن يتابع مواقف أغلب دول العالم من سياسات ترامب يستطيع أن يلمس ما أصاب السياسة الأمريكية من ضعف وتدهور وارتباك. ثم هنالك الحرب الاقتصادية والسياسية التي تخوضها أمريكا ضد إيران، وقد ترجمت نفسها بضرب حصار خانق إلى الحد الأقصى كما يسميه ترامب، وذلك بسبب ما تشكله السياسة الإيرانية في تطوير برنامجها الصاروخي البالستي وقدراتها التكنولوجية من خطر محدق بالكيان الصهيوني، إلى جانب دعمها للمقاومات في لبنان وفلسطين، وما امتلكته المقاومتان اللبنانية والفلسطينية من قدرات صاروخية وعسكرية وتكنولوجية. فأمريكا هنا في مأزق، لأن الحصار لم يأت بالمنشود منه، وإن كان مكلفاً بالنسبة إلى إيران. وهي كلفة محمولة، بالرغم من قسوتها، فيما الأسباب التي أدت إلى الحصار راحت تتفاقم بما يهدد بانقلاب في ميزان القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني، كما لم يحصل منذ سبعين عاماً. على أن نقطة القوة بالغة الأهمية التي ما زالت أمريكا تمتلكها وتسيطر من خلالها، أو تستخدمها، لتمرير تهديداتها وضغوطها، فهي دور الدولار باعتباره عملة التداول العالمي، وذلك إلى جانب سيطرتها الراجعة إلى المرحلة من 1944-1991، وقد تمثلت بالسيطرة على البنك الدولي والمؤسسات المالية والنظام المصرفي العالمي (اتفاقية بريتون وودز "WoodsBretton" 1944، وقرارات نيكسون 1971، وقرارات 1973 ضد ديغول). إن مفتاح القضية التي تواجه الشعوب تتجسد في هذه المرحلة في ضرورة تحرير العالم من الدولار الذي حل مكان الذهب غطاء للعملات الدولية والتجارة الدولية. وهو ما راحت تسعى لتحقيقه عدة دول في العالم، وفي مقدمها مجموعة البريكس. لقد أصبح من الضروري إيجاد بدائل تغني عن احتكار الدولار باعتباره العملة الوحيدة في المعاملات التجارية الدولية، وفي التحكم في المؤسسات المالية العالمية، وحل محل الغطاء الذهبي للعملات المحلية عملياً. وهو ما تناولته قمة كوالالمبور، التي عقدت ما بين 18-21 كانون الأول/ ديسمبر 2019، في إحدى جلساتها التي ناقشت بدائل للتبادل التجاري بين الدول الإسلامية. وقد اعتبر مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا، أن الاستمرار في استخدام الدولار سيكون "الخطر الذي يمكنه أن يلحق الضرر بنمونا الاقتصادي"، فيما قدم الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني اقتراحاً للتعامل بعملة "كريبتو" الرقمية الموحدة "بين الدول الإسلامية عوضاً عن الدولار الأمريكي"، وذلك إلى جانب اقتراحات أخرى. وبهذا تكون قمة كوالالمبور قد أضافت جهداً مقدراً في ما بدأته مجموعة بركس لإيجاد بديل للدولار، ولا سيما بتشكيل بنك بريكس برأس مال 100 مليار دولار، وقد أصبح أهم منافس للبنك الدولي. وبالمناسبة، لقد آن الأوان لإخراج الدولار من الدور الذي قررته له معاهدة بريتون وودز "WoodsBretton" عام 1944 وما تلاها من خطوات. وكان ذلك بسبب موقع أمريكا في ميزان القوى مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبعدها. ولهذا فإن ما راح يصيب موقع أمريكا من تراجع في ميزان القوى العالمي الراهن أصبح يوجب تحرير العالم من هيمنة الدولار، بل ويسمح بذلك.
لا يوجد صور مرفقة
|